ان الكيمياء ليست علمًا نظريًا جامدًا، بل هي الحياة نفسها؛ فهي تدخل في علاج معظم المشاكل الصحية، وتمثل أساسًا للتكنولوجيا الحديثة وعمودًا فقريًا للعلوم الأخرى. ومن خلال بحثي أردت أن أُظهر كيف يمكن للكيمياء التناسقية والليكندات العضوية أن تُسهم في تصميم مركبات جديدة قد تكون بدائل فعّالة للمضادات الحيوية...

في عالم الكيمياء حيث تمتزج الدقة بالتجريب، والخيال بالواقع، تبرز أبحاث تفتح الأفق نحو حلول دوائية وعلمية لمشكلات العصر. من بين هذه الأبحاث، رسخت الباحثة تحرير غياث مجيد اسمها عبر رحلة ماجستير حملت عنوان: "تحضير وتشخيص ليكاندات عضوية ثنائية الأزوميثين والعديد من معقداتها المخلبية مع الدراسة البكتيرية لها"، في قسم الكيمياء، كلية التربية للعلوم الصرفة، جامعة كربلاء.

ليست مجرد دراسة أكاديمية اعتيادية، بل محاولة جريئة لاستثمار التقاء الكيمياء العضوية والكيمياء التناسقية والتطبيقات الحيوية في إنتاج مركبات قد تمثل الجيل القادم من المضادات الحيوية. بحثها يكشف كيف يمكن لليكاند صغير أن يصبح بوابة لاكتشافات كبيرة، وكيف تترجم الروابط الكيميائية إلى إمكانيات علاجية ملموسة.

في هذا الحوار، نقترب أكثر من تفاصيل هذه التجربة البحثية، بين دوافع الاختيار، والتحديات التي واجهتها، والنتائج التي أفرزتها، والطموحات التي تقود الباحثة نحو المستقبل. لنكتشف معًا كيف تتحول جزيئات غير مرئية إلى مفاتيح محتملة لعالم دوائي جديد.

ما الذي دفعكِ لاختيار موضوع الليكندات العضوية ومعقداتها ليكون محور رسالتكِ للماجستير؟

اخترتُ هذا الموضوع لأنه يجمع بين الكيمياء العضوية والكيمياء التناسقية والتطبيقات الحيوية، مما يفتح المجال لتصميم مركبات جديدة ذات فعالية دوائية قد تكون بدائل مستقبلية للمضادات الحيوية.

كيف كان دور التوجيه الأكاديمي في تحديد مسار البحث؟

كان له دور محوري، فقد وجّهني أساتذتي لاختيار الليكندات المناسبة والتقنيات التحليلية الأكثر فاعلية، مما اختصر عليَّ الكثير من الوقت والجهد.

 كيف تفسرين العلاقة بين البنية الكيميائية لليكندات والشكل الهندسي للمعقدات الفلزية؟

البنية الكيميائية لليكند تحدد مواقع التناسق وعددها، وهذا بدوره يؤثر في الشكل الهندسي للمعقد. فالتفرعات والحلقات العطرية مثلًا تؤثر على استقرار المعقدات وطبيعة الروابط.

أي معقد لفت انتباهكِ أكثر من غيره من حيث الفعالية البيولوجية؟ ولماذا؟

لفت انتباهي بشكل خاص معقد الخارصين لليكند الأول، حيث أظهر أعلى قيمة تثبيط مع كل من بكتيريا الإشريشيا كولاي (E. coli) والبسيدومونس (Pseudomonas) والستافيلوكوكوس (Staphylococcus)، بالإضافة إلى فطر الكانديدا (Candida albicans).

كما أن نتائج المعقدات بشكل عام، سواء لليكند الأول أو الثاني، بيّنت فعالية جيدة ضد الأنواع الأربع من البكتيريا الموجبة والسالبة لصبغة غرام وكذلك ضد فطر الكانديدا، وكانت النتائج أفضل مقارنةً بالعقار المرجع البكتيري (الأموكسيسيلين) والعقار المرجع الفطري (الفيورانازول).

لكن بشكل أوضح، كان لكل من معقد الخارصين لليكند الأول ومعقد النحاس لليكند الثاني التأثير الأقوى والأكثر تميزًا في النشاط البيولوجي، مما يجعلهما مرشحين واعدين لمزيد من الدراسات المستقبلية.

 ما أهمية اختبار المعقدات ضد بكتيريا موجبة وسالبة لصبغة غرام، وكذلك ضد الفطريات؟

هذا التنوع ضروري لأن جدار الخلية في البكتيريا الموجبة والسالبة مختلف، مما يؤثر على نفاذية المركب. كما أن اختبار الفطريات يوسع آفاق الاستخدام المحتمل كمضاد ميكروبي شامل.

 ما الصعوبات التي واجهتكِ في تشخيص المركبات باستخدام التقنيات الطيفية والمغناطيسية؟

واجهتُ عدة صعوبات خلال مرحلة التشخيص؛ منها تداخل بعض الإشارات الطيفية مما استلزم إعادة القياسات أكثر من مرة للوصول إلى نتائج دقيقة. كما أن محدودية الإمكانات التحليلية المتوفرة في بعض جامعاتنا شكّلت عائقًا، الأمر الذي دفعنا أحيانًا إلى إرسال العينات لإجراء التحاليل في دول مجاورة، لضمان الحصول على النتائج في فترة زمنية قصيرة نظرًا لالتزامنا بوقت محدد لتسليم الرسالة. هذا بدوره أضاف أعباء مالية مرهقة على الطالب، وهو جانب آخر من التحديات التي رافقت البحث.

 برأيكِ، أي تقنية أعطتكِ نتائج أكثر وضوحًا ودقة؟

في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على تقنية واحدة فقط، فجميع التقنيات كانت ضرورية ومتكاملة للتأكد من صحة تكوين الليكندات والمعقدات المحضّرة وتشخيصها بدقة. كل تحليل أثبت جانبًا محددًا من هذه المركبات؛ فمثلًا:

FTIR كان له الدور الأساسي في التأكد من تكوين رابطة الأزوميثين (–C=N–) في الليكندات، كما أظهر الانزياحات المميزة لهذه الرابطة عند تكوين المعقدات، بالإضافة إلى ظهور قمم جديدة مثل رابطة الفلز–نيتروجين التي تؤكد عملية التناسق بين الليكند والفلز.

UV-Vis ساعد في توضيح الانتقالات الإلكترونية ودعم الاستنتاج حول الشكل الهندسي للمعقدات.

التحليل المغناطيسي كان مهمًا في تحديد الطبيعة البارامغناطيسية أو الديامغناطيسية للمعقدات، وبالتالي إعطاء تصور أوضح عن تركيبها الهندسي. وكذلك بقية التحاليل.

وبالتالي، فكل تقنية جاءت مكملة للأخرى، مما منحنا صورة متكاملة ودقيقة عن البنية الكيميائية والتناسقية للمركبات المحضّرة.

 برأيكِ، كيف يمكن لنتائج بحثكِ أن تسهم في إيجاد بدائل مستقبلية للمضادات الحيوية؟

لأنها تثبت أن دمج الليكندات مع الفلزات يعزز النشاط الحيوي، وبالتالي يمكن استثمار هذه النتائج لتطوير أدوية جديدة فعّالة ضد السلالات المقاومة للمضادات.

 في توصياتكِ، ذكرتِ دراسة الآلية الحيوية للمعقدات. ما الفرضيات الأقرب لتفسير طريقة عملها ضد البكتيريا؟

أقرب الفرضيات أن المعقدات ترتبط بالـDNA أو تعطل إنزيمات حيوية، أو تُحدث اضطرابًا في غشاء الخلية مما يسبب موت البكتيريا.

 إلى أي مدى يمكن أن يضيف اختبار MIC وMBC/MFC قيمة أكبر لنتائجكِ؟

سيضيف قيمة كبيرة لأنه يحدد التركيز الأدنى المثبط أو القاتل، وهو ما يمنح نتائج كمية دقيقة يمكن مقارنتها مع المضادات الحيوية القياسية. 

من بين الفلزات المقترح دراستها مستقبلًا، أيها تتوقعين أن يعطي نتائج واعدة؟ ولماذا؟

من الفلزات الواعدة مستقبلًا:

الروثينيوم (Ru): لخصائصه الدوائية وقدرته على تكوين معقدات فعّالة حيويًا، خصوصًا في التداخل مع الأحماض النووية والإنزيمات.

الفضة (Ag): نشاط مضاد للبكتيريا والفطريات قوي، ويمكن أن تمنح معقدات فعالية عالية.

النحاس (Cu): أظهر نتائج ممتازة بالفعل في دراستي، ومن المتوقع أن يواصل إعطاء نتائج إيجابية.

الزنك (Zn): سمية منخفضة نسبيًا وفعالية جيدة، مناسب للاستخدامات البيولوجية.

الذهب (Au): خصائص مضادة للسرطان والبكتيريا، رغم تكلفته العالية.

البلاديوم (Pd): قدرة على تكوين معقدات مستقرة مع الليكندات وفتح مجال لدراسات حيوية جديدة.

تنويع الفلزات ودراسة معقداتها مع الليكندات المختلفة يمنح فهمًا أوسع للعلاقة بين البنية الكيميائية والنشاط الحيوي، وقد يؤدي إلى مركبات جديدة واعدة.

ما أصعب لحظة مررتِ بها أثناء إنجاز الرسالة، وكيف تجاوزتها؟

كانت لحظة فشل إحدى التجارب بعد عمل طويل، لكن بدعم أساتذتي وإعادة تنظيم خطة العمل تمكنت من تجاوزها وتحقيق نتائج مرضية بتوفيق الله وتسديده. 

 من كان له الدور الأكبر في دعمكِ خلال هذه الرحلة البحثية؟

الارادة والاصرار والتوكل على الله في كل خطوة واليقين من توفيق الله وتسديده ولأسرتي التي كانت السند الأكبر بالدعم النفسي، وأساتذتي كانوا الدليل العلمي الذي وجهني في كل مرحلة.

 إذا أُتيح لكِ استكمال دراستكِ للدكتوراه، ما المجال أو الفكرة التي تحلمين بالعمل عليها؟

أطمح أن أستكمل دراستي في مجال تصميم وتحضير معقدات فلزية جديدة ذات تطبيقات متعددة. فمن الناحية الحيوية، أسعى إلى تطوير مركبات ذات فعالية أقوى كمضادات للبكتيريا والفطريات، مع دراسة معمّقة لآليات عملها. كما أرغب بالتوسع نحو تطبيقات أخرى مثل الخصائص المضادة للأكسدة (antioxidant activity)، التي قد تفتح المجال لاستخدام المركبات في حماية الخلايا من الأكسدة المرتبطة بالأمراض، ودراسة الخصائص البصرية (optical properties) لهذه المعقدات لتطبيقها في الاستشعار الحيوي أو التطبيقات الضوئية-الإلكترونية. بهذا يكون البحث جامعًا بين التطبيقات الطبية والفيزيائية، مما يزيد من قيمته العلمية والعملية.

ما الرسالة التي تودين إيصالها من خلال بحثكِ إلى المجتمع العلمي والطبي؟ 

رسالتي أن الكيمياء ليست علمًا نظريًا جامدًا، بل هي الحياة نفسها؛ فهي تدخل في علاج معظم المشاكل الصحية، وتمثل أساسًا للتكنولوجيا الحديثة وعمودًا فقريًا للعلوم الأخرى. ومن خلال بحثي أردت أن أُظهر كيف يمكن للكيمياء التناسقية والليكندات العضوية أن تُسهم في تصميم مركبات جديدة قد تكون بدائل فعّالة للمضادات الحيوية أو أدوات في التطبيقات الطبية والتكنولوجية المستقبلي.

وهكذا تكشف رحلة الباحثة تحرير غياث مجيد أن البحث العلمي ليس مجرد صفحات تُكتب أو تجارب تُجرى، بل هو إصرار على تجاوز التحديات وتحويل الفكرة إلى إنجاز ملموس. فبين معادلات الكيمياء وأجهزة التشخيص، وبين ساعات العمل الطويلة والدعم الذي لاقته من أساتذتها وأسرتها، وُلدت رسالة ماجستير تحمل بين طياتها بذور أمل لمركبات دوائية جديدة قد تغيّر مستقبل العلاج.

إن هذا الجهد العلمي يذكّرنا بأن الجامعات ليست فقط مؤسسات تعليمية، بل مصانع للفكر ومشاتل للإبداع، وبأن طالبًا واحدًا مؤمنًا ببحثه قد يفتح بابًا واسعًا أمام اكتشافات يحتاجها المجتمع العلمي والطبي. وما بين الحاضر وما يحمله المستقبل من طموح لاستكمال دراستها في الدكتوراه، تبقى هذه التجربة شاهدًا على أن الكيمياء، بكل ما تحمله من دقة وتجريد، يمكن أن تكون لغة للحياة والأمل.

اضف تعليق