يقدم (غوستاف لوبون) في كتابه (روح الثورات والثورة الفرنسية) تصورات تتعلق بتهيئة الأفكار للمستقبل، من خلال استلهامه للمعطيات الثورية للثورة الفرنسية، ومدى القبول والرفض لهذه المعطيات، بين من يعتقد بضرورة التحليل الدقيق لكل هذه المعطيات، وبين من يراها عقيدة يجب التمسك بها كونها "حادثاً أخرج فرنسا "من طور الهمجية وظلم الأشراف، ولا يزال يعتقد كثير من رجال السياسة أنه لولا نشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أُجراء عند الأمراء الاقطاعيين"1.
ويبدو أن (لوبون) أراد الاستفهام بشكل يقترب من الواقعية عن الأثر الذي يترتب على الثورات ومنها الثورة الفرنسية، لكن مثل هكذا استفهامات قد تواجه بسيل من الانتقادات اللاذعة، والتي تأخذ شكل الانفعال أكثر من التحليل، كما عرض هو نفسه في كتابه لرأي (إميل أوليفيه) الذي عارض الكتاب واصفاً المؤلف بأنه من النائحين على اندلاع الثورة، ثم يشكر أوليفيه الثوار الذين أنقذوه بصفته من الطبقة الوسطى من عنائه ويقدم لهم التهنئة حتى مع اعترافه بأخطائهم وزلاّتهم.
وهنا، وعند الحديث عن النتائج المستقبلية للثورات على المستوى البعيد؛ قد يعاد الحديث عن جدوى ما يُعرف بـ (ديموقراطية السلاح) حيث الانقلابات التي يحدثها العسكر في البلدان، هذا التصور لايشمل مقاربتنا مع حالة "الربيع العربي"، وهذا قد يكون متعلقاً بنا في الشرق بصورة أشمل وأعمق مما هو عليه في أوروبا، الأمر الذي يجعلنا نستعير تصورات (لوبون)؛ بهدف الوصول لفهم يساعد في إنتاج أفكار جديدة وناضجة وغير انفعالية، تستند إلى واقع الثورات الحاصلة في بلداننا؛ حتى نستطيع تقديم تصوراتنا الخاصة نحو الواقع ومشكلاته، خصوصاً بعد موجة التذمر السريعة التي استتبعت حدوث الربيع الثوري بشكل غريب، حتى صار التذمر علنياً يتمركز في المقاهي وندوات المثقفين، حيث القناعة بأن هذه الثورات ماهي إلا (كعكات) تتقاسمها الأحزاب التي ركبت موجة الربيع متقنعة بخريفها الإيديولوجي المتعكز على الشعارات القديمة المتبلدة، وهو ما قد يولد حالة من الحنين الارتدادي لأوضاع ما قبل الثورة التي أزالت نظاماً وجاءت بآخر من دون رؤية أو برامج.
وفي فصل من فصول الكتاب، يناقش (لوبون) طريقة الحكومات في التعاطي مع الثورات، كما ناقش أسباب سقوط الحكومات السريع جراء الثورات والذي لخصه بـ "العدوى النفسية الناشئة عن طرق النشر والإذاعة في الوقت الحاضر، ومما يقضي بالعجب ضعف مقاومة الحكومات لها، فذلك يدل على عجزها عن الاطلاع على حقائق الأمور وكشف عواقبها"2
صحيح أن الكتاب يستشهد بالثورة الفرنسية، إلا أن كثيراً من جزئياته تصلح للمقاربة مع واقع الثورات الحاصلة في بلداننا، ومنها هذه الجزئية التي يرى المؤلف أن الحكومات لم تنتبه أو انها عاجزة عن ادراك عواقب عدم اصغائها لمطالب البسطاء، وهذا عين ما حدث في بلداننا حين ظنت الحكومات أن خدر الشعوب سيستمر ببعض قشور الحرية المستوردة من ليبرالية الغرب، فجاءت الأحداث بما لاتشتهيه الحكومات حيث السيل الجماهيري الهادر، والذي بدأت شرارته من حادثة تعززت بمنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه النقطة عبر عنها المؤلف بـ "العدوى النفسية الناشئة عن طرق النشر"، معناه أن استعداداً ذهنياً ونفسياً كان مكبوتاً فانفجر في الوسائل التواصلية، وانتقلت عدواه إلى بلدان كثيرة، تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وأجزاء من السعودية وسوريا، قبل أن تتدخل السياسة والمصالح في بلدان لحرف مسارات الاحتجاج، بينما تم تنحي الأنظمة في تونس ومصر بعد أن أدرك رئيسا البلدين عجزهما عن فهم عواقب الأمور، وبعد إجراءات قمعية ــ مصر تحديداً ــ اضطرا للتنحي ليدخلا بلادهما في متاهات ما بعد الثورة وأبعادها المستقبلية، وهو ماناقشناه في الجزئية الأولى من كتاب (غوستاف لوبون) هذا.
في الفصل الأول من الباب الثاني المتعلق بـ (النفسية التي تسود الثورات) ينفذ المؤلف إلى قضية في غاية الأهمية وهي تبدل أحوال رجال الثورة أو رجال التغيير على المستوى النفسي والشخصي بعد أن ينجح المسعى الثوري التغييري، كمظهر من مظاهر رد الفعل العاطفي تجاه الأوضاع الجديدة التي وجدو أنفسهم فيها، فتنتج مرحلة حكمهم التي لا برامج فيها ولاتخطيط حقيقي مزيداً من الأحقاد التي تأخذ أشكالاً عرقية ومذهبية، وتأخذ كذلك حالة من الحسد لرجالات التغيير الذين تبدلت أحوالهم فيما الوضع الاقتصادي لعامة الناس في أردأ حالاته؛ وقد يكون ذلك بسبب خوف من المستقبل الغامض لهم بصفتهم حكاماً، فالشجاعة الثورية، ومواجهة خطر التمرد بصلابة؛ يزولان عند أول اختبار لوضع ما بعد الثورة أو التغيير، خصوصاً في حال كانت نفسية الثوريين ميّالة للنفسية الدينية؛ لأن المنطق الديني كما يراه (لوبون) مشبعٌ بالعواطف، ما يعني انها قد تكون مضطربة وتتغير بتبدل المراحل والظروف.
والمقاربة هنا قد تنطبق على حالة التغيير في العراق أكثر من حالات بلدان "الربيع العربي"، حيث تبدلت أحوال رجال التغيير، وأكثرهم ممن يندرجون في خانة النفسية الدينية، فصارت فترة حكمهم التي أبدلت أحوالهم تؤرق أكثرهم، فالفارق الاقتصادي طفح كثيراً بينهم وبين بقية الطبقات التي يفترض أنهم ناضلوا من أجل الدفاع عن مظلوميتها، وهي ذاتها الطبقات التي انتفضت ضدهم بعد أن رحبت بهم وأوصلتهم لمراتبهم هذه بانتخابات.
في الجزء الثالث من الكتاب، والمخصص لانتشار المبادىء الثورية في الوقت الحالي، يتطرق المؤلف إلى قضية تقدم العقائد الثورية المتأثرة بالثورة الفرنسية، وما نتج عنها من تقدم وصفه بالبطيء للديموقراطية حتى مع قصر المدة التي كانت الثورة فيها حاكمة، حيث يرى (غوستاف لوبون) أن تأثير مبادىء الثورة كان تأثيراً طويلاً قياساً بقصر الفترة التي حكمت فيها؛ معللاً ذلك بأن تلك المبادىء صارت جزءاً من العقائد التي حددت مسارات للأجيال القادمة.
وعندنا في الشرق، ثمة تمضي سلحفاة الديموقراطية في سيرها البطيء سواء كان البطء نتاج ثورات "الربيع العربي" أو نتاج التغييرات الحاصلة سياسياً أو عسكرياً، لكن السؤال الجوهري والمهم: هل ستبقى تأثيرات هذه الثورات في الأجيال القادمة، وتشكل ــ كما الثورة الفرنسية ــ جزءاً من عقيدة التطلع للحياة بذهنية ثورية أو تغييرية؟
لا أحب أن أكون متشائماً حتى مع جوابي بالنفي.
اضف تعليق