عملية مواجهة الخطر قبل وصوله إلى عقر الدار ليس بالأمر الجديد، فلكل دولة مجالها الحيوي الذي يؤثر في عمقها، مما يعني أنها تتصدى للخطر في هذا المجال قبل أن يصل إلى أراضي الدولة. بهذا المنطق تدخلت سوريا بعيد ٢٠٠٣ العام لدعم مجموعات مسلحة كانت تدعي مواجهة القوات الأميركية في العراق...

عندما قاتل حزب الله اللبناني في سوريا ضد التنظيمات العسكرية الموجهة من مخابرات دولية وإقليمية، تعرض للكثير من الاتهامات والتشويه باعتباره يدافع عن النظام السوري، بل اتهمته أطراف سياسية لبنانية بأنه يتدخل في دولة أخرى معرّضاً أمن لبنان إلى الخطر. كان الحزب يرد بأنه يخوض حرباً استباقية دفاعاً عن لبنان أولاً وأنه يتصدى للخطر داخل سوريا، قبل أن يستفحل ويصل إلى لبنان. كانت قوات داعش وصلت بالفعل إلى الحدود اللبنانية في بعض المناطق، وكانت سوريا قد باتت مسرحاً لخلافات المجموعات المسلحة، التي تقاسمت مناطق واسعة من الأراضي السورية، بما كان يعطي صورة واضحة للوضع السوري فيما لو انهار النظام.

عندما بدأت الحرب ضد غزة قبل حوالي العام بدأ مقاتلو الحزب عمليات قصف قالت قيادته إنها لمساندة غزة وتخفيف الضغط العسكري الصهيوني عليها، بعدما اندفعت القوات الصهيونية في عملية تدمير وقتل وحشي في قطاع غزة المكتظ بالسكان. 

هنا أيضا تحركت قوى لبنانية معارضة لمنهج المقاومة ومعها أحزاب أخرى محايدة، لتوجيه النقد لفعاليات الحزب ضد الكيان المحتل. لم يكن إسناد غزة هو الهدف الوحيد من وراء العمليات العسكرية للحزب، بل تؤكد قيادته السياسية أن ما توخاه هو إفشال المشروع الأشمل التي لم تكن غزّة سوى مرحلته الأولى، ولن يتوقف عن الأراضي الفلسطينية في الضفة، بل يتعداه إلى دول مجاورة أولها لبنان. 

كان المشروع في طور التجهيز والإعداد عندما باغتت حماس حكومة نتنياهو بعملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، بهدف إرباك المشروع وعرقلة تنفيذه. دخول المقاومة اللبنانية على الخط جاء في هذا السياق: من جهة، لمشاغلة القوات الصهيونية وتخفيف الضغط على غزّة، ومن جهة أخرى، عرقلة تنفيذ المرحلة الأولى من هذا المشروع في غزة، عبر إنهاك الجانب الصهيوني. 

صحيح أن الثمن الذي دفعه الحزب كان باهظاً، لكن من الواضح أن ما حدث هو ليس رد فعل صهيوني على الصواريخ اللبنانية وتهجيرها لمستوطني الشمال الفلسطيني، بل هو تخطيط صهيوني لما حدث، بدأ بعيد الفشل العسكري في لبنان عام ٢٠٠٦ والانسحاب منه دون تحقيق الأهداف المرجوة، لكن ما يسجل ضد الحزب هو أنه لم يكن متحسباً للجهد الاستخباري الواسع والاختراق السهل لأجهزة الاتصالات، مما سهل الإطاحة بكثير من قياداته وعلى رأسهم أمين عام الحزب.

في العراق يدور الآن النقاش ذاته بين العراقيين الذين ينقسمون بين فريقين، الأول يؤمن بمفهوم وحدة الساحات وضرورة المشاركة في التصدي للكيان الصهيوني في هذه المرحلة، قبل تمكنه من التمدد لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو في حقيقته "إسرائيل الكبرى" الذي يشمل نصف العراق أيضاً. 

هكذا تقول الخارطة التي رفعها نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. أما الفريق الآخر فيقول إن العمليات ضد الكيان الصهيوني ستجر العراق إلى حرب لا علاقة له بها، وأن الوضع العراقي لا يتحمل أية ضغوط أمنية أو اقتصادية. هذا الفريق يرى أن عدم الانخراط في ردود على "إسرائيل" سيبقي العراق بعيدا عن أية مخاطر.

عملية مواجهة الخطر قبل وصوله إلى عقر الدار ليس بالأمر الجديد، فلكل دولة مجالها الحيوي الذي يؤثر في عمقها، مما يعني أنها تتصدى للخطر في هذا المجال قبل أن يصل إلى أراضي الدولة. بهذا المنطق تدخلت سوريا بعيد ٢٠٠٣ العام لدعم مجموعات مسلحة كانت تدعي مواجهة القوات الأميركية في العراق، رغم أنها كانت تقتل العراقيين على خلفية طائفية. 

الولايات المتحدة نفسها ترسل عشرات آلاف الجنود لخوض حروب في بلدان مختلفة، بذريعة محاربة الخطر في مصادره. الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قال بعد احتلال العراق إن أفضل ما حققه من تلك الحرب هو انه "نقل المعركة مع الإرهاب إلى ساحة العدو" في إشارة مواجهة الحركات الإرهابية التي تجمعت في العراق آنذاك، لكن واشنطن تقف اليوم بوجه كل الأطراف، التي تريد در الخطر عن بلدانها، قبل وصوله إلى أوطانها، في لبنان والعراق وغيرهما.

اضف تعليق