ومع تزايد آفاق المعارضة السياسية والمجتمع المدني في تركيا، والتراجع الاقتصادي وتزايد مستويات التضخم، مع دخول أردوغان عقده الثالث في السلطة، فإن هذه التحديات والمشاكل الدبلوماسية والمواجهات الاقليمية والدولية، قد تعزز خيارات الناخب التركي لاختيار بديل عن حزب العدالة والتنمية في المرحلة القادمة، كما حصل في...
منذ التغيير الحاصل في النظام السياسي التركي والتحول نحو النظام الرئاسي محل نظام الحكم البرلماني بعد تعديل الدستور في عام 2017، عزز الرئيس رجب طيب اردوغان سيطرته شبه الكاملة على البلاد، مقوضاً بذلك النظام الديمقراطي في البلاد، وفي ظل حكمه ذات النزعة الاستبدادية المتزايدة، أصبحت المعارضة أكثر خطورة وصعوداً، مع اعتقال العديد من قادتها، وشخصيات المجتمع المدني والصحفيين بناء على ما يعتبره معظم المراقبين تهماً ذات دوافع سياسية.
ومع ذلك، في العام الماضي، بدا أن الجمع بين الاقتصاد المتقلب، والاستجابة الطارئة الكارثية لزلازل شباط 2023، والمعارضة السياسية الموحدة، قد فرض على أردوغان أكبر تحدي انتخابي له خلال السنوات العشرين التي قضاها في السلطة، مع ذلك انتهى به الأمر بالفوز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر آيار 2023، لكن في الجولة الثانية وبنسبة 52%، مع تراجع نسبة الأصوات في نفس اليوم في الانتخابات البرلمانية إلى 36%. وحافظت حكومته الائتلافية على سيطرتها على البرلمان، لكن الانتخابات البلدية الأخيرة التي اجريت نهاية شهر اذار المنصرم، عانى فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم من خسائر فادحة، تشير إلى أن عصر هيمنة أردوغان قد اقترب من نهايته، مع تزايد شعبية واصوات حزب الشعب الجمهوري، وصعود مفاجئ لحزب الرفاه الجديد كمنافس قوي في الساحة الانتخابية التركية.
وعلى مدى العقد الماضي، اتبع أردوغان سياسة خارجية مغامرة وعدوانية عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط، مما وضع أنقرة على خلاف متزايد مع حلفائها في الناتو. وبعد شراء تركيا لنظام دفاع جوي روسي في تموز 2019، علقت واشنطن المشاركة التركية في برنامج الطائرات المقاتلة من الجيل التالي من طرازF-35، وأدت توغلات تركيا المتكررة في المياه في شرق البحر الأبيض المتوسط التي تطالب بها قبرص، فضلاً عن مواجهاتها مع السفن البحرية اليونانية والفرنسية في المنطقة إلى زيادة التوترات وإثارة قلق المراقبين، كما أن دعم أنقرة للإسلام السياسي منذ الانتفاضات العربية عام 2011، فضلاً عن دورها في الصراعات المسلحة المختلفة في الشرق الأوسط جعلها على خلاف مع دول الخليج ومصر.
ومع استعادة الرئيس الأمريكي جو بايدن نهجاً أكثر تقليدية في السياسة الخارجية الأمريكية وإدارة التحالفات، ووسط تحول في الشرق الأوسط نحو المشاركة الدبلوماسية، سعى أردوغان مؤخراً إلى تحسين العلاقات مع حلفاء تركيا وجيرانها.
ويبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا يزيد من إلحاح هذه الجهود، لكن ذلك لم يمنع أردوغان من ممارسة لعبة حافة الهاوية للحصول على تنازلات من السويد في مقابل رفع الحظر عن طلبات عضويتها في حلف شمال الأطلسي. ولم يتم حل أي من الأسباب الأساسية للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة وأوروبا حتى الآن، وهذا يعني أنه لا يمكن استبعاد العودة إلى المواجهة، خاصة إذا كانت تخدم المصالح السياسية الداخلية لأردوغان.
وفي الوقت نفسه، أدى تورط تركيا في الحرب الأهلية في سوريا إلى زيادة نفوذ أنقرة هناك، ولكن في بعض الأحيان وُضِع أردوغان في مواجهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المنافسة العسكرية والدبلوماسية؛ لتشكل تركيا لاعباً اساسياً في ذلك الصراع دون تحقيق اي اختراق جيوسياسي لتركيا لغاية الان، وبالمثل فإن تورطها في الحرب الأهلية الليبية نيابة عن حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة وضع تركيا على خلاف مع كل من روسيا التي تدعم قوات الجنرال خليفة حفتر، وشركاء أنقرة الأوروبيين الذين سعوا إلى فرض حظر تصدير الأسلحة، وحصار على الصناعات الدفاعية على تركيا اثر بشكل كبير على مغامراتها الخارجية.
وفي الآونة الأخيرة، أدى الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته تركيا لأذربيجان في حربها عام 2020 مع أرمينيا بشأن منطقة ناغورنو كاراباخ الانفصالية، إلى وضعها مرة أخرى في قلب صراع له آثار مباشرة على مصالح الأمن القومي الروسي. ومع ذلك، تمكن أردوغان من الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع بوتين، والتي حاول استغلالها للقيام بدور الوساطة في الحرب في أوكرانيا، وحقق بعض النجاح في بعض الأحيان، كما هو الحال مع مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب واشراك روسيا في الصادرات الزراعية.
ومنذ إعادة انتخابه في العام الماضي، أشار أردوغان إلى إعادة ضبط السياسة الخارجية مرة أخرى، حيث تبنى موقفاً أكثر تصالحية تجاه حلفاء تركيا في الناتو والشركاء الأوروبيين. ولكن كما هو الحال دائماً مع أردوغان، يمكن أن يتحول ذوبان الجليد اليوم بسهولة إلى مواجهة في الغد، وعودة ذلك الجليد كما هو، اعتمادًا على احتياجاته السياسية ومصالحه وتطلعاته.
وفق هذه المعطيات والظروف الداخلية والخارجية ماذا سيحدث بعد ذلك، هل ستبقى كاريزيما وشعبية اردوغان قائمة ام ستتراجع؟ خاصة ان الدستور لا يسمح لاردوغان الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2028، ما يعني ان حزب الشعب الجمهوري والاحزاب المنافسة من الممكن ان تتزايد اصواتها، مع عدم ترشح اردوغان الذي فاز مع حزبه في جميع الانتخابات في اخر 22 سنة مضت.
ومع تزايد آفاق المعارضة السياسية والمجتمع المدني في تركيا، والتراجع الاقتصادي وتزايد مستويات التضخم، مع دخول أردوغان عقده الثالث في السلطة، فإن هذه التحديات والمشاكل الدبلوماسية والمواجهات الاقليمية والدولية، قد تعزز خيارات الناخب التركي لاختيار بديل عن حزب العدالة والتنمية في المرحلة القادمة، كما حصل في الانتخابات البلدية مؤخراً.
لكن وفق التوجهات البراغماتية التي يمتاز بها اردوغان، وامكانية اجراء تعديلات دستورية جديدة مستغلاً الاغلبية البرلمانية التي حصل عليها ائتلافه الحاكم، يجعل الحديث عن تغيرات سياسية كبيرة مسار غير مستبعد في المدى المنظور، خاصة اذا ما اتبع اردوغان نهجاً تصالحياً في العلاقات مع الغرب، واستبدادياً مع المعارضة في الداخل.
اضف تعليق