الشعور بالعزلة والغبن فخ أزلي.. تنزلق إليه النفس الخاوية.. أما النفس الممتلئة المدعومة بالثقة ومآثر تحقيق الذات.. فإنها تنحو صوب الفاعلية والتآلف مع المحيط البشري بمراتبه من الأدنى الى الأعلى.. من العائلة الى المحيط الأكبر "المجتمع".. فتشعر بالإشباع النفسي والمعنوي.. ولا يدنو منها الشعور بالاحتقار أو الاستخفاف الذي يحاصر الشاب المهمل من عائلته ومحيطه الأكبر ربما "بلا قصدية".. فيندفع باحثا عن البدائل.. وحين لا يعثر عليها.. سوف يجد في العزلة والتكاسل ملاذا له.

ولكن أي ملاذ يمكن أن تقدمه حالة الانعزال التي تداهم الإنسان وهو في عز شبابه؟.. ماذا يفعل لمعالجة واقعه.. كيف يديم مسيرته في لجّة محيط يحاصره بالتجاهل والتهميش.. في مرحلة الشباب يحصل البشر على أكبر منسوب من الطاقة.. يجتهد لكي يفرّغها فيما يليق من حقول تعود عليه بالدعم وزيادة الدوافع.. ماذا يفعل عندما لا يعثر على ما يستوعب طاقاته.. كيف يجد حلاً وهو يغوص من أخمص قدميه إلى قمة رأسه في لجّة الإهمال.. تكبله البطالة وتسحقه آفة الشعور بالغبن والعزلة.

في آخر دراسات حول النشاط البشري الفردي من المبتدأ حتى النهاية.. وجد دارسون أن حالة الاهتمام بالإنسان.. تبقى عامل دعم حاسم للنجاح منذ الولادة حتى الموت.. فماذا يحدث حين تداهم الإنسان دوّامة مزمنة من التعويق؟.. فحين يحلّ ضيفا على الأرض.. سوف يؤدي المحيط العائلي دوره بآلية غريزية "الرضاعة وحنان الأم الغريزي".. ثم يُلفَظ الطفل في محيط أكبر "كالمدرسة وأطفال المنطقة السكنية" لتبدأ سلسلة من الإحباطات المتتالية.. مفادها عزلة متفاقمة وشعور نفسي ممضّ بالتهميش.

عزل الشاب تعني دفعه نحو حافة الجفاف الفكري.. ليرتع في مستنقع اللامبالاة.. فهو نتيجة لعزله وشعوره المتنامي بالإهمال.. سوف يبقى في حالة من الدأب المستدام.. للعثور على ما يعوّض كينونته وفاعليته.. فينحو صوب المناطق الرخوة.. نعني بهذا أن الشاب سوف يجد في "سلوك القطيع/ وهو من المناطق الرخوة" خلاصاً من العزلة.. وبهذا ستكون الخسائر التي يتعرض لها الشاب والمجتمع مضاعفة في هذه الحالة.

فحين يتم إفراغ العقل الشبابي من الفكر الجاد.. وإحاطته بالسطحي.. ودفعه بمعول التهميش ليقع في بؤرة " السلوك الجمعي الأعمى".. هنا سوف يتعرض المجتمع الى خسارة كبرى.. حين يتحول شبابه من محورية العقل المفكر.. الى سطحية البديل المتراخي حيث الكسل وانطفاء التفكير.. والبحث عن بديل سهل.. حتى يتخلص الشاب من عبء التأمّل والابتكار والفاعلية.. وهذه كلها سوف يعثر عليها في باحة " سلوك القطيع" الواسعة.

سؤالنا الذي لا مجال لإهماله.. هل تنحصر الخسارة الكبيرة في أعلاه بالشاب وحده.. أم هناك خسائر جانبية أو شمولية تمتد الى أبعد من حدود الشباب.. ألا يمكن أن يتعرض المجتمع الأكبر الى خسائر غير منظورة.. وهل ستنعكس على حقول ومناطق وعناوين أخرى.. فتستقطب خسائر أشمل وأكبر.. وأخيرا هل ستتوقف سلسلة الإحباط المتراصّة والمتتالية وراء بعضها؟.

يُقال أن أكبر الحرائق تبدأ بشرارة صغيرة ربما لا ترى بالعين.. ولكنها قد تتحول الى محرقة كبرى.. الشيء ذاته سوف يحدث مع عزل الشاب ودفعه نحو صومعة خاصة به.. ما يؤدي بالنتيجة الى تذويبه "عقلا وتفكيرا وشخصية" في محيط أوسع.. أُطلق عليه تسمية "القطيع" وهو كذلك بالفعل.. فحينئذ يندثر دور العقل الفردي المبتكر.. ليزدهر لعقل الجمعي المتسرّع كبديل له.. ذلك العقل "السطحي المحكوم بالعاطفة" والذي ينشط ويتحرك في دائرة رد الفعل الآني.. لا يشذبه التفكير العميق ولا توجهه بوصلة الاعتدال.. فيولد كأنه مسخ متعجّل دائما.. تتلاعب به العاطفة الجمعية كيفما تشاء.

منذ متى كان سلوك القطيع وتفكيره بعيدا عن العاطفة.. كلمة هنا تذهب به شمالا.. وكلمة هناك تذهب به يمينا.. فيكون أسير الأصوات الإعلامية المعرضة.. تلك التي لا تعبأ إلا بمن يدفع لها.. ولا يعنيها حاضر الدولة والمجتمع من بعيد أو قريب.. فبعض تلك الوسائل تعتاش على إحباط الشباب.. ودمجهم في تفكير سطحي جمعي.. وتسعى ما أمكنها ذلك ناحية تحييد العقل الشبابي المتوقد الفاعل والقادر على أن يكون "داينمو" الشرائح الأخرى.. يمدها بالحماس والفاعلية.. ويبث فيها روح لا يدنو منها اليأس أو التلكؤ الفكري.

بالمحصلة النهائية.. تبقى الحاجة الى العقل الشبابي المثابر حاجة أزلية للمجتمع.. وقد تتحول شريحة الشباب إلى مساحة مفتوحة للصراع مع السلطة.. حين تنتهك الحقوق وتشن حربا مزدوجة "خفية ومعلنة" على الشعب.. وتستهدف بالأخص الطاقات الشبابية.. فتحد منها عبر دمجها بالقطيع "المدجَّن" بوساطة قتل روح الابتكار في روحها.

هنا سوف تكون الحرب معلَنة.. طرفاها السلطة القاهرة من جهة والشعب بشبابه وشرائحه الأخرى من جهة ثانية.. فيلزم إدارة دفة هذا التناقض الذي يرتفع الى مستوى الصراع بقوة شبابية مدرَّبة واعية.. قادرة على أن تهشّم حلقات التهميش وتُسقط جدران الإهمال وتقطع سلسلة التجاهل المضروبة حولها.. ولكن كيف يمكن أن تُعدّ هكذا قوة محورية من الشباب.. وما هو السبيل الأدق ثم ما هي الخطوات التي تصل بنا صوب هكذا هدف؟.

هي حزمة إجرائية متلازمة.. بعضها يصطف جنب البعض.. تنفر في المقدمة من ذلك.. مهمة زرع بذور الوعي في العقل الشبابي.. وهذه من مهمات الكيانات التنظيمية ذات العلاقة.. منها مثالا المنظمات الشبابية التي تخرج عن الإطار الحكومي وتمويله وتحكماته.. والمقصود هنا تلك التجمعات الطوعية الشبابية.. مع توافر قيادات متوقدة الذهنية والتفكير.. ومتمرسة في تنفيذ الفعل الإجرائي لتخليص الشاب من ربقة التهميش.. وإنقاذه من الزج في هاوية الفكر المسطّح.. وإبعاده كليّا عن "سلوك القطيع" المسيّر بخيوط خفية.

فحين تشرع منظمة شبابية مدنية في زجّ الفكر التقدمي بذهنية الشباب.. سوف يحدث خرق للنمطية السائدة.. وتبدأ سلسلة من التفاعلات ترتقي بالشباب الى آماد أوسع وأعلى.. فكرا وعملا.. بالأخص حين يأخذ عمل الكيانات التنظيمية شكل الجدّية والفاعلية والحرص.. فتبدأ حملات منظّمة دورية مستمرة.. تصل الى درجة بارزة من النجاح في مسعاها.

مثال ذلك بث الفكر الرافض للغبن والتهميش والانعزالية لفئة الشباب.. عبر ندوات وحلقات ثقافية إعلامية تبحث في هذه الظاهرة.. وتفكك مفاصلها.. ثم تبدأ بوضع الرؤى السديدة للمعالجات السديدة.. على أن تكون قادرة على مقارعة مصادر الإقصاء والإهمال المتعمَّد للشباب.. وتخليصه على نحو تام من ربقة "السلوك الجمعي الساذج".. والعبور به الى ضفة الأفكار الحية والغوص في مناهج الابتكار الحيوي المنقذ للإنسان بصفة عامة.. ومنقذ لفئة الشباب بصفة أخصّ.

هكذا نكون قد أنجزنا ما يتطابق مع المثل أو القول المأثور "لقد أسقطنا عصفورين بحجر واحد".. فمن ناحية تم وضع حد لعزل الشباب وإهمالهم وتهميشهم بوساطة البنود التي ذُكِرَتْ في أعلاه.. ومن ناحية أخرى تم التسامي بعقولهم وتفكيرهم وجعلهم يعتادون التعاطي مع الابتكارات الحداثوية التي باتت تمنح عصرنا هوية جديدة.. هي هوية التقدم والتميّز بوساطة العقل الشبابي الحيوي النادر.

اضف تعليق