يرى علي راتانسي1، أن التعددية الثقافية تعاني عيوباً ليس من سبيل لمعالجتها دون التحول إلى مراحل (أكثر رقيّاً)، ويقصد بهذه العبارة تواصلاً ثقافياً لإطار جديد من التعددية العرقية، ويستشهد بمصطلح (التنوع الفائق) الذي قال به فيرتوفيك لتدعيم رؤيته حول عيوب التعددية الثقافية التي يعتقد أنها لم تحظ بدعاية مميزة بل على العكس يرى الدعاية لها كانت في غاية السلبية معرجاً على حملة من الهجمات التي طالتها في بريطانيا خلال العقد الثمانيني من القرن العشرين الماضي لتنتقل الهجمات إلى هولندا في العقد التسعيني وتمتد منها إلى بقية أنحاء غرب اوروبا.

ويقول: "صار جلياً أيضاً أن العديد من النقائص التي تعزى للتعددية الثقافية نتجت في الواقع عما أسميه (انتقالا ثلاثيا) ، أو تفاقمت بسببه ويتمثل هذا الانتقال في : تفكك الدولة القومية إثر دفع الأقليات الوطنية الخاضعة للدولة التي اتسمت بالوداعة فيما سبق مثل الأسكتلنديين والويلزيين في المملكة المتحدة والباسكيين والكاتالونيين في إسبانيا ، بمطالب إنفصالية".

إذن، هو يأخذ في حسبانه هذه المطالب ويعتبرها الخلفية الأساسية التي دارت في فلمها معاناة التعددية الثقافية.

في أواخر العقد الستيني وبدايات العقد السبعيني من القرن الماضي، بدأت دول مثل كندا واستراليا بإظهار الحاجة إلى هوية متعددة الثقافات، وكان هذا شعوراً سائداً لدى الدولتين في تلك الفترة ، حيث قامت الدولتان بتشريع قوانين السماح بالهجرة، بعد أن كانت استراليا تسمح بهجرة البيض فقط وكانت تعتبر الآسيوين واليهود غير مرحب بهم طبقاً لقانون تقييد الهجرة عام 1901 قبل أن يكون هناك شعور رسمي بالحاجة لمجتمع متعدد الثقافات، حيث تم الغاء شرط العنصرية عام1973.

وجرى الحديث عن آليات المجتمع المتعدد الثقافات بين استيعاب قوانين البلد الذي قصد اليه المهاجرون أو الحفاظ على الخصوصيات الوطنية للمهاجرين ومطالبتهم بالإندماج فقط .

نفس الموضوع ، حصل في أوروبا حيث هاجر الهنود والبنجلاديشيون والباكستانيون الى بريطانيا وفرنسا أبان الحرب العالمية الثانية.

وبالعودة إلى رؤية علي راتانسي في التعددية الثقافية ، فإنه يستعرض معناها كما جاء في قاموس هاربر كولينز لعلم الاجتماع عام 1919 :

التعددية الثقافية تحتفي بالتنوع الثقافي وتسعى إلى تعزيزه ، على سبيل المثال : تشجيع لغات الأقليات ، وهي تركز في الوقت ذاته على العلاقة غير المتكافئة بين الأقلية والثقافة السائدة .

كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يعر اهتماماً للأفكار المتداولة والسائدة في الحقبة الني سبقت عام 1945 حيث التفاوت على الأسس العرقية والقومية كما في حادثة رفض الدول الأوروپية سنة 1919 حين طلبت اليابان إدراج عبارة تساوي بين البشر ، لأنهم - الأوربيين - أرادوا الحفاظ على مجد الإمبراطوريات المسيطرة على أجزاء من آسيا وأفريقيا ، يقول راتانسي : " ولا ريب في أن الفترة الممتدة منذ ستينات القرن العشرين زخرت بعدد لاحصر له من الحركات الاجتماعية ومعارك الحملات الدعائية التي خلفت عميق الأثر في الثقافة السياسية والمدنية للديمقراطيات الغربية ، فقد تلاقت الحركة النسائية والحملة المعنية بتغيير أوضاع المثليين ، وحماية البيئة المتزايدة على سبيل المثال لا الحصر مع اتجاهي مناهضة العنصرية والتعددية الثقافية لتشكيل ماسماه نقادها على وجه التحديد فترة (سياسات الهوية) ورفعت مطالب الإعتراف الثقافي ".

وبين الإندماج، والتفاوت الطبقي، والترابط المجتمعي، والحفاظ على الخصوصية، يناقش علي راتانسي قضية الهوية الوطنية والإنتماء والمسألة الإسلامية، ويتساءل عن مفهومي الإندماج والترابط المجتمعي فيقول : الإندماج في ماذا ؟ وعلى أي أساس يستند مفهوم الترابط المجتمعي ، فهل يعني الاندماج أو الترابط المجتمعي حسب المفهوم البريطاني هو الإنسلاخ من القيم والخصوصيات ليتم الاندماج في مجتمع الإفراط بشرب الكحول والبدانة؟.

لقد صار مفهوم الاندماج والترابط عبارة عن التزام الأقليات المهاجرة بثقافات وسلوكيات الدول التي هاجرت اليها.

كنا أن قضية الاندماج هذه واجهت عقبة حظيت بالكثير من المناقشات الجادة والقلقة تمثلت بانعدام الاندماج الفعلي للجاليات المسلمة المهاجرة خصوصاً بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وتفجيرات مدريد، الأمر الذي دعا سويسرا تنظيم استفتاء يحظر بناء المآذن الخاصة بالمسلمين، كما حدث في فرنسا أن شرع قانون يحظر ارتداء النقاب، وغيرها من الممارسات التي تعد خرقاً واضحاً لحقوق الإنسان وحرياته الدينية.

هذه العقبة في الاندماج يسميها (اوليفييه روي) بـ (المزج والخلط الثقافيّ النزعة) بين الإسلام كدين وبين الثقافة الإسلامية بإطارها العام.

ولعل الخوف من تمدد الإسلام السياسي يبدو خوفاً مبالغاً فيه حتى مع صعود التيارات الإسلامية منذ الثورة الإيرانية عام 1979 ؛ لأن هذه التيارات لم تلعب على الصعيد السياسي سوى أدواراً ضئيلة ، بل أن أكثرها تخلت عن مفردات كثيرة تدخل في باب خصوصياتها الدينية لتتحدث في أدبياتها السياسية وشعاراتها عن رؤى جديدة من قبيل التحول الديمقراطي وتنشيط المجتمع المدني وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي اضطرت هذه التيارات أو وجدت نفسها مضطرة للتعامل معها كأمر واقع كما في تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، أو حتى تجربة الإسلام السياسي في العراق وصعوده بعد 2003 ، أو الصعود السريع والسقوط الأسرع لتجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد حقبة حسني مبارك وحزبه.

مع هذه الشواهد تتبين صحة نظرة أوليفييه روي عن الخلط غير المبرر بين الإسلام كدين وبين ثقافات أو سلوكيات سياسية تصطبغ بالإسلام وترفع شعاراته.

لكن، هل يبرر المخاوف الأوروبية من الإسلام والمسلمين تأييد الجاليات المسلمة لحركات تصنف على أنها إرهابية كتنظيم القاعدة مثلاً؟.

نعتقد أن هذه المخاوف أيضاً غير مبررة ؛ لأن الذين يؤيدون العنف بوصفه نتاج فكر إسلامي هم المتشددون والمتطرفون وهم قلة، بل أن بعض الدراسات والاستفتاءات أشارت إلى أن تبرير الجاليات المسلمة وتأييدها لهجمات الحادي عشر من سبتمبر إنما تغلب عليه وجهة النظر السياسية لا الدينية، وبعد هذا العرض، هل يمكن لنا أن نجزم بفشل التعددية الثقافية؟، أم أن هناك انحساراً لدورها وهي في طور التراجع؟.

نحن نعتقد بأن المعطيات التي قدمت لاتكفي للجزم بفشل تجربة التعددية الثقافية حتى مع إظهار الصراع في قضية الاندماج والترابط من جهة وقضية افتعال صراع حضاري بين ممارسات الغرب وسلوكيات الأقليات المسلمة، ويمكن اختيار النموذج الأميركي كمثال لتأصيل التعددية الثقافية ، يقول جيزلر في كتابه ( كلنا متعددو الثقافات الآن ):

" صرنا جميعاً نتقبل إيلاء قدر أكبر من الإنتباه للأقليات والنساء والدور الذي لعبوه في التأريخ الأمريكي وفي ميدان الدراسات الاجتماعية وحصص الأدب في المدارس ، ولا يمكن لتلك القلة التي ترغب في العودة بالتعليم الأمريكي إلى حقبة انطوت على تجاهل الثقافات الفرعية المتنوعة ، وتصوير أمريكا على أنها تمثل أوج الحضارة ومنتهاها ، أن تتوقع الآن إحراز أي تقدم ".

1/ أستاذ زائر لعلم الاجتماع في جامعة سيدني

اضف تعليق