يـُعَبـﱢر العرب عن أنفسهم بأساليب مختلفة، وإن كانت في معظمها تخلو من العلمية والواقعية. فالفرح والغضب والتأييد والمعارضة والنقد والتجريح جميعها تأتي مرتبطة بمواقف مسبقة الصنع أو بقناعات أو أيديولوجيات يجرى إسقاطها على كل أمر أو موضوع سياسي أو ديني.

وهنا تكمن المشكلة في تخندق الكثيرين وراء متاريس من صنعهم سواء أكانت تلك المتاريس قومية أو دينية أو يسارية أو يمينية... إلخ. معظم العرب غير قادرين حتى الآن على الخروج من خنادقهم الصغيرة من أجل الولوج في مسارات أوسع وأرحب وأكثر أهمية لهم ولأوطانهم. إذ كلما صَغـِرَ الخندق صغرت الأهداف وهكذا. العرب ما زالوا يعيشون أو يناضلون في خنادقهم الصغيرة غير قـادرين، أو ربما غير راغبيـن في مغادرتها والتخلص من أَسْرِهـَا ومن قيودها وأكبالها.

يتعامل العرب مع ما يجري في تركيا بعقلية الخندقة وأحكامها ومواقفها مسبقة الصنع، وكأن ما يجري في تركيا هو شأن عربي أو إسلامي. إن ما يجري في تركيا هو شأن تركي أولاً وأخيراً. ولعبة شد الحبل في تركيا ليست أمراً مفاجئاً، بل متوقعة ومتوقعة جداً وأردوغان يعلم ذلك والجيش يعلم ذلك أيضاً ومعهم ربما بعض أو معظم الشعب التركي.

يعتمد أردوغان في مساره السياسي على إحتكاره للحقيقة الدينية وإستعمالها لتعزيز حظوظ برنامجه السياسي من خلال إستقطاب دعم وتأييد وولاء الأتراك ذوي النزعة الدينية واللذين يفتقرون في العادة إلى القدرة على التمييز بين شؤون الدين وأمور الدولة وهو أمر شائع بين أوساط العديد من البشر اللذين يفتقرون إلى مستويات معقولة من التحصيل العلمي بغض النظر عن ديانتهم سواء أكانوا مسلمين أو هندوس أو مسيحيين أو يهود إلخ.

أردوغان له برنامجين سياسيين. الأول يتعلق بحزبه "حزب التقدم والعدالة"، والثاني يتعلق بأردوغان نفسه وطموحاته السياسية الشخصية. القاعدة الإسلامية الواسعة للشعب التركي حَمَلَتْ "حزب التقدم والعدالة" إلى السلطة وهو بذلك وعن حق مُنـْتـَخـَب ديموقراطياً لحكم تركيا. ولكن أردوغان فشل مراراً في الحصول على تفويض لتحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي أردوغاني.

وهكذا ففي حين يحظى "حزب التقدم والعدالة" بالشرعية الإنتخابية الديموقراطية، فإن طموحات أردوغان السياسية الشخصية لا تحظى بتفويض ديموقراطي مما يعني بالنسبة له وجوب وضرورة إستعمال وسائل أخرى غير ديموقراطية لتحقيق تلك الطموحات إذا ما أُريد لها النجاح.

قبل الخوض في المزيد، يجب التأكيد على أن الإنقلابات العسكرية هي أمر مرفوض ولا شرعي ولا يمكن تأييده أو القبول به. ولكن إستعمال التصدي للإنقلاب كعذر للإنقضاض على الديموقراطية هو أيضاً أمراً مرفوضاً ولا يمكن القبول به. وما يجري الآن هو في الواقع إنقلاب عسكري فاشل على الشرعية لا يمكن القبول به وإنقلاب مدني حزبي على الديموقراطية لا يمكن القبول به أيضاً، والعرب يركضون بين هذا وذاك وكأن حياتهم متوقفة على ما يجري في تركيا.

تجربة اردوغان في الحكم شملت إعادة بناء الإقتصاد التركي بشكل ناجح وتقليم أظافر المؤسسة العسكرية التركية العلمانية والنجاح في تقديم نموذج معتدل من الإسلام إلى الحياة السياسية التركية العلمانية الأتاتوركية، مروراً بفضائح الفساد التي طالت أبناء أردوغان ورفاقه في الحكم والتي خلقت حقداً دفيناً في نفس أردوغان ضد القضاء التركي بالإضافة إلى فشله في استقطاب تأييد شعبي لدعوته إلى إعادة الحياة للعثمانية والتي تعنى عمليا "دولة الخلافة"، وأخيراً إخفاقه في تغيير النظام السياسي البرلماني في تركيا وتحويله إلى نظام رئاسي بطرق ديموقراطية مما وضع الأساس لمخطط خفي للتخلص من المعارضين وكسر ظهر المؤسسات التي لم تخضع لرغبات اردوغان بشكل كامل مثل المؤسسة العسكرية والقضاء.

إن إعادة تصميم النظام السياسي ليناسب شخصاً ما بعينه وطموحاته وقدراته هو عنوان مختلف ولكنه مطابق بأوصافه للدكتاتورية التقليدية. وهكذا تصبح الشرعية الديموقراطية وسيلة للقضاء على الديموقراطية نفسها. ما يجري الحديث عنه الآن بالتحديد هو المدى الذي سيذهب إليه أردوغان في حربه على المؤسسة العسكرية والمعارضين المدنيين له وكذلك محاولته لإحتواء مؤسسات دستورية (مثل القضاء) وحكومية من خلال إقصاء أي عنصر مشكوك بولائه ضمن قوائم طويلة أدهشت جاهزيتها الفورية بعد المحاولة الإنقلابية معظم المراقبين وخلقت شكوكاً لدى الكثيرين عن الأسباب وراء إستعداد أردوغان المبكر والسريع للتعامل مع إنقلاب عسكري من المفروض أن يكون مجهولا ً.

إن وصول أردوغان إلى ما يريده يتطلب مزيداً من التأزيم والتصعيد بشكل يمكنه من الإستمرار في ممارسة سلطاته المطلقة بمراسيم مما يوفر له القدرة على مزيد من البطش بأعدائه تحت عذر محاربة الإنقلابيين. ولو كان كل العدد الذي تم إما إعتقاله وتوقيفه أو إقالته من عمله وهو يتجاوز الستين ألفا والمدارس ومؤسسات المجتمع المدني التي تم إغلاقها وتتجاوز الألف صحيحاً لكان من الممكن إعتبار الإنقلاب بأنه يحظى بشعبية واسعة، ولكن الأمر أقرب إلى تصفية حسابات وتمهيد الطريق أمام النظام الرئاسي الذي يريده أردوغان دون الحاجة للمرور بالمراحل الدستورية إلى حين تعديل تلك المراحل بما يتناسب ومخططات أردوغان.

إن عَسْكـَرَة أفراد "حزب التقدم والعدالة" وتحويلهم إلى ميلشيا تجوب الأراضي التركية دون سيطرة وتقوم بإعتقال الأتراك طبقاً لقوائم حزبية وليس قرارات محاكم تحت عذر التصدي للإنقلاب والإنقلابيين هو بمثابة إستبدال شيطان بشيطان آخر. أردوغان لم يتصدى للإنقلاب بأدوات الشرعية الدستورية، بل تصدى للإنقلاب بإنقلاب آخر وبأدوات خارج إطار شرعية الدولة التي تم إستبدالها بالشرعية الحزبية. وهذا الوضع جعل من الممكن له القيام بتصفية خصومه دون الحاجة للإلتزام بالـقوانين التركية. وجاء إعلان الأحكام العرفية لاحقاً حتى يتم إضفاء بعض القانونية على ما جرى ويجري مع العلم أن معظم الإعتقالات تمت خلال الأيام الثلاثة الأولى. الحكم بموجب مراسيم رئاسيه تستند إلى الأحكام العرفية أمر في غاية الخطورة خصوصاً بالنسبة إلى شخص يمطح لتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي بالرغم من أنه فشل في الحصول على أصوات كافية لدعم ذلك.

ولكن ما هو الأثر الحقيقي لما يجري الآن في تركيا؟ من الواضح أن فشل الإنقلاب قد أضعف من إحتمالات عودة العسكر إلى الحكم في العديد من دول الجوار وهو أمر جيد. ولكن هذا لم يأتِ بلا ثمن. والثمن هو إعادة الأمل إلى التيار الإسلامي بإمكانية السيطرة على الإقليم وتشجيع التطرف الإسلامي على المضي في مخططاته للسيطرة على بعض دول المنطقة. الإسلاميون في صدد إرتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبوه بعد تولي محمد مرسي رئاسة مصر، وبداية الحرب على الأسد، وصعود نجم الإسلاميين في ليبيا واليمن وصحراء سيناء مع قطاع غزة الفلسطيني وبالطبع تركيا. الإسلاميون بشكل عام وخصوصاً في الأردن أخذتهم العزة بالأثم في ذلك الوقت وإعتقدوا ولو مخطئين بأن الخلافة الإسلامية في طريقها إلى العودة وهو أمر لم يحدث، إن لم يكن لشيء فهو لخطأ في قراءة خارطة موازين القوى الداخلية والإقليمية. والأن يبدوا أن الإسلاميين في طريقهم لارتكاب نفس الخطأ. فهنالك حالة من الإبتهاج والهياج الصامت تتفاقم يومياً وتعكس نزعة نحو تأييد أعمى غير محدود لأردوغان وما يفعله مقترناً بالأمل بأن ذلك قد يكون بداية العودة لنفوذ الإسلاميين في الإقليم.

التساؤل الأهم بين أوساط الكثيرين يتعلق بتأثير ما يجري في تركيا على المنطقة العربية بشكل عام وعلى مستقبل الصراع في سوريا بشكل خاص.

سلوك أردوغان الأخير يوحي برغبته في التخلص من كل القيود التي فرضتها عليه مفاوضاته مع أوروبا، ورغبته في عودة العلاقات الحميمة والإستراتيجية مع إسرائيل، وإعادة النظر في موقف تركيا من الصراع في سوريا لرغبته الأهم في تفادي إنشاء دولة كردية في شمال سوريا وما قد يتبعها من تأثير على أكراد تركيا وطموحاتهم في الإستقلال، وأخيراً تعزيز العلاقات الإستراتيجية مع موسكو مع ما قد يتطلبه ذلك من تعديل في سياسة تركيا تجاه سوريا وتجاه الإرهاب الأصولي. وهذا التحول يبدوا منطقياً في ظل الشكوك التركية بنوايا أمريكا تجاه نظام أردوغان من جهة وقرب روسيا من تركيا والمصالح المشتركة التي تربطهما معاً والتي قد يعززها بشكل كبير إتفاقهما على الموضوع السوري وخصوصاً الوضع النهائي لمناطق شمال سوريا المتاخمة للحدود التركية.

أما على الصعيد العربي فإن خيارات أردوغان محدودة بالإسلام فقط كونه الرابطة المشتركة الأهم بين تركيا والعالم العربي. وهذا يتطلب العودة إلى الإرث العثماني كإطار جامع يتجاوز القوميات. ولكن الخيار الديني لا يحظى بإجماع عربي والخيار العثماني لا يحظى بإجماع تركي إلا إذا تم إعادة تشكيل الموقف التركي من الداخل من خلال اجراءات وسياسات يتم الدفع بها الآن تحت شعار محاربة الإنقلابية، وتم تحويل العالم العربي إلى دويلات طائفية ومذهبية تستمد شرعيتها من الدين. وكلا الإحتمالين ما زالا في طور الأماني، وإمكانية تحقيقهما ما تزال في حكم المجهول. إن النتائج العلمية لا يمكن أن تـُبنى على الأماني والتمنيات. طموحات أردوغان الإقليمية هي في صالح تركيا وقد تكون ضد مصالح العرب سواء جزئياً أو كلياً. وعلى العرب أن يعوا ذلك سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين. فتركيا أردوغان تستعمل الإسلام لتعزيز السيطرة التركية على العالم العربي وليس بالضرورة لنشر الإسلام أو تعزيز حظوظه.

* مفكر ومحلل سياسي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق