فهو (التَّفكيرُ السليم) نتيجة اذا اجتمعت ثلاث مقدّمات سليمة، وهي؛

المعلومة السّليمة والقراءة السّليمة والسّؤال السّليم، فلو اصيبت أيّة واحدة من هذه المقدمات بخلل من نوع ما فسيكون التفكير غير سليم وغير منطقي ابداً، ولذلك فالعلماء مثلاً والفقهاء والباحثون والأخصّائيون وامثالهم يهتمّون جداً بالمقدمات الثلاث اكثر من اهتمامهم بأصل الموضوع، فتراهم يمحّصون ويتثبّتون ويدقّقون قبل القبول والرفض، ولذلك يأتي تفكيرهم سليماً والذي يُنتج كلّ ما هو سليم.

ومن خلال متابعاتي الدّقيقة والدّؤوبة لمواقع التواصل الاجتماعي، اكتشفتُ انّ السّبب الأساسي لغياب التفكير السليم عندنا هو الخلل في المقدمات الثلاث المشار اليها، فمثلاً:

اولاً؛ نحن ننشر كلّ ما يصلنا من اخبار ومقالات وتحليلات وصور وافلام من دون ان نتثبّت ابداً وكأنّ واجبنا الشرعي والوطني وانّ منجزنا التاريخي هو في سرعة نشر ما يصلنا، بغضّ النظر عن محتواه، الذي فيه من الكذب والتلفيق والتضليل والتكرار الشيء الكثير جداً، فاذا كانت تغذية العقل جراثيم وأوبئة فكيف ننتظر منه ان يفكّر بشكل سليم يا ترى؟.

ان الكثير منّا يبني فكرته على ما يصله من معلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، فاذا كان (٩٠٪) منها كذبٌ وتلفيقٌ وفبركة فكيف يبني فكرة سليمة؟ هل انتبهتم كيف يستشهد كثيرون منّا في أحاديثهم وكتاباتهم ونقاشاتهم بما يصلهم منها وكأنها مسلّمات فينقلها ويبني عليها من دون مناقشتها اولاً والتثبّت منها؟.

ثانياً؛ على صعيد القراءة، فنحن لا نعرف كيف نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ ومتى نقرأ؟ فالقراءة علمٌ وفنٌّ وهي ليست عملية حشو للذّهن بالمعلومات فقط، ولذلك يجب علينا ان نتعلّم كل ذلك لتكون عملية القراءة سليمة فيأتي التَّفكيرُ سليماً.

ان للقراءة منهجيات علميّة ذكرها الكثير من العلماء والباحثين قديماً وهي اليوم تخضع لدراسات بحثيّة وعلميّة تتطور يوماً بعد آخر.

ثالثاً؛ اما على صعيد السؤال والذي يُنتج الحوار فحدّث عنه ولا حرج.

لقد ابتلينا بالفوضويّة في السؤال والحوار بشكل عجيب، ولذلك لا تساعدنا حواراتنا على التفكير السليم، فلقد غابت وحدة الموضوع فتشعّبَ السؤال والجواب بلا مركزية ما يضيّع اصل الفكرة.

ولهذا السبب كذلك انتشرت عندنا التّهمة والطعن والتشكيك وعمليات اغتيال الشخصية، الاغتيال السياسي، فضاعت في هذه الأجواء المريضة حتى الفكرة السليمة بعد ان اختلط الحابل بالنّابل كما يقولون.

تعالوا، اذن، نثبّت القواعد التالية بهذا الصدد؛

اولاً؛ ان لا ننشر شيئاً قبل التثبُّت منه، فلو شَكَكْتَ بمادةٍ ما ولو بنسبة (١٪) أرجئ نشرها حتى إشعارٍ اخر، فلماذا التسابق على النشر؟ ولماذا العجلة؟.

انّ نبيّ الله سليمان، عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، تريّث في التعامل مع الخبر الذي أورده الهدهد لحين التثبّت منه على الرّغم من انّه يعلم علمَ اليقين من انّ الهدهدَ لا يجرؤ على الكذب عليه ابداً فما بالُك بِنَا وقد فُتحت وسائل التواصل الاجتماعي امام كلّ من هبّ ودبّ؟ لماذا لانّ {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

تعالوا نقرأ قصة نبي الله سليمان (ع) مع خبر الهدهد الذي وصفه باليقين، يقول تعالى؛

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ.

لم يستعجل نبي الله في التعامل مع الخير (اليقين) وإنما قرر التريث واختبار الهدهد، فقال تعالى على لسانه {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.

يعني حتى الخبر (اليقين) يحتملُ الصّدق والكذب فما بالك بالخير الكذب أصلاً؟.

ثانيا؛ ان لا نستخفّ بأيّة مادة نهُمُّ بنشرِها فقد يهدي حرفاً أمة الى الخيرِ وقد يهلكُ آخر أمّة، الم يقل رَبُّ العزّة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}؟.

فليس كلّ ما يصلنا معلومةٌ فائدتُه بالضّرورة فنسارعَ لنشره.

ثالثاً؛ ان نسألَ ونحاورَ في صُلب الموضوع فلا نبتعد عنه فذلك ما يضيّع علينا فرصة التعلّم وتعلّم الاخرين، فتشتّت الأسئلة والحوار يضيّع علينا فرصاً كثيرة، ولتكن القاعدة ما يلي؛

قول الامام علي بن الي طالب (ع) {سَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}.

وقول الامام السبط الحسن بن علي الزكي (ع) {حُسْنُ السّؤالِ نِصْفُ العِلْمِ}.

رابعاً؛ اذا عجزتَ عن فهم شيء ما فلا تتّهم، فقد يفهمهُ غيرُك.

ان هناك الكثير من الامور التي قد لا افهمها اليوم ولكنني سأفهمها غداً، فللزّمن دورٌ في إنضاج العقل.

خامساً؛ اذا مرّت عليك مادّة وتعرف جيداً بانها كذبٌ او تلفيقٌ فنبّه لها المصدر وبلّغ عنها بلا تردٌد ليتحوّل التّنبيه الى ثقافة نمارسها جميعاً حتى نصلَ الى مرحلةٍ يخجلُ فيها المرء اذا ارسل شيئاً ليس دقيقاً وبذلك سنفرض على انفسنا جميعاً مبدأ الرّقابة الذاتية في التعامل مع المواد المنشورة، وسنخلق لأنفسنا مناعة قوية إزاء المواد الواردة والصادرة، فلا يضحك علينا الآخرون بتمريرهم الاكاذيب، من خلالنا، هم يصنعون الكذبة ويلفّقون المقال ويفبركون الصورة او الفيلم ونحن ننشرها!.

خامساً؛ تعاملنا مع المادة بمسؤولية وليس من باب الترف وقضاء الوقت او ملء الصفحات او تسويد المجموعات، ابداً، فلنتذكر بان الحرف مسؤولية لا نستبعدَ ان يقودنا الى النار اذا تسبّب بانحراف أحدٍ او تشويش عقله، او غسل دماغه.

سادساً؛ قد يتساءل البعضُ ويقول؛ كيف يتسنّى لي معرفة المادة ان كانت صحيحة او كذب وتلفيق؟ الجواب؛ ان قليلاً من التأمّل والانتباه يساعدنا في الكشف عن حقيقة المادة، خاصة وان بعضها كذبٌ فاضحٌ وتلفيقٌ واضحّ.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، يمكن السؤال ممن يثق به المرء، من اصحاب الخبرة والمعرفة والاطلاع، وصدق الله تعالى الذي قال {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وقوله عزَّ مٓنْ قائل {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق