q
ثمة ما يدعو للتساؤل، حتى لا نقول الشك والريبة، في سلوك كل من دمشق وموسكو، وردود أفعالهما على العدوان التركي على شمالي شرق سوريا روسيا تنبري للتصدي لأي محاولة لإدانة العدوان، بل وتقف ضد المطالبات بوقف عملياته الحربية فوراً والاعلام السوري منشغل على نحو غير...

ثمة ما يدعو للتساؤل، حتى لا نقول الشك والريبة، في سلوك كل من دمشق وموسكو، وردود أفعالهما على العدوان التركي على شمالي – شرق سوريا... روسيا تنبري للتصدي لأي محاولة لإدانة العدوان، بل وتقف ضد المطالبات بوقف عملياته الحربية فوراً... والاعلام السوري منشغل على نحو غير مسبوق، بالهجوم على "العملاء والخونة من الانفصاليين الأكراد"، بأكثر من انشغاله في التصدي للعدوان والمعتدين، ما الذي يجري؟ وكيف يمكن تفسير هذا الموقف وذاك؟

بعد البحث والتنقيب، أمكن لكاتب هذه السطور الحصول على تفسيرين اثنين... الأول؛ ويدرج الموقفين الروسي والسوري في سياق "تكتيك الضغوط القصوى" على الأكراد، لحملهم على تقديم تنازلات جوهرية لدمشق، والسماح للجيش السوري بعبور مناطق سيطرتهم قبل فوات الأوان، إن لم يكن على امتداد الشريط الحدودي، ففي عمق المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية، وهي تزيد عن ربع مساحة سوريا على أية حال.

والثاني؛ وله سياق آخر، ويتحدث عن لقاءات رفيعة المستوى، رعتها موسكو بتشجيع من طهران، بهدف التوسط بين أنقرة ودمشق، للخلاص من التهديد المشترك المتمثل في "الكيانية الكردية الانفصالية"، المدعومة من واشنطن وإسرائيل وبعض الحلفاء... في هذا السياق، يشار إلى لقاء جرى في موسكو في آب الماضي بين رجلي سوريا وتركيا القويين: اللواء علي مملوك والجنرال حاقان فيدان... علماً بأنه سبق لمصادر متعددة، أن تحدثت عن "لقاءات أمنية" تركية سورية، حتى أن الصحفي التركي الذي أجرى مقابلة مع الرئيس بشار الأسد نقل عنه تأكيده لحدوث مثل هذه اللقاءات، قبل أن تعود الرئاسة السورية إلى نفي الأمر برمته، واتهام الصحفي بعدم الدقة والأمانة في نقل أقوال الرئيس.

لكل تفسير من هذين التفسيرين، سياقاته وتداعياته المختلفة... إن كان في أمر تكثيفاً للضغوط على الأكراد لتسليم مناطق سيطرتهم للجيش السوري قبل أن يداهمها الأتراك، فهذا سيناريو يستبطن مواجهة محتملة مع تركيا، وعدم رضا في كل الأحوال عن قيامها بمحاولة تصفية الجيب الكردي، الذي تضخمت أحلامه ورفع الأمريكيون والأوروبيون من سقف توقعاته... وإن جاء العدوان التركي ثمرة لـ "تفاهمات" بين أنقرة ودمشق، فلنا أن ننتظر لقاءات سورية – تركية متعددة القنوات والمستويات في المرحلة القادمة... ولنا أن ننتظر "تفعيلاً" لاتفاق أضنة – 1998، وربما توسيعاً أو تطويراً له... كل واحد من التفسيرين يفضي إلى نتائج مغايرة.

لكن أنصار نظرية "التفاهمات المسبقة"، السورية – التركية، ودائماً عبر الوسيط الروسي وبضوء أخضر إيراني، ينقسمون إلى فريقين حين يتعلق الأمر بمضامين هذه التفاهمات، الفريق الأول، الذي أشرنا إليه، وينطلق من فرضية "المصلحة المشتركة في القضاء على العدو الكردي المشترك"... وفريقٍ ثانٍ، يقترح أن مقايضة أخرى قد حصلت، ولكن في مطرح آخر، تعطي بموجبها موسكو ودمشق وطهران، ضوءاً أخضراً للخلاص من الفريق الكردي المزعج... في المقابل، يحصل الحلفاء الثلاثة على ضوء أخضر تركي، باسترداد السيطرة على إدلب وجوارها، وتمكين دمشق من تنظيف الشمال الغربي من الجماعات الإرهابية، مع التأكيد على الحاجة لتجنب مناطق عمل "درع الفرات" و"غصن الزيتون" بالطبع.

نحن لا نعرف حقيقةً ما الذي يجري في كواليس الأمن والسياسة التي تحيط بعملية "نبع السلام"، بيد أن المراقبين محقين حين يطلقون لمخيلاتهم الأعنّة، ويرسمون مختلف السيناريوهات ويتكهنون بكثير من الاحتمالات، فلا رد فعل موسكو مفهوماً، ولا الحرب السياسية الإعلامية الشرسة التي تخوضها دمشق ضد أكراد "قسد"، مفهومة كذلك، سيما وأنها ليست مسبوقة بهذه الدرجة من الحدة والاتهامية، والتي تكاد تعيد انتاج الخطاب التركي حيال وحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية..

بين سيناريوهين: "الاسكندرون" و"شمال قبرص"

أن تجد تركيا صعوبة في إلحاق مناطق شرق الفرات وغربه بمصير "لواء الاسكندرون"، فهذا لا ينبغي أن يكون سبباً للإحساس بـ"فائض الطُمأنينة"، أو الركون إلى "الوعود المعسولة" التي لا يكف رجب طيب أردوغان عن قطعها للسوريين والأتراك والعرب والمجتمع الدولي... فشمال قبرص ينهض كشاهد عيان، حيّ وعابر للحكومات والأنظمة المدنية والعسكرية التركية، إذ مضى على احتلاله قرابة الخمسة عقود، من دون أن تلوح في الأفق، بوادر حل سياسي وشيك، بل أن الأزمة القبرصية ما فتأت تتعقد وتتفاقم على وقع الاكتشافات الأخيرة للطاقة من غاز من ونفط.

نحن في مختتم العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولسنا في ثلاثينيات القرن الفائت، وقد يكون من المتعذر على تركيا أن تبرر ضمها وإلحاقها لأراضي دولة عضو في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة، وحدودها مرسّمة بدقة معها... بيد أن ذلك لن يمنع أنقرة، من البحث عن حجج وذرائع، لإدامة احتلالها وتكريس هيمنتها واستتباعها للمنطقة، بل وربما العمل على "تتريكها"، تارة بحجة قتال "الإرهابيين الانفصاليين"، وأخرى بذريعة قتال "الجهاد العالمي"، وثالثة لحماية الأقليات، ورابعة لمنع النظام "الذي يقتل شعبه" من الوصول إلى هذه المناطق، وخامسة وسادسة وسابعة.

وسوف تزداد فرص "سيناريو شمال قبرص" وترتفع حظوظه، إن أمكن للقوات التركية والفصائل المحسوبة عليها والمدعومة منها، التوسع في عمليات التطهير العرقي، وإعادة "هندسة ديموغرافيا" الإقليم الشمالي، بما يقضي على "الكريدور الكردي" ويُحِل محله " شريط عربي – سني... يبدو أن الفيديوهات التي صَورت عمليات الإعدام بدم بارد لمدنيين وسياسيين وأسرى أكراد، لم تُنشر عن طريق الخطأ أو الصدفة، يبدو أن المقصود منها ترهيب السكان، ودفع أعداد أكبر منهم للهجرة من مدنهم وقراهم، في استعادة مخجلة لتكتيكات العصابات الصهيونية في فلسطين.

وليس مستبعداً أبداً، أن يحصل في قرى الشمال الشرقي والغربي على حد سواء، ما حصل في شمال قبرص، عندما جرى نقل ألوف الأتراك إلى تلك المنطقة، وإعادة توطينهم في المدن اليونانية المحتلة، ودائماً في سياق إعادة "هندسة الديموغرافيا"... في قبرص جرى الأمر تحت مظلة الهوية التركية لقبارصة الشمال، وفي سوريا قد يجري الأمر تحت غطاء "التركمان" الذين طالما "نفخت" تركيا في أحجامهم، وبالغت في تقدير أعدادهم.

على أن مهمة تركيا في شمال سوريا، لن تكون يسيرة أبداً... فالأكراد السوريين، وحتى بفرض هزيمتهم في المعارك الواسعة والمفتوحة مع الجيش الغازي، لن يتوقفوا عن مقاومة الوجود التركي العسكري والمدني، حتى وإن تغطى بميليشيات عملية، تستعير من "داعش" فنون التوحش وإدارته، وبعضها كان منخرطاً في صفوف النصرة وداعش كما تقول التقارير... وهم في حربهم ضد الأتراك، سيجدون دعماً متعاظماً من أكراد الإقليم برمته، إذ حتى الأكراد المقربين من أنقرة (البارزاني)، اجتاحتهم مشاعر الغضب وهم يرون الدبابات التركية تجتاز خط الحدود مع سوريا من شمالها الشرقي... ثم أن لتركيا خصوماً دوليين وإقليميين، لن يفوتوا الفرصة أبداً، لجعل الشمال السوري، مستنقعاً لتركيا، أمنيا واقتصادياً وبشرياً... فتركيا تخوض معركة "المنطقة الآمنة" معزولة إلا من دعم قطر والصومال وجماعة الإخوان المسلمين.

عملية "نبع السلام" لا ينسجم اسمها مع مضمونها ومراميها، فهي لن تجلب السلام والاستقرار، لا لتركيا ولا لشمال سوريا ولاجئيها... أما "نبعها" فسيفيض بكل شياطين الكراهية والعنف والإرهاب في المنطقة، ولن تنجو دول الإقليم برمته من تداعياتها وشظاياها.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق