q
يوم بعد آخر تتكشّف الحاجة القصوى في مجتمعنا لثقافة الحقوق أو الثقافة المدنية لكل الأقطاب والمكونات والعناصر، سواء تلك المنتمية للأجهزة الحكومية أو ما يختص بالنسيج الجماهيري الشعبي، ومصدر أهمية هذه الحاجة ينطلق من تخلخل الأوضاع في بلدنا العراق آنيا ومستقبليا، وكما يجري ذلك في معظم الدول المتاخمة لنا...

يوم بعد آخر تتكشّف الحاجة القصوى في مجتمعنا لثقافة الحقوق أو الثقافة المدنية لكل الأقطاب والمكونات والعناصر، سواء تلك المنتمية للأجهزة الحكومية أو ما يختص بالنسيج الجماهيري الشعبي، ومصدر أهمية هذه الحاجة ينطلق من تخلخل الأوضاع في بلدنا العراق آنيا ومستقبليا، وكما يجري ذلك في معظم الدول المتاخمة لنا، كدول الجوار أو الأبعد ضمن إطار الشرق الأوسط، لكننا في العراق نستشف خللاً فادحا ونقصا بائناً في هذا النوع من الثقافة، على الأخص لدى رجل الأمن، وقد لا يقل المواطن ضعفا عن غيره في فهم الثقافة المدنية واستيعاب مدلولاتها، فثمة الكثير من الناس لا يفهمون حقوقهم ولا يعرفون كيف يحافظون عليها بل وقد يجهلون كيفية المطالبة بها أو الأساليب التي تتيح لهم استردادها وتثبيتها.

وحين نطالع بعض تجارب التثقيف المدني، سنلحظ أن الدول المحترمة الحضارية التي تحكم باسم الشعب، وبحسب دستور شرعي مستفتى عليه يحدد حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم، ستكون الأجهزة الحكومية في خدمة الشعب وبالخصوص - الأمنيّة- منها، وكنا نتمنى أن يتحقق ذلك على أرض الواقع كحقيقة في بلداننا، لنشاهد التعاون الحقيقي والثقة بين أفراد الشعب المدنيين من جهة وأفراد المؤسسة العسكرية وبقية الأجهزة الأمنية من جهة أخرى، للمساهمة في بناء وطن يستوعب الجميع بدلالة الانتماء إليه، وطن حضاري تُحترم فيه حقوق الإنسان، وتُعرَف فيه حدود الحريات التي تُحمى من قبل الأجهزة الأمنية لأنها مكسب شعبي حقوقي عام، يدل على ثقافة مدنية يُشار لها بالرضا والبنان، فما هي السُبل التي يمكن بوساطتها بلوِرة علاقة ثقة بين المواطن ورجل الأمن، وكيف يتعلّم كل منهما المحافظة على الحقوق المدنية، وما هي الثقافة التي يمكن غرسها في المجتمع حتى نحصل على شروط ضامنة لسلوك رسمي متمدن لعنصر الأمن يحكمه القانون وتدعمه القيم الاجتماعية وفي ذات الوقت كيف يتعلم المواطن أن يطالب بحقوقه بالطريقة ذاتها، أي عبر الثقافة المدنية والأسلوب السلمي الذي يبعد المجتمع عن شرور التطاحن والفتن، وفي نفس الوقت يدفع باتجاه حماية الحقوق والحريات.

إن المعادلة في أعلاه والتي تذهب إلى الموازنة بين الثقافة المدنية وحق التظاهر والمطالبة بالحقوق من جهة، وبين الحفاظ على هيكلية هذه الحقوق من الاختراقات التي قد تدفع بها باتجاه التصعيد لدرجة إحداث تصادمات بين المواطنين وأجهزة الأمن، الأمر الذي لا يُحمَد عقباه كما لوحِظ ذلك في البصرة خلال هذا الأيام القلائل، فقد تبيّن الخلل في العلاقة بين الطرفين، المواطن ورجل الأمن، وقد حصلت أحداث مؤسفة على الرغم من أن الطرفين ينتميان إلى شعب واحد، تُرى أين يكمن الخلل بالضبط؟ وهل فعلا أنّ ضعف الثقافة الحقوقية والمدنية له تأثير فيما جرى بين الطرفين، وهذا القصور أو الضعف هل يقتصر على طرف واحد أم أن كليهما بحاجة ماسّة إلى الوعي الجذري بماهيّة الثقافة المدنية.

إن الحاجة لهذا النوع من الثقافة لا تُقصَر على الأجهزة الأمنية، ولا على العنصر الأمني فقط، فإذا اقتصرت ذلك على طرف واحد سوف تكون العلاقة مشوّهة وقاصرة، فمقابل شرطي حضاري متمدن، لابد أن يكون هنالك مواطن متحضّر أيضا، يؤمن بالمدنية بعد فهمها واستيعابها، لأن إتقان أحد الطرفين للمدنية والحقوق سيحتاج إتقان الطرف الآخر لها، أي أن المجتمع العراقي أو سواه، يحتاج إلى ثقافة مدنية تشمل عناصر الأجهزة الأمنية والمواطن في نفس الوقت، ولا جدوى من تعليم أحدهما هذه الثقافة وحرمان الطرف الآخر منها، لأن سيبدو كمن يسير بساقٍ واحدة سرعان ما يتعرض للتعب والسقوط، إذاً فالثقافة المدنية لا ريب أن تكون شاملة، تغطّي كامل المجتمع، بكل طبقاته، لدرجة أنها ينبغي أن تتحول إلى ثقافة عامة تخترق عقول الجميع، وتأخذ بهم إلى هذا المنحى من التعاملات المتبادلة، فالمواطن المثقف مدنيا يعرف كيف يمارس حقوقه وكيف يطالب بها، وسيلتزم بالحدود الممنوحة له بوساطة هذه الثقافة، نفس الحال ينطبق على عنصر الأمن، فإنه إذا ما استوعب حيثيات الحقوق ودرسها جيدا ودخلت في ذهنيته بطريقة ليست آلية بل بإيمان وفهم، فإن ذلك سوف يعطينا عنصر أمن متحضّر، يستحيل أن يسلك السلوك الذي يقوض الثقافة المدنية، الشيء نفسه سيحصل مع المواطن المثقف مدنيا وحقوقيا، فهو سوف يتمسك أكثر بحقوقه ويطالب بها بقوة، لكنه سوف يحصل عليها بالسبل المتمدنة، وهذا هو الهدف من نشر الثقافة الحقوقية المدنية في المجتمع كله، مع التركيز بصورة خاصة على عناصر الأمن.

ينتج عن ذلك تعاملا إنسانياً مع الشعب من رجل الأمن، وسوف يسعى المواطن إلى علاقة طيبة متوازنة مع الأجهزة الأمنية، والنتيجة الأكثر وضوحا سوف تظهر في انتشار ثقافة احترام القوانين المنظِّمة للأنشطة المختلفة في المجتمع، وسوف نفوز بعنصر أمني يسعى بجد للحفاظ على أمن المواطن والدولة، وهو نفسه سوف يؤمن بحق الشعب بالتظاهر ومؤازرة حرية التعبير والرأي والإعلام في دولة ديمقراطية، يتساوى فيها المواطن والحاكم أمام سلطة القانون الرسمي، وحيال سطوة الثقافة المدنية التي سوف تتحول بدورها إلى ثقافة تسود المجتمع كله، بالأخص أننا اليوم صرنا أكثر حاجة لهذا النوع من الثقافة في ظل الظروف التي نعيشها الآن في البصرة وفي مدن أخرى من العراق.

ولو أننا تحليْنا بهذه الثقافة منذ أزمنة غابرة، لصرنا الآن في الصدارة الحقوقية بين المجتمعات، لكن صفحات التاريخ السياسي لبلادنا تعج بالأنظمة الدكتاتورية التي تحظر وتحارب الثقافة المدنية بكل ما لديها من وسائل قامعة، وقد عايش العراقيون هذا النوع من الحكومات الدكتاتورية التي تعمدّت وأوغلت في تجهيل الأجهزة الأمنية والمواطن على حد سواء بالثقافة المدنية، ولنبدأ الآن بتعلم وحفظ واستيعاب التمدّن الحقوقي الإنساني المواطن وعنصر الأمن، وكل المجتمع العراقي يجب أن يتعلم هذه الثقافة، يفهمها، يهضمها، يستوعبها، يؤمن بها، ويصنع لها أرضية التطبيق حتى نرتقي بأنفسنا وسلوكنا وواقعنا، بـ حاضرنا ومستقبلنا أيضا.

اضف تعليق