لا نريد في الأيام القادمة ان نخلق نوع من التنوع الطائفي بين المحافظات المعروفة بلونها؛ كون ذلك يعد ضربا من ضروب الخيال، لكن يبقى الشيء الذي يمكن تحقيقه هو تعزيز المواطنة القائمة على العامل المشترك والمصير الواحد، وخير دليل على ذلك هو التصدي الشجاع من قبل أبناء الوسط والجنوب وغيرهم...
من حسنات الزمن الماضي رغم صعوبة الحياة فيه وما لاقاه الافراد من تحديات تنم عن القسوة الكبيرة التي انتشرت خلال الفترات السابقة وكان لابد من ان يتعرض لها الانسان، تبقى هنالك حسنة يجب الوقوف عندها وهي الاختلاط الاجتماعي الذي كان سائدا بين المدن العراقية حينذاك، ففي السابق كان ابن الجنوب يقضي وقتا طويلا في المناطق او المحافظات الشمالية بهدف المتعة او زيارة قريب او صديق، والعكس صحيح، اذ يمكن ان تشاهد مواطنين من كركوك والموصل يتجولون في شوارع النجف الاشرف وكربلاء وهكذا.
التواصل في السابق بين أبناء المحافظات على اختلاف طوائفها، كان من الأشياء الإيجابية، وخلق علاقات وروابط اجتماعية متينة ورصينة، وقد تتفق الجميع على ان العلاقات المولودة بين الافراد في الحقبة الزمنية السابقة عامرة الى الآن، ولا تزال الزيارات متواصلة في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والاحزان فضلا عن المناسبات الدينية.
شيوع حالات الأمان والاستقرار وفرت على الملايين من العراقيين موضوعة التعرف على العادات والتقاليد الاجتماعية لمختلف المناطق، فنجد ابن جنوب البلاد، على دراية واسعة بما يسود في المحافظات الغربية من أسلوب حياة، وفي المقابل، يفقه أبناء المحافظات الغربية كل ما يحصل ويتعلق بالأعراف العشائرية الجنوبية، ووفق هذه المعادلة تسير الأمور طيلة الفترات الزمنية المنقضية.
دعونا نتكلم بصراحة أكثر من المرات السابقة، وقد يعيب علينا أحد هذه الصراحة المطلقة، جميع شرائح المجتمع تتخوف من قانون الأقاليم الذي اقره الدستور العراقي، وواجه رفضا قاطعا من اغلب المحافظات العراقية، الا محافظات الإقليم التي تطالب بالعلن بمزيد من الحقوق المالية والإدارية، الى جانب المطالبة ببعض الأجزاء التي استقطعت من قبل النظام السابق وضمت الى محافظات أخرى لدواع سياسية لا غير.
على الرغم من الرفض المتكرر الا ان الأقاليم قائمة على ارض الواقع، فمن يسكن بمنطقة من مناطق البلد، يكون من الصعب عليه الوصول الى المناطق التي تتميز بلون اجتماعي معين والصعوبة تكمن في الخوف غير المبرر، بمجرد السماع بأن فلان من المحافظة الفلانية يخطر الى ذهنك الهوية الطائفية التي يحملها هذا الشخص، وقد تتعامل معه بنوع من الحذر لحين معرفة طريقة تفكيره وكيف ينظر الى الأشياء التي حصلت بعد تغيير النظام.
وقد يكون لأول مرة تحتاج الى كفيل للدخول لأحدى المحافظات الجنوبية، وكذلك الدخول الى الشمال العراقي توجد آلية معينة، وان يحمل ذلك دلائل فدلالته ان العراق مقسم فعليا وتبقى الوحدة بين مدنه ومناطقه قائمة بصورة شكلية بعيدة كل البعد عن الواقع الملموس.
لقد عملت جهات عديدة ومن جميع الطوائف على تكريس هذه الحالة، وجعلت نسبة لا يستهان بها من أبناء الشعب العراقي، لا يعرفون أسماء المدن في بعض المحافظات الوسطى والجنوبية، ودفعت بتجاه التفرقة والسعي المتواصل لقطع الشرايين التي تتدفق عبرها المشاعر والمحبة والتآلف بين أطياف الشعب الواحد، ونجحت الى حد كبير بعزل أجيال عن بعضها في المحافظات المختلفة معها طائفيا وفكريا لكنها تعيش على ارض واحدة ومصيرها مشترك.
وبرزت نتيجة هذا التحشيد النزاعات الطائفية في السنوات التي أعقبت تغيير النظام وصار من الصعب او الاستحالة التجول او الذهاب لقضاء مصلحة ما في منطقة ذات طبيعة طائفية مختلفة عنك، وراح ضحية هذه الحرب المفتعلة عشرات الأبرياء الذين ذهبوا وقود لمعارك امراءها يقطنون في أرقى الأماكن ويحركون الاحداث بأدوات الطائفية والعنصرية والتفرقة المقيتة.
وفي عودة على الحسنات التي خلفها لنا الماضي القريب ومن بينها هي صهر الهويات الفرعية، وعدم التنابز بالألقاب الا قليلا، اما اليوم فنجد هذه الأمور حاضرة وبكثافة لا يمكن نكرانها، أضف الى ذلك بروز حالة التباعد الاجتماعي بصورة غير متوقعة، فالناس ليس لديهم رغبة الالتقاء بالناس من جنسهم او أبناء منطقتهم او المدينة، والكل منشغل عن العالم المحيط فيه.
وفي المرحلة الحالية أيضا تولدت مفاهيم وتسميات جديدة مستندة على الخلفية الدينية، وقد أدى ذلك تعميق الخلافات وصولا الى المواقع الحساسة في السلطة، فالعملية السياسية اليوم تعاني من التخندق، وعدم استيعاب الآخر والتعاطي معه وفق حجمه الانتخابي وليس على أساس وزنه الحزبي، وبالتالي وصلنا الى ما يعرف اليوم بالانسداد السياسي الذي خلف لنا مأساة لا تقل عن مأساة السنوات السوداوية الماضية.
وقد يكون من المستحيل تكرار السنوات الماضية التي انقضت بحالة من التوائم والتقارب الكبيرين بين طبقات الشعب العراقي، ويعود الخلل للأسباب التي ذكرت في السطور السابقة، فلا تزال كل محافظة تمثل إقليما منفصلا عن الإقليم الآخر من جميع النواحي، ولعل من الأمور السلبية الأخرى، هو ضعف التبادل التجاري بين المحافظات العراقية كافة، اذ يوجد بجميع المدن ما يوجد في المدن الأخرى وبالنتيجة ضعف حجم التبادل وقلت فرص التعارف المتقابل.
لا نريد في الأيام القادمة ان نخلق نوع من التنوع الطائفي بين المحافظات المعروفة بلونها؛ كون ذلك يعد ضربا من ضروب الخيال، لكن يبقى الشيء الذي يمكن تحقيقه هو تعزيز المواطنة القائمة على العامل المشترك والمصير الواحد، وخير دليل على ذلك هو التصدي الشجاع من قبل أبناء الوسط والجنوب وغيرهم من أبناء المحافظات الأخرى الى العصابات الاجرامية التي احتلت الموصل وزحفت على المناطق المجاورة.
اضف تعليق