تدور الاساطير في حقول المضامين الكونية وتتجلى في أشكال متعددة من التصورات الفكرية والايديولوجيات الاجتماعية والسياسية التي تعد أخطرها، فالأسطورة نسق نفسي يؤسس لنسق فكري في تلك الايديولوجيات ويتجاوز مسارات الفرد النفسية، والتي تؤسس لضرورة الاسطورة في حياة الفرد الى مسارات الجماعة الاجتماعية وفي اعقابها، وليس بالضرورة تلك المسارات السياسية وهنا يترشح العنف كأخطر افرازاتها.

فالأساطير حين تؤسس لموقف سياسي فإن حجم المعاناة للدول والشعوب تكون الأسوأ في تاريخ الصراعات البشرية، وفي الاسطورة تكّون الايديولوجيا السياسية مضمونا ميتافيزيقيا عابرا للمنطق والواقع، وهنا تمتلك قدرة أكبر في التأثير باتجاه خلخلة بنية الواقع وباتجاه أشد صور العنف ايلاما للشعوب ودمارا للدول.

لقد تأسست النازية وفق مقولة أو أسطورة الحيوان الأشقر أو العنصر الجرماني الذي يقف في أعلى قمة الهرم في التصنيف العرقي والعنصري للشعوب، والذي يتمثل فيه الاختيار الكوني لإدارة وحكم العالم، ولقد كانت بشاعة الحرب العالمية الثانية تعبيرا عن حجم العنف وقدرة الدمار التي يلحقها في حالة تأسس العنف على أسطورة تقف فوق منطق العقل وتنحاز الى الأنا الجماعي بشكل مرضي وسادي، وكانت محارق الهولوكوست النازية تعبيرا مزريا عن الصراع بين الاساطير المؤسسة للكيانات الغامضة التي تتورم بها الذاكرة التاريخية غير السوية للشعوب العاجزة عن تحقيق ذاتها الا وفق مقولة الاختيار الكوني لها.

لقد كانت النازية وليدة أفكار القوة التي يتقمصها الروح الهيغلي في تجلياته في الدولة، ثم في ارادة الحياة الجامحة لدى شوبنهاور، ثم خلاصة القوة والارادة في السوبرمان النتشوي، الرجل الاقوى، وفي ترجمة أخرى الانسان الاعلى الذي يجمح باتجاه تجاوز أو رفض السلوك الحملي المسيحي المشتق من أخلاق الحمل الوديع الذي يحمله المسيح، هكذا ولدت النازية في رحم الفلسفة الالمانية فكانت تجلياتها العظمى في العنف الدموي للنازية.

وفي الوقت الذي كانت فيه أساطير ألمانيا تأذن بالأفول بدأت أسطورة اميركا بالحلول كونيا، فأعادت أميركا بعد الحرب العالمية الثانية بعث أسطورتها بشكل عالمي وعبرت عن امكانية ريادة ادارة العالم بقوة رأس المال والقوة العسكرية التي لم تصبها الحرب العالمية باي عطل أو فشل، وكان مشروع مارشال تجسيدا للحلم الاميركي القديم الذي تحدث عنه الرئيس الاميركي جفرسون، فاوربا ستكون قزما الى جنب الولايات المتحدة الاميركية في الوقت الذي كانت فيه أوربا تتعاظم سيطرة أمبراطورياتها الاستعمارية في العالم، وبهذا يكون مشروع مارشال قد منح أسطورة اميركا دفعا أقوى نحو الظهور.

وتكمن جذور اسطورة الامة الاميركية في ريادة العالم الجديد بالمحاججة المسيحية القائمة على المعارضة البروتستانتية وحركة الاصلاح الديني المسيحي، فقد وجدت تلك الامة وصفها الاسطوري في العهد القديم ـ التوراة وانهم بإزاء مواجهة السكان الاصليين الذي أسبغوا عليهم أوصاف الشعوب المنعوتة باللعنة في التوراة، وأسطروا دخولهم الى العالم الجديد بناء الى الاسطورة التوراتية في دخول اليهود الى أرض الميعاد بقيادة النبي موسى كوعد الهي الى العبريين، هكذا بدأت أسطورة العهد القديم لفكرة الاستيطان المسيحي المهرطق في نظر الكاثوليكية في أرض اميركا، لاسيما وأن وقائع ومواصفات هذه الأرض بخصبها وعطائها وغناها وثرواتها تطابق وتوائم أرض الميعاد التوراتية او أرض شنعار التي تدر لبنا وتفيض عسلا وفق رواية التوراة.

لقد أبيدت مجتمعات كاملة من السكان الاصليين من قبائل الهنود الحمر تحت ضغط الاساطير المؤسسة للدولة الاميركية، ولقد خلط الآباء المؤسسون لأميركا بين آيديولوجيا السياسة في تلك الدولة الناشئة بقوة العنف والدمار والابادة الجماعية التي تلازم سلوك الدول بازاء الاساطير المؤسسة لها والحقوق التي منحها الله للإنسان وهي الحرية والمساواة، وبذلك لا يستطيع احد سلبها منه، وهي الحقوق المستخلصة من ايمانهم الديني بالمسيحية وهي التي شكلت محور وأهم بنود وثيقة الاستقلال الاميركي.

ورغم اننا لا نجد تلك القواعد في نصوص الاناجيل المسيحية الاربعة لكنها القدرة التي تمنحها قوة الأسطرة والقصدية في تضمين آيديولوجيا السياسة بالبعد الديني وتوظيف الديني في السياسي الذي يشكل محور الاساطير المؤسسة للدول التي يتملكها طموح ريادة إدارة العالم وقيادته، وقد امتد تأثير الاسطورة الاميركية في الاختيار الكوني للأمة الاميركية خلف مقولة فوكوياما في نهاية التاريخ باختيار كوني للنموذج الاميركي في النظام الليبرالي واقتصاد السوق الحر، وفي تكرار واضح وتوظيف قصدي لمفهوم القوة وتراكماته النفسية والتاريخية الذي أرسته الفلسفة الالمانية وماتنتجه القوة من حتمية الصدام في نظرية صموئيل هنتنغتون في صدام الحضارات، التي ركزت على الجانب الديني – الثقافي في حدوث الصدام المتوقع أميركيا بين الحضارات، واذا كانت الثقافات الثلاث المرشحة للصدام هي المسيحية اليهودية والاسلامية والصينية البوذية، فان الدمج التام بين اليهودية والمسيحية في نظرية هنتنغتون تعكس الرؤية الاصولية المسيحية الاميركية، وتعكس الحافز الاصولي المنتشر في ولايات الجنوب الاميركي والذي ينتظر عودة المسيح المخلص الذي يمهد له اليهود بعودتهم الى أرض الميعاد في فلسطين وفق مباني العقيدة الانجيلية الاصولية المسيحية الاميركية، وهنا تكمن أوليات الوعود الانتخابية التي قطعها ترامب للمسيحيين الاصوليين في الجنوب الاميركي حول الاعتراف بالقدس عاصمة ابدية لدولة اسرائيل.

وبالقدر الذي تؤدي اليه تشابك وتداخل الاساطير المؤسسة بالايديولوجيا التي تنبثق وفقها هذه الدول الى نشوب العنف المدمر والذي يشكل أخطر صور العنف وأشملها دمارا، فان الاسطورة الاميركية المؤسسة لفكرة الأمة المباركة ومباركة الرب المستمرة لأميركا والتي يستمد منها كل رئيس أميركي خاتمة خطابه الموجه الى الامة الأمريكية ستقود بالنتيجة الى استمرارية العنف المدمر كونيا بسبب أدلجة الصراعات التاريخية بمضمون كوني وشكل سياسي من جانب الولايات المتحدة الاميركية.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ

http://shrsc.com

اضف تعليق