تظل الحجة الاقتصادية لصالح الهجرة مقنعة بقدر ما كانت في أي وقت مضى. في الواقع، تشير أبحاث حديثة إلى أن التكاليف التي تخلفها سياسات ترمب المناهضة للهجرة على النمو ستجعل التكاليف المرتبطة بالتعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية الحالية تبدو بمرور الوقت ضئيلة للغاية. وإذا ما استمرت الاتجاهات...
بقلم: كينيث روغوف
كامبريدج ــ أصبحت الهجرة خط الصدع المركزي في السياسة المعاصرة. ويتجلى هذا بأكبر قدر من الوضوح في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث أصبح الخطاب عبثيا على نحو متزايد.
بيد أن الاقتصاديات الأساسية هنا واضحة وصريحة بشكل لافت للنظر. فمعظم الاقتصادات المتقدمة تشيخ بسرعة، ومع الانحدار الديموغرافي يأتي تقلص القوى العاملة. وفي حين قد تخفف الأتمتة (التشغيل الآلي) والذكاء الاصطناعي من بعض هذه الضغوط، فلن يتسنى لأي منهما تلبية الحاجة المتنامية بسرعة إلى العاملين في مجالات مثل الرعاية الصحية ورعاية المسنين أو أن يكون بديلا عن المعلمين، والسباكين، وآخرين لا حصر لهم من العاملين الذين لا تزال وظائفهم تعتمد على اللمسة البشرية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
على النقيض من ذلك، يتمتع العالم النامي بإمدادات هائلة من العمالة ولكن ليس القدر الكافي من الوظائف الجيدة لاستيعاب هذه العمالة. في أفريقيا وحدها، من المتوقع أن ينضم أكثر من 600 مليون شخص إلى السكان في سن العمل في ربع القرن القادم. وعلى المستوى العالمي، يقترب الرقم من مليار شخص.
والنتيجة البطالة المزمنة بين صفوف الشباب والتي ستفضي بكل تأكيد إلى تأجيج حالة انعدام الاستقرار السياسي والصراعات الأهلية في عدد كبير من البلدان المنخفضة الدخل. وتتفاقم هذه الضغوط بفِعل تغير المناخ، الذي من المتوقع أن يؤثر بأكبر قدر من الشدة على الاقتصادات النامية ويسرع من تدفقات الهجرة إلى البلدان الأكثر ثراء.
لطالما زعم أهل الاقتصاد أن تخفيف القيود المفروضة على التنقل عبر الحدود يجلب فوائد هائلة لكل من بلدان المقصد وبلدان المنشأ. ومع ذلك، من غير الممكن أن يدرك المرء هذه الحقيقة في خضم من ردود الفعل العنيفة المناهضة للهجرة التي تجتاح العالم المتقدم الآن. في ألمانيا، ربما كان القرار الذي اتخذته أنجيلا ميركل باستقبال مليون لاجئ سوري في عام 2015 هو القرار الأقل شعبية خلال فترة ولايتها كمستشارة للبلاد والتي دامت ستة عشر عاما، مهما بدا شجاعا من الناحية الأخلاقية في ذلك الوقت.
كان الإحباط إزاء تزايد أعداد السكان المهاجرين من القوى الرئيسية وراء القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة في عام 2016 بالخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي المجر، بنى رئيس الوزراء فيكتور أوربان علامته السياسية على منصة متشددة مناهضة للهجرة، والتي تحولت إلى منارة هادية للمحرضين المنتمين إلى اليمين المتطرف مثل تاكر كارلسون.
كان مسار أميركا على مدار العقد الأخير مثيرا للقلق بشكل خاص. تاريخيا، كانت قدرة البلاد على اجتذاب الطموحين من مختلف أنحاء العالم واحدة من أعظم مواطن قوتها، حيث كانت تغذي النمو الاقتصادي، والإبداع، والحيوية الثقافية. وكانت الجامعات الأميركية، على وجه الخصوص، مواقع جذب للمواهب العالمية، فاجتذبت الطلاب اللامعين الذين يأتون ليس فقط لتلقي تعليم عالي الجودة ــ وإن كان باهظ التكلفة ــ بل أيضا لبناء حياة ومسيرة مهنية في الولايات المتحدة. وقد آتى هذا النهج ثماره بشكل جيد، حيث أن ما يقرب من نصف شركات فورتشن 500 (Fortune 500) أسسها مهاجرون أو أبناؤهم.
لكن هذه الركيزة من الديناميكية الأميركية باتت الآن عُرضة لخطر الانهيار. فقد أغلقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحدود بشكل فعّال وجعلت من المداهمات وعمليات الترحيل التي تنفذها إدارة الهجرة والجمارك (ICE) مشهدا علنيا، وذلك ظاهريا لعكس ما يسمى بسياسة "الحدود المفتوحة" التي اتبعها الرئيس السابق جو بايدن.
ربما ساهمت الصور الصادمة لمهاجرين فنزويليين متهمين بارتباطهم بعصابات وهم يرحلون إلى مركز احتجاز الإرهاب السيء السمعة في السلفادور ــ حيث قيل إنهم تعرضوا لمعاملة وحشية وغير إنسانية ــ في الانخفاض اللاحق في عمليات عبور الحدود غير الشرعية. لكن مسرح القسوة هذا أدى أيضا إلى شَـلّ الهجرة القانونية، وبالتالي تثبيط أعداد كبيرة من الأشخاص المهرة والطموحين الذين طالما دعموا الإبداع والنمو في الولايات المتحدة.
كانت حملة إدارة ترمب على الطلاب الأجانب مدمرة بشكل خاص. في إحدى الحالات الذائعة الصيت، انتُـزِعَت طالبة عمرها 19 عاما تدرس في Babson College وصلت إلى الولايات المتحدة من هندوراس في سن السابعة من طابور أمني في مطار لوجان في بوسطن. وبدلا من أن تسافر إلى تكساس كما كان مخططا، احتُجِزَت وأُرسِلَت، على الرغم من أمر المحكمة الفيدرالية بعدم ترحيلها من ماساتشوستس، إلى منشأة تابعة لإدارة الهجرة والجمارك، ثم جرى ترحيلها إلى هندوراس، وفصلها عن والديها اللذين بقيا في الولايات المتحدة.
من المؤكد أن سياسات عهد بايدن تسببت في زيادة كبيرة في الهجرة غير الشرعية في حين عملت على تضييق السبل القانونية للدخول المفيد اقتصاديا. بين عامي 2020 و2024، دخل ما يقرب من 11 مليون مهاجر إلى الولايات المتحدة ــ ونظرا للأعداد الكبيرة التي عبرت مساحات غير خاضعة للمراقبة من الحدود الجنوبية، فقد يكون الرقم الفعلي أعلى كثيرا. بطبيعة الحال، جاء نهج بايدن في حد ذاته كاستجابة للقيود التي فرضها ترمب خلال فترة ولايته الأولى، وهذا يوضح كيف تأرجحت سياسة الهجرة الأميركية بشدة بين النقيضين بدلا من أن تتلاقى على استراتيجية متماسكة.
في ظل الانقسامات المترسخة والخلل الوظيفي في واشنطن، تُصبِح فرص إقرار الكونجرس لمشروع قانون إصلاح الهجرة من جانب الحزبين الجمهوري والديمقراطي ضئيلة للغاية. وتَظـهَر ديناميكيات مماثلة في قسم كبير من العالم المتقدم، حيث تكافح كل من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة لدمج أعداد أقل كثيرا من المهاجرين الذين تختلف تقاليدهم الثقافية بشكل ملحوظ عن تقاليد معظم المواطنين المولودين في البلاد.
على هذه الخلفية القاتمة، تظل الحجة الاقتصادية لصالح الهجرة مقنعة بقدر ما كانت في أي وقت مضى. في الواقع، تشير أبحاث حديثة إلى أن التكاليف التي تخلفها سياسات ترمب المناهضة للهجرة على النمو ستجعل التكاليف المرتبطة بالتعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية الحالية تبدو بمرور الوقت ضئيلة للغاية. وإذا ما استمرت الاتجاهات السياسية الحالية، فمن المرجح أن تتسع الفجوة بين الأساسيات الاقتصادية والاختيارات المرتبطة بالسياسات، وهذا كفيل بجعل البلدان المتقدمة غير مستعدة بدرجة مؤسفة للتحديات التي تنتظرها.



اضف تعليق