منذ عام 2003م والى يومنا هذا تتعالى الأصوات من على شتى المنابر حول المصالحة الوطنية وأهميتها وضرورتها، في المقابل ومن نفس تلك الأصوات تغيب تلك الجرأة التي تحدد الهدف الحقيقي منها في مؤشر أول عليها، أما المؤشر الآخر هو مع من هذه المصالحة تكون؟

هذا ما يسجله المراقبون والمتابعون للوضع العراقي وعموم من يهمه ويعنيه هذا الأمر في داخل العراق وخارجه، وبالتالي يتضح أنها ليست أكثر من مادة استهلاكية للبرامج التلفزيونية أو مادة سردية دعائية فارغة للكثير من الخطب السياسية للفرقاء العراقيين بمختلف مواقعهم السياسية والإدارية والأدهى من ذلك أصبحت مبررا لاستنزاف الكثير من أموال خزينة الدولة التي صرفت على البرامج والمؤتمرات والمؤسسات التي فتحت وأقيمت من اجل المصالحة الوطنية أسئلة أخرى أيضاً تطرح حول هذا الموضوع وهي بحاجة إلى إجابات من مثل:

1- هل المصالحة الوطنية بين الكتل السياسية بنخبها وتياراتها المتناحرة أم بين أطياف الشعب العراقي؟ وهنا لابد من الإشارة الى أن المجتمع العراقي ومن خلال الكثير من الوقائع والإحداث وأيضا من خلال ما يبرزه الإعلام ينادي ويؤكد انه غير معني بالمصالحة الوطنية وإنما المعني بها هم النخب والتيارات السياسية والكتل المتناحرة.

2- هل المصالحة بين الشعب العراقي من جانب والإرهابيين التكفيريين من جانب آخر والتي تختلف مسمياتهم بين الحين والأخر، من الذين مارسوا ولازالوا يمارسون القتل والتهجير ضد كل أبناء الشعب العراقي من قوميات ومذاهب وأعراق مختلفة؟ الجواب هنا ان هؤلاء لم تقبل بالتصالح معهم أي امة أو قومية أو ديانة أو أي فئة تركن إلى السلام وتحترم مبدأ التعايش.

3- هل المصالحة مع أتباع النظام المقبور بمختلف تشكيلاته الأمنية والحزبية التي كانت عماد مقومات حكمه؟ وهنا السؤال يطرح نفسه أيضاً أين ذهبت تلك التشكيلات المختلفة بعد زوال النظام السابق وأين هم اليوم؟ الجواب على ذلك هو أن اغلب هؤلاء عادوا إلى المؤسسات الرسمية والبعض منهم في مواقع قيادية وإدارية مهمة في إدارة الدولة والبعض الآخر أحيل إلى التقاعد والبعض ذهب إلى خارج الوطن.

من خلال ما تقدم يتضح أن المصالحة هي خطاب تسويقي ليس أكثر؛ لأن المصالحة الوطنية وكما طبقت في مختلف دول العالم تستهدف الآتي:

1- تفعيل مؤسسات رسمية معطلة بسب التناقض في الايدولوجيا والاختلاف الديني والتناحر الطائفي والقومي بين أبناء الشعب الواحد.

2- وجود حالة فراغ بسبب التحول من نظام شمولي إلى نظام مدني دستوري تكون فيه المصالحة الوطنية هي الرافد المغذي والجسر الواصل بين المرحلتين.

3- إقامة الكثير من البرامج التعليمية والأكاديمية والدينية والإعلامية الحقيقية وكل ما من شأنه حمل أبناء الشعب الواحد على تناسي الماضي والنظر إلى المستقبل.

يؤشر الكثير من المراقبين أن المصالحة الوطنية في العراق تفتقر إلى اغلب مقوماتها ومفاهيمها وماهيتها؛ فهي اصطلحت وسوقت لمعالجة واقع ضروري فرضته التحولات التي طرأت على البلاد منذ عام 2003 إلا أن الواقع غير ذلك ليس بحاجة الى مصالحة بل بحاجة إلى مشاريع وبرامج تختلف كلياً عن مشروع المصالحة.

إن المصالحة في العراق أقحمت بمفردة الوطنية رغما" عنها دون أي مبرر والأجدر أن تحل محلها مفردة السياسية لأنها معنية بالطبقة السياسية لا غيرها، إن توصيف المصالحة في العراق بحاجة إلى إعادة النظر فيها لتوجيهها باتجاه المعنيين بها وهم الطبقة السياسية، إضافة إلى ذلك فإن مشروع أو برنامج أو خطاب المصالحة في العراق اختلف عن كل التجارب في العالم وللأسف الكثير من رواده في هذا البلد والذين حاولوا استنساخ تجارب عالمية سبقت في هذا المضمار، منها التجربة الألمانية بعد سقوط النازية، وكذلك تجربة النظام العنصري في جنوب أفريقيا، وتجربة الجزائر، تلك الدول التي وظفت فيها مشاريع المصالحة الوطنية كانت ظروفها ووقائع ما جرى فيها يختلف عن ما حدث ويحدث في العراق.

فمثلاً النظام النازي قبل سقوطه اصطف معه معظم الشعب الألماني آنذاك بعقائد قومية وتوسعية ترسخت وأصبحت عبارة عن منظومة قيم وطموحات لدى شريحة واسعة من الشعب الألماني في المقابل كانت هنالك شريحة أخرى بالضد من هذه المعتقدات لذلك كانت المصالحة بعد الحرب العالمية الثانية هي بين فريقين من الشعب كل منهما له متبنياته ومعتقداته وليس مع النظام الذي أطيح به.

كذلك في جنوب أفريقيا التي سلم فيها نظام الفصل العنصري السلطة الى نلسون مانديلا دون قتال وتحت الضغوط الداخلية والخارجية وبذلك كانت المصالحة بعد ذهاب ذلك النظام بين عرقين من الشعب هما العرق الأبيض والعرق الأسود، الجزائر كذلك كانت فيها المصالحة بين أنصار الجبهة الإسلامية المتشددة التي حاولت تطبيق أهدافها ومنطلقاتها دون مراعاة مكونات مجتمعية أوربية مهاجرة استقرت في هذا البلد وكذلك قوى ليبرالية ومدنية أخرى ترفض تلك الأهداف والمنطلقات.

في العراق النظام الذي كان يحكم ولفترة أكثر من ثلاثين عام لم يكن اقل قساوةً من النظام النازي أو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا او غيره من الأنظمة الدكتاتورية في العالم، إلا انه في المقابل كان مجرداً من القاعدة الجماهيرية التي تسانده وتدين له الولاء والإيمان المطلق كما ذكرنا في الأمثلة السابقة، فهو وان كانت معه بعض التشكيلات الأمنية والعسكرية التي لم تسانده بأي شكل من الإشكال في أيامه الأخيرة اذ أنها تركته في نهاية المطاف ولم تبق معه، على المستوى الشعبي بعد سقوطه لم تكن هنالك مجتمعات أو مدن أو غيرها في العراق متناحرة أو متضادة، الصدام كان بين أفراد محسوبين على مكون ما سواء كان هذا أو ذاك أو قومية هذه أو تلك، الممارسة السياسية التي أخذت طابعاً دستوريا بآلياتها الديمقراطية خلقت أجواء تنافسية بين قوى سياسية لم تجد وسيلة أنجع في الوصول إلى السلطة والحصول على المكتسبات النفعية وغيرها إلا بتحريك المشاعر الطائفية والفئوية لدى هذا الجمهور، وبذلك اذكت التمايز الطائفي والقومي في العراق وأصبحت الطائفة والقومية المعيار الوحيد في وصول الشخص ومن ثم الفريق أو الكتل السياسية الى السلطة وإدارة الدولة العراقية وهذا يختلف عن أسلوب وممارسة الديمقراطية في العالم، فأكثر من دورة تشريعية تذكى الانتماء الطائفي والقومي في العراق من قبل هذا الفصيل أو الكتلة السياسية أو تلك أوصلتنا اليوم إلى مجتمع عرضة للتقسيم والتدخلات الإقليمية والدولية وفسحت المجال الواسع لدخول التنظيمات التكفيرية للبلاد فاستباحت البلاد والعباد.

من كل ما تقدم نستخلص: ما يعانيه العراق سببه الطبقة السياسية والثقافة التي تركتها على المجتمع والتي اذكت من خلالها الكثير من الاختلافات التاريخية سواء كانت دينية أو طائفية أو قومية او عرقية، والمصالحة الوطنية في العراق بحاجة إلى إعادة تسمية وتوصيف لتكون بين السياسيين أنفسهم لا بين الشعب، أما الشعب فهو بحاجة إلى جهد يبذله من لديه الحكمة والسلطة والموعظة الحسنة لينبهه بما حدث له وكيف استغفل من قبل طبقته السياسية.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق