q
من الخطأ الافتراض ان الفلسفة يجب ان تحقق تقدما تماما بنفس الطريقة التي يقوم بها العلم. احيانا يأتي التقدم ليس بحل المشاكل وانما بإعادة صياغة الاسئلة. نحن ربما نكون امام وضوح أكبر حول القضايا مع مرور الزمن، حتى لو لم نصل الى اجوبة نهائية متفق عليها...

في السنوات الاخيرة أعلن عدد من العلماء وفي مقدمتهم عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هاوكنك عن موت الفلسفة(1). هم زعموا بان العلم يستطيع الاجابة على جميع الاسئلة الهامة، واذا كانت هناك بعض الاسئلة لم يُجب عليها، فهي فقط لأنها وهمية لا تستحق التفكير. من الواضح ان كل من العلم والفلسفة يسعيان لمعرفة الحقيقة لكن لكل منهما طرقه المختلفة ويتعاملان مع مشاكل مختلفة.

قد نتساءل ما هو الدليل التجريبي لدى هاوكنك والعلماء الأخرين لهذا الادّعاء. فهل قاموا ببعض التجارب لإثبات فرضيتهم؟ او ان ادّعائهم كان يمكن اشتقاقه من ميكانيكا الكوانتم؟ الحقيقة هي ان الادّعاء بان المشاكل الفلسفية هي مجرد أوهام، ولن تُسوّى بالحقائق التجريبية، هو ذاته موقف فلسفي لا يُسوّى بالحقائق التجريبية، وهو نوع من السخرية.

يطلق الفلاسفة على هذه الرؤية التي يتبنّاها هاوكنك وآخرين بـ "الوضعية" positivism"- الرؤية بان اي زعم لا يتم اثباته او تكذيبه علميا هو هراء لا اكثر. كانت الوضعية ذائعة الصيت في بداية القرن العشرين لكنها لقيت معارضة من الجميع -على الاقل من الفلسفة- لأنها فشلت في الاختبار، وهو ما جعلها غير متماسكة. من المدهش ان يسعى هاوكنك من جديد لبعث هذه الرؤية عن العلم والتي نُبذت منذ وقت طويل. هذه الرؤية الجديدة للعلم ترى ان الفلسفة لا تصنع تقدما.

وفيما يتعلق بالتقدم نرى ان الجزء الاكبر من الخلاف بين بعض الفلاسفة والعلماء يبرز من الاختلاف في الرأي حول ما اذا كانت الفلسفة انجزت حقا اي تقدم في الالفين سنة الاخيرة.في الحقيقة، الفلاسفة انفسهم لا يتفقون على هذا السؤال. الجواب يعتمد بالطبع على الشيء الذي يُعد تقدما وعلى كيفية قياسه.

في العلوم، يُنظر الى التقدم باعتباره التقاء convergence على الحقيقة. نحن نعرف الكثير الآن عن العالم الذي نعيش به قياسا بما عرفه الناس قبل الفين سنة. كل نظرية لاحقة يتفق عليها العلماء تأتي اقرب ثم اقرب للحقيقة، وبهذا نحن نحقق تقدما. هذه احدى الطرق في حكاية القصة. (توماس كن) في كتابه (تركيب الثورة العلمية) يقول قصة مختلفة، حيث يُستبدل احد النماذج العلمية بنموذج آخر غير خاضع لنفس القياس او لا يمكن قياسه incommensurable paradigm. وبما انه لا توجد نظرية محايدة او نموذج محايد يقول ما هي الحقيقة، فان القول بان العلم يتقدم عبر الالتقاء على الحقيقة يصبح فكرة هشة لا يمكن الدفاع عنها. اذا كان (كن) محقا، اذا علينا المجيء بتصور مختلف للتقدم في العلوم، تصور لا يفترض الموقف البسيط بان نظرياتنا تصبح اقرب واقرب للحقيقة.

لكن دعنا نترك لبرهة جانبا هذه المخاوف الفلسفية حول العلم. دعنا فقط نفترض ان العلم هو بالفعل يحقق تقدما. السؤال عندئذ هو حول ما اذا كانت الفلسفة تحقق نفس التقدم، وتصبح اقرب ثم اقرب للحقيقة، ام ان الفلاسفة منشغلون فقط بلعبة من الجدالات الذهنية.

ان الاقتراح بان الفلسفة لم تصنع تقدما يبدو غير معقول. الفلسفة لعبت دورا هاما في ميلاد العلم، بدءً من الرياضيات في العصور القديمة مروراً بالفيزياء في القرنين السادس عشر والسابع عشر وصولا الى السايكولوجي في الاوقات الحديثة. انه فقط في القرون الاخيرة اعتُبر العلم حقلا منفصلا عن الفلسفة. ما نسميه الآن علما كان لقرون يسمى "الفلسفة الطبيعية"، وجميع المفكرين الكبار من ارسطو الى ديكارت كانوا علماء بنفس المقدار الذي هم فيه فلاسفة.

ديكارت مثلا قام بأعمال هامة في البصريات والفيزياء والكيمياء والبايولوجي والسايكولوجي والرياضيات واللسانيات – جميع هذه الحقول كانت تحت مظلة كبيرة هي الفلسفة. لذا، اذا كان اي من تلك الحقول حقق تقدما، واصبح اقرب الى الحقيقة، عندئذ من المنطقي ان يصح ذلك على الفلسفة. لا يمكن القول بعدم حصول تقدم في الآلفين سنة الاخيرة فقط لأننا لم نعد نسمي هذه الطرق من التحقيق "فلسفة".

ومن جهة اخرى، اذا كان مقياس التقدم في الفلسفة هو انها أنتجت علوما تمكنت من الاجابة بشكل افضل على مشاكلنا القديمة، عندئذ ربما يكون العلماء امثال هاوكنك على صواب في ادّعائهم. كم مقدار التقدم الذي حققته الفلسفة في المشاكل الفلسفية المتفردة مثل وجود الله او الرغبة الحرة او طبيعة الصح والخطأ؟ وهل هناك طريقة لعمل تقدم ضمن الفلسفة، او هل ان جميع اشكال التقدم هي بالنهاية حركة بعيدة عن الفلسفة؟

الاجابة على تلك الاسئلة تخرج عن حدود هذا المقال لكن يمكننا القول انه من الخطأ الافتراض ان الفلسفة يجب ان تحقق تقدما تماما بنفس الطريقة التي يقوم بها العلم. احيانا يأتي التقدم ليس بحل المشاكل وانما بإعادة صياغة الاسئلة. نحن ربما نكون امام وضوح اكبر حول القضايا مع مرور الزمن، حتى لو لم نصل الى اجوبة نهائية متفق عليها.

بعض العلماء يرون ان الافتقار الى الاجماع في الفلسفة يشير الى ان هناك خطأ في نوع الاسئلة التي نطرحها. ولكن هل ذلك هو الطريقة الصحيحة للتفكير حول عدم الاتفاق؟ الاسئلة الفلسفية صعبة ولا يمكن تسويتها بالحقائق التجريبية وهو احد اسباب قلة الاتفاق في الفلسفة. لو اخذنا الاسئلة الاخلاقية كمثال، اننا ربما لدينا كل الحقائق عن الكيفية التي يؤثر بها سلوك معين على كل شخص، لكن ذلك لا يقول لنا هل من الصحيح القيام بذلك السلوك ام لا. وحتى لو اتفقنا على الشيء الصحيح للفعل فلانزال مختلفين على سبب صوابيته.

لو كان لدينا علم كامل، وعرفنا كل الحقائق فنحن لانزال لا نمتلك اجوبة لمشاكلنا الفلسفية. ذلك لا يعني القول ان الحقائق التجريبية لا تنفع النظريات الفلسفية وانما هي لا تستطيع إعطاء اجوبة للأسئلة الكبرى في الحياة.

............................................................................................
الهوامش
(1) Stephen Hawking عالم فيزياء بريطاني ومؤلف وموجّه بحوث في جامعة كامبردج، وُلد عام 1942، وهو اول من وضع نظرية في الكوسمولوجي جمعت بين النظرية النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم. اعتُبر الثاني بعد اينشتاين وعمل بروفيسورا في الرياضيات في جامعة كامبردج بين عام 1979و2009. كتابه (تاريخ موجز للزمن) بقي الافضل مبيعا لسنوات. كان هاونك ملحدا، حيث اعتقد ان الكون محكوم بقوانين العلم، وان هناك فرق جوهري بين الدين المرتكز على السلطة والعلم المرتكز على الملاحظة. وفي عام 2008 ذكر ان الله ربما أوجد القوانين لكنه لا يتدخل في عملها. وفي مقابلة له مع الغاردين وصف مفهوم الحياة بعد الموت بـ"حكاية اسطورية للناس الخائفين من الظلام". وفي مجال السياسة كان مناصرا لحزب العمال البريطاني، ورفض غزو العراق واعتبره جريمة حرب. اصيب هاوكنك منذ وقت طويل بنوع من المرض سبّب له الشلل التدريجي، توفي الاسبوع الماضي (14 مارس 2018) في كامبرج ودُفن الى جانب اسحق نيوتن و دارون.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق