دفعت بكل من الدولتين لذلك قوى غربية فضلاً عما اغراءهما من تواضع أداء القوات العسكرية الروسية في حربها الدائرة ضد أوكرانيا، فضلاً عما تعانيه روسيا من ضغوطات سياسية واقتصادية وهذا بمجمله يعد كابحاً للروس على مهاجمتهما أو منعهما من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والخروج من سياسة الحياد...
تقدمت فنلندا بطلب الانضمام لحلف شمال الأطلسي (NATO) في 15/5/2022 وتبعتها السويد. يعد هذا الحدث تطوراً خطيراً في الصراع المحتدم بين الاتحاد الروسي والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
سنبدأ البحث في تداعيات ذلك، بالمزامنة مع الحرب الروسية الأوكرانية وتعقد المشهد بعيداً عن تصورات لحلول قريبة تنهي حالة الحرب والعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
لابد من استعراض تاريخي يعيننا للفهم أكثر فيما قد أشرنا إليه. خمس من الدول الأوربية التزمت الحياد منذ فترات طويلة، وهي كل من سويسرا، فنلندا، السويد، النمسا، ايرلندا. سياسة الحياد تعني عدم الانضمام إلى أحلاف عسكرية؛ ولعل السبب الرئيس لهذا الموقف هو روسيا خاصةً بالنسبة لكل من فنلندا والسويد، ذلك لوجود حدود مشتركة، بحرية وبرية بالنسبة لفنلندا، إذ تبلغ الحدود البرية بينهما 1350 كم.
فنلندا كانت جزءاً من السويد، منذ القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر، وقد خاضا حروباً طويلة مع الروس، فقد بلغ عددها إحدى عشرة حرباً كبرى، يعزى السبب المباشر فيها إلى دوافع التوسع وتعزيز النفوذ في بحر البلطيق، الغني بالموارد المختلفة، ولموقعه الاستراتيجي الهام، والذي تتشاطأ هذه الدول سواحله. كانت حرب فلندا في العام 1809 آخر الحروب، إذ انتهت بتنازل السويد عن فنلندا لصالح روسيا القيصرية، لتصبح دوقية فلندا الكبرى تابعة إلى الإمبراطورية الروسية حتى العام 1917. السويد منذ ذلك الحين التزمت الحياد بعد أن اعيتها الحروب الكثيرة مع روسيا وسواها، إذ كانت آخر حرب خاضتها مع النرويج في العام 1814، والتزمت سياسة الحياد منذ العام 1834، وبقيت على هذا الحال حتى تقديم طلبها الآن بالانضمام لحلف شمال الأطلسي.
بعد الثورة البلشفية في روسيا في العام 1917 التي أسقطت الإمبراطورية الروسية، طلبت فلندا الاستقلال وحصلت عليه وأصبحت دولة مستقلة حتى العام 1939، عام اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي خضم أجواء الحرب هذه التي سادها خوف الجميع من الجميع وحالة الشك وفقدان اليقين، قررت ألمانيا النازية تحييد السوفييت في صراعها مع الدول الغربية الأخرى خاصةً بريطانيا وفرنسا، فوقعت اتفاقية عدم اعتداء مع السوفييت في العام 1939، إلا أن الاتحاد السوفيتي وقتها ظل خائفاً من احتلال ألمانيا له، مما دعاه للتفكير في حماية نفسه بوسائل مختلفة منها تغيير حدوده مع فنلندا، فطلب منها الدخول في مفاوضات يهدف من خلالها تغيير الحدود والتنازل له عن منطقة كاليان، وهي منطقة صراع تاريخي بين السويد والروس، كما طالبها بالتنازل عن مجموعة من الجزر في خليج فلندا على بحر البلطيق، وتأجيره ميناء هانكو لجعله قاعدة عسكرية، لقاء تنازله لفنلندا عن أراضٍ بديلة، وإذ رفضت فلندا الإذعان لمطالبه، دفع الاتحاد السوفيتي لتحقيق ما يرنو إليه عبر الحرب.
سميت تلك الحرب، حرب الشتاء في شهر نوفمبر من عام 1939، وانتهت في شهر مارس من عام 1940. تكبد الاتحاد السوفيتي حينها خسائر فادحة، إلا أنه تمكن من إلحاق الهزيمة بفنلندا واجبرها على الاستسلام وفرض مطالبه. دفع سوء أداء القوات السوفيتية في بداية تلك الحرب ونما مطامع ادولف هتلر في مهاجمة الاتحاد السوفيتي الذي تراءى له فيه دب من ورق وان عليه غزوه، فتم ذاك في شهر يونيو من العام 1941، وقد انضمت فنلندا إلى ألمانيا في حربها ضد السوفييت، رغبة منها في استعادة ما أخذه السوفييت منها بالقوة.
بعد هزيمة ألمانيا غدت فنلندا أمام السوفييت وجها لوجه، مما أجبرها على توقيع معاهدة استسلام في العام 1948، بموجبها تعهدت أن تكون دولة مستقلة محايدة. اخذت دولة فنلندا ذات المساحة الصغيرة درساً قاسياً من تلك الحروب، إذ يبلغ إجمالي مساحتها 333,440 ألف كم، ونفوسها زهاء 5.5 مليون نسمة، وأدركت أنها مهددة دائماً سواء من الاتحاد السوفيتي السابق أو من الاتحاد الروسي الحالي، فقررت حشد طاقتها لبناء قدرات عسكرية، برية وبحرية وجوية قوية.
كذلك بالنسبة للسويد أخذت كشقيقتها فنلندا موقف الحياد، إذ استقرت رؤى غالبية احزابها وقواها السياسية أن خلاف ذلك سيكون موقفاً ضاراً بأمن ومصالح الدولة. ما غير من موقف الدولتين وسياسة الحياد لهما الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد تجدد وتصاعد منسوب الخوف عندهما، وأخذت الأسئلة تتوالى والأصوات تتعالى، ما هو الذي يمنع روسيا من احتلالهما، خاصةً بعد غزوهم لأبناء جلدتهم، وبالتالي فما عسى أن نكون نحن عليه ؟!
كما دفعت بكل من الدولتين لذلك قوى غربية في طليعتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فضلاً عما اغراءهما من تواضع أداء القوات العسكرية الروسية في حربها الدائرة ضد أوكرانيا، فضلاً عما تعانيه روسيا من ضغوطات سياسية واقتصادية وهذا بمجمله يعد كابحاً للروس على مهاجمتهما أو منعهما من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والخروج من سياسة الحياد.
أيضاً ثمة منافع للدول الغربية الفاعلة في ضم كل من الدولتين لحلف شمال الأطلسي، منها توسعة مساحة الصراع لزيادة المتاعب الروسية والتعجيل في استنزاف قدراتها، وقد نلحظ ذلك جلياً فيما صرح به الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن في اجتماعه مع الرئيس الفنلندي ورئيس الوزراء السويدي في واشنطن في 19 مايو 2022، من أن انضمام الدولتين يعد إضافة لقدرات الجميع، السياسية والاقتصادية والأمنية، كما تعهد بالدفاع عنهما ضد أي تهديد حتى قبل قبول طلب انضمامها رسمياً لحلف شمال الأطلسي.
يبقى السؤال المركزي، ما هو الذي سيكون عليه موقف الاتحاد الروسي من انضمام الدولتين لحلف شمال الأطلسي بعد تحذيرات صناع القرار الروسي من مخاطرة، وما هي المشاهد المحتملة لنوع وشكل ردة الفعل الروسي ؟
جاء في الرد السياسي لصناع القرار الروسي كما يأتي:
1. في كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي المنعقدة في موسكو بتاريخ 16/ 5/ 2022 ورد فيها: (ثمة مشكلة يتم اصطناعها لأجل المصلحة الخارجية للولايات المتحدة، وكأداة لسياستها الخارجية وبشكل عدائي للتأثير على أمن المنطقة، وأن انضمام فنلندا والسويد اللتان ليس لنا مشكلات معهما، وليس من تهديد لنا إزاءهم، وان التوسع في البنية التحتية لهذا الحلف سوف يتطلب رداً، وسوف نرى ما هي التهديدات التي ستتشكل ونحن سنرد وفق ذلك، إذ يعملون على خلق مشكلة في مكان فارغ، ويعد هذا التوسع الذي يخرج عن مجال عمله للتأثير على الدول في مناطق أخرى من العالم، وهذا يتطلب اهتماماً خاصاً من جهتنا).
2. (إن رد روسيا سيكون مفاجئاً، ولكن الإجراءات ستكون عسكرية)، هذا ما جاء به تصريح وزارة الخارجية الروسية على لسان الناطقة باسمها زخروفا، رداً على طلب كل من فنلندا والسويد للانضمام لحلف شمال الأطلسي.
ومن خلال ما تقدم يمكن رسم أكثر من مشهد لما قد تكون عليه ردود الفعل الروسية، ولعل أبرز ما يمكن رسمه مشهدين:
1. نشر أسلحة استراتيجية نووية في بحر البلطيق، وبذلك تعاد للأذهان أزمة جزيرة ام الخنازير مطلع الستينيات من العقد المنصرم بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، التي كادت تشعل حرباً نووية بينهما، مع الأخذ بنظر الاعتبار تعقد المشهد الحالي أكثر من تلك الأزمة، وبالتالي تصبح المواجهة النووية أمراً مرجحاّ إلى حد كبير، سواء طالت ام قصرت المدة في إدارة هذه الأزمة من قبل أطرافها.
2. أن توجه روسيا ضربات عسكرية صاروخية لإحدى الدولتين أو كلاهما، كرسائل ردع فعلية، مما يرجح هذا المشهد، موقف الكرملين الروسي، إذ أكد (إن موسكو ستكون مضطرة لاتخاذ إجراءات عسكرية وتقنية للحفاظ على أمنها)، وعليه فإن الرد العسكري الروسي سيكون عبر تلكم الوسيلة، إذ يصعب عليها الوقوف مكتوفة الأيدي أو حشد قوات عسكرية على حدودها مع هاتين الدولتين خاصةً فنلندا التي تشترك معها بحدود برية طويلة كما أسلفنا، كون ذلك يستلزم وقتاً طويلاً واستعدادات مسبقة لم تقم بها روسيا قبل طلب انضمام كلا الدولتين، وبالتالي سيكون الرد الروسي وفقاً لما ذكر، ولعله المشهد الأكثر ترجيحاّ من سلفه.
وفي الختام، فإن كل ما يتم تداوله حتى الآن حيال هذه الأزمة، يدخل في سياق الحرب السياسية حد اوردغان إزاء طلب الانضمام. ومع كل ما تقدم قد تأخذ الأزمة اتجاهات مفتوحة ومختلفة وفق ما تم عرضه، لسرعة تصاعد الأحداث وتعقد الأزمة وشلل كل الأطراف المتفاعلة فيها أو غيرها مما كان يعول عليه في إيجاد تسوية لها، كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
اضف تعليق