نشر الوعي بين الأوساط الشعبية وأخذ الإعلام الحر زمام المبادرة للتأثير الإيجابي في تشكيل وتحريك الرأي العام يلعبان دوراً محورياً في الحد من المخاطر المتقدمة فيمكنهما أي الوعي والإعلام تمكين الفرد على التشخيص وتجنب الوقوع في مهاوي السطحية أو التورط بشراك الاستبداد ولبلوغ ما تقدم ينبغي تحصين الفرد العراقي...
تبرز مخاطر التحيز الآلي أو الخوارزمي مع تزايد استعمال تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لاسيما حين دخلت تلك التطبيقات في مجالات تتصل بجمع البيانات وتحليلها والتنبؤ بمسار الأحداث، كما ان تلك التطبيقات باتت تتصل ببرامج وأجهزة تؤثر بشكل مباشر على حياة وصحة وحرية الأفراد وحقوقهم.
الأمر الذي يفضي إلى نتائج غير عادلة قائمة على التمييز أو التأثير المقصود فتبرز إلى العلن أمثلة لا متناهية من التحيزات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الجنسانية من شأنها ان تزيد من مخاطر التأثير السلبي على حرية المواطن العراقي لاسيما الحرية السياسية الأهم في اختيار من يمثله في المجلس النيابي، فمن المحتمل ان تستثمر تقنيات الذكاء الاصطناعي في السباق الانتخابي المقبل ويتم الاعتماد على بيانات الناخبين العراقيين لاسيما من الفئات الشابة من مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي.
فيفضي ما تقدم إلى سلوكيات سياسية أو خيارات بعيدة عن الواقع بفعل التأثير المقصود والاستعانة بتلك التقنيات القادرة على جمع البيانات وتحليلها واقتراح وسائل تأثير مباشرة على حرية الناخب وخياره الانتخابي، ما يعزز فقدان الثقة بالعملية السياسية والديمقراطية بفعل توظف تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يلقي على المؤسسات العامة لاسيما المفوضية العليا المستقلة للانتخابات مسؤولية كبيرة جداً بالاستعداد لتفعيل آليات الرقابة والرصد والتحري والتحذير والمعالجة لتلك السلوكيات غير المنصفة.
كما ينبغي للناخب العراقي ان يكون واعياً وعلى مستوى التحدي ليمنع استغلال بياناته الالكترونية في عملية الترويج الانتخابي أو محاولات تغيير الحقائق والإساءة للمرشحين الوطنيين، فالواقع ان الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي باتت تلج مجالات حصينة ترتبط بذات الإنسان وحرمة حقوقه وحرياته منها على سبيل المثال:
1- الحق في الخصوصية: غالباً ما يتم الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحيل البيانات التي تتصل بالعملاء والمستهلكون ورواد وسائل التواصل الاجتماعي ومحاولة التنبؤ بميولهم أو رغباتهم، فيتم التعامل مع الإعلانات الممولة أو المنشورات التي تظهر أو الخيارات التي تتاح في قائمة البحث في ضوء تلك الحقائق التي يتم جمعها عنهم بدون علمهم أو استحصال موافقتهم المسبقة، بعبارة أخرى يتم استغلال بياناتهم للتأثير على حريتهم بدون موافقتهم المسبقة، لذا يقع واجباً على الجهات الحكومية العراقية والمشرع الالتفات إلى ما سبق بيانه وتلافي هذا الخطر المحدق من خلال وضع أنظمة ترشد الاعتماد على تلك التطبيقات وتمنع الوصول غير القانوني للبيانات المتصلة بالأفراد أو نمط حياتهم أو سلوكهم.
2- التمييز في مجال ممارسة الحقوق السياسية: يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي ان تديم التحيز بين المرشحين أو الناخبين، فمن المحقق وقوع ما تقدم في ضوء التفاوت الكبير في الإمكانيات المادية والبشرية التي تقود الحملات الانتخابية الخاصة بالأحزاب والقوائم المتنافسة، فمن المعلوم ان التجارب الانتخابية العراقية السابقة كشفت بما لا يدع مجالاً للشك ان الحملات الانتخابية الصورية المنتشرة في الشوارع العراقية تقاد من قبل مجاميع منظمة تعتدي على حملات المنافسين وتعمد إلى المبالغة في نشر صور المرشحين في الأماكن العامة والتجارية المؤثرة، كما وتبرز محاولات البعض في التأثير بخيارات الناخب عبر محاولة الإغراء ببعض المال أو الامتيازات فما بالك في عصر التكنولوجيا كيف يمكن لنا ان نتوقع الحملات الانتخابية.
3- التأثير السلبي على حرية الرأي والتعبير عن الخيار السياسي: أدى التطور الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي إلى تطوير أساليب التحكم في تدفق المعلومات والمضامين، إذ يتم خلق ملايين الحسابات الإلكترونية المزيفة وتستخدم الروبوتات في إدارتها ومحاولة إغراق وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنيت بمضامين تهدف إلى التأثير على الرأي العام والناخبين لأغراض حزبية وسياسية معينة ويؤدي ما تقدم إلى زيادة التحيز الخوارزمي والتلاعب بخيار الأفراد عبر التحكم فيها أو التأثير، فهذه الحسابات الوهمية أو الزائفة من شأنها التأثير على الحرية الشخصية للفرد العراقي.
4- تقييد الحريات الفردية لأسباب تنطلق من التحييز: من الملاحظ ان تطبيقات وبرامجيات الذكاء الاصطناعي تعمل على تقييد حرية الرأي والتعبير إلى حدود لا تطاق إذ يمكن لشركات الاتصالات ومنصات التواصل الاجتماعي ان تقيد حرية الأفراد في نشر أو تداول الكثير من المحتوى الذي يمثل خلاصة حريتهم في التعبير عن الرأي، بل يصار إلى حذف المنشورات التي تعبر عن حريتهم في العقيدة أو الضمير غالباً تحت حجج واهية، وان هذه الشركات قادرة وهي مدفوعة بدوافع تحقيق الربح ان تتعاون مع الجهات السياسية الفاعلة لخنق حرية الرأي لدى الناخبين، كما يمكن لتلك الجهات الغاشمة ان توظف تلك البرامجيات للتجسس على الخصوم والمناوئين السياسيين.
5- التلاعب بالرأي العام: هنالك الكثير من الأدلة التي تؤشر استخدام الخوارزميات والربوتات للتلاعب بالرأي العام ومنها محاولة صرف النظر عن القضايا المهمة وإثارة نقاشات جانبية بخصوص قضايا من شأنها التأثير على الخصوم ومكانتهم المجتمعية أو السياسية، فمن الممكن ان تخلق الحسابات الوهمية أو الزائفة شعبية منقطعة النظير لأحد المرشحين وتصور للرأي العام ان فوزه الساحق مسألة وقت فقط بغية التأثير النفسي على الخصوم، كما يمكن التلاعب بالصور الواقعية للاجتماعات والمهرجانات الانتخابية لتصويرها بغير حقيقتها وإنها كانت حاشدة لتأييد شخص أو حزب معين خلافاً للواقع.
ولعل الأخطر ان بعض الأحزاب القابضة على السلطة تستغل هذا الفضاء للترويج لما قام به بعض رجالاتها وتصوير بعض المشاريع الخدمية على أنها انجاز شخصي منقطع النظير في الوقت الذي تمثل فيه تلك الأعمال واجباً من واجبات الموظف أو المكلف بخدمة عامة وإنها ممولة من موازنة الدولة وليس من أمواله الخاصة أو أموال الحزب، بل ان التمعن بتلك المشروعات يكشف الغاية الانتخابية منها حيث توظف لاجتذاب الأنصار والمريدين، بعبارة أخرى الأقوياء والمتنفذين وذوي السلطة والجاه قادرين على التأثير على الرأي العام وتصوير أعمال الحكومة اليومية على أنها بطولات شخصية، والأخطر مما تقدم محاولة تلك الجهات بث خطاب الكراهية بين الجمهور عبر الإساءة وبعبارات طائفية أو عنصرية مقيتة للخصوم السياسيين.
6- مغادرة المصالح الإستراتيجية: تركز الجهات السياسية الفاعلة بالغالب على مغادرة المصالح الإستراتيجية وتحاول جاهدة التركيز على السطحية والتفاهة لذا تعمد إلى إنشاء وإدارة أدوات إعلامية تبث من خلالها أعمال درامية وأعمال فنية من شأنها صرف الرأي العام عن الأمور المهمة، فبدل التركيز على الإرث الحضاري والتراث الشعبي يتم التركيز على الأمور الثانوية التي تلقى إقبالاً من بعض الفئات الاجتماعية، كما تسعى بعض الجهات إلى إثارة الخلافات بين فئات المجتمع بما يقوض أسس التعايش السلمي بغية الاستمرار في السلطة لأطول مدة ممكنة، لذا يمكن لهذه الجهات الاستعانة بالخوارزميات المنحازة لتروج للأفكار المنحرفة تارة أو تعمد إلى التركيز على التفاهة وتقديمها على أنها أمور حضارية تتطلبها روح العصر، وبات عدد لا يستهان به من المجتمع مشغول في إنتاج أو الترويج للتفاهة بما يشغل الطبقات الاجتماعية المؤثرة كالشباب عن دورها الوطني والاجتماعي والأخلاقي وتتناقص أدوارهم في الابتكار أو التعلم والتدريب والتأهيل حيث يتم تصوير التفاهة على أنها أقصر الطرق إلى الشهرة والثراء.
7- التحكم بالمعرفة: بمعنى ان الخوارزميات المنحازة توفر فرصة ذهبية للبعض للتحكم بالمعرفة أو المعلومات التي تحصل عليها الشعوب، بعبارة أخرى ان الخوارزميات والربوتات التي تدير محركات البحث العلمي والمواقع الالكترونية يمكنها حجب الكثير من المعلومات، وما تقدم يقود لانهيار تام لمنظومة القيم المعرفية وبالمحصلة ينهار البناء الديمقراطي وتنتشر الكراهية والخطاب المتطرف، والشاهد على ذلك تمكن اليمين وأقصى اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من الوصول إلى السلطة والبدء بحملات مناوئة للحقائق حتى العلمية للبدء بحقبة من الانكفاء على الذات ومحاولة شيطنة الأجانب بعيداً عن أدنى معايير احترام حقوق الإنسان.
لما تقدم نقول إن نشر الوعي بين الأوساط الشعبية وأخذ الإعلام الحر زمام المبادرة للتأثير الإيجابي في تشكيل وتحريك الرأي العام يلعبان دوراً محورياً في الحد من المخاطر المتقدمة فيمكنهما أي الوعي والإعلام تمكين الفرد على التشخيص وتجنب الوقوع في مهاوي السطحية أو التورط بشراك الاستبداد ولبلوغ ما تقدم ينبغي تحصين الفرد العراقي إزاء:
أولاً: التحيز في البيانات والمعلومات: حيث تسعى بعض الدول والجهات الفاعلة الأجنبية وحتى المحلية في العراقي إلى نشر بيانات متحيزة علمياً أو ثقافياً أو تاريخياً أو دينياً وبالغالب هي بيانات غير دقيقة الهدف منها التأثير على المتلقين أو الفئة المستهدفة للتأثير على الحقائق ومحاولة تأويلها بشكل معين أو طمس المعالم والأدلة العلمية التي تثبت أحقية الشعب في محاسبة المقصرين أو المروجين للفتنة الطائفية أو العنصرية ممن تسببوا في الماضي بفظائع لازالت تؤلم العراقيين.
ثانياً: التحيز في التصميم والتقييم: عند بناء الخوارزميات قد تحصل حالة التحيز حيث يتم تصميمها وفقاً لاهتمامات المصمم ومعتقداته وقناعاته الشخصية بعيداً كل البعد عن القواعد الموضوعية التي يفترض ان تكون هي السائدة، وهذا ما نراه شاخصاً عندما نسأل الذكاء الاصطناعي عن شيء ما، فمن الطبيعي ان يبحث عن الإجابة في محركات البحث على الانترنيت للحصول على ما يريد السائل والمقتضى أن يكون محايداً فينقل كل الإجابات أو الأنسب والأقرب للواقع إلى السائل أو الراغب بالاستعانة بالذكاء، بيد ان كان المصمم غير محايد سيقوم بتغذية مسبقة لمسائل معينة أو يقوم بالترويج لأفكار وقناعات معينة ويكون الأمر أكثر خطورة عندما يكون هنالك وسيط يجب من خلاله المرور إلى الخدمة كاستخدام بوابات نفوذ معينة للمستخدمين في كل بلد فتكون الشركة المزودة قادرة على التحكم بالخدمة وتوجيهها إلى اتجاهات معينة تخدم بعض الأجندات المقصودة أو المعدة مسبقاً.
ثالثاً: التحيز في القرار وعدم المساواة: تؤدي الخوارزميات في الوقت الراهن دوراً متزايداً في اتخاذ القرارات بشأن بعض الأعمال لاسيما تلك المتصلة بحياة الناس كتقنية التنبؤ ومعرفة العلامات الحيوية والتعرف على الوجوه والبحث في التاريخ المرضي أو الإجرامي للأفراد بل تطور استعمالها إلى التأسيس لتقنيات عمل يمكنها التجسس على البعض أو عدم المساواة بينهم في الخدمات المقدمة أو محاولة التأثير السلبي عليهم وهو مل نخشاه في الحالة العراقية، حيث يتم برمجة الخوارزميات أساس الحكم المسبق بحق البعض بما يعزز الفوارق الاجتماعية أو الثقافية، فحتى الخوارزميات المستعملة في التطبيقات منخفضة المخاطر كمحركات البحث أو مواقع الدردشة أو المواقع العلمية يمكن ان تبنى وفق أسس قائمة على التحيز العلمي أو الثقافي فتعطي نتائج غير منصفة، لكل ما تقدم ندعو الجهات ذات العلاقة للتدخل بما يحد من المخاطر المؤشرة ومحاسبة كل من يتوسل بغير الأساليب الديمقراطية للوصول إلى السلطة أو التأثير فيها.
اضف تعليق