لكلِّ خطابٍ مُتلَقٍّ، وتارةً الهدفُ منه التّأثير واُخرى التّشهير، وتارةً يرادُ لذاته (المُتلقّي) واُخرى لغيره (الرّأيُ العام).

امّا اذا كان للتّشهير والتّسقيط ولنشر الغسيل القذر فلا شُغل لنا به، فهو لا يهشُّ ولا يبشُّ في عمليّة الإصلاح والتّنوير.

امّا اذا كان للتأثير من اجل الإصلاح والتغيير سواء لذات المتلقي او للآخرين، الرأي العام، فينبغي ان يكون علمياً وموزوناً ومنطقياً وعقلانياً ومنصفاً.

لقد حمّلنا القرآن الكريم مسؤولية الإرشاد والدعوة والتبليغ لرسالات الله تعالى ثم حدّد الطريقة والاسلوب، فقال تعالى في ثلاث آيات:

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

الملفتُ للنّظر في هذه الآيات هي انها تأمر باستخدام الأسلوب (الحسن) في الدعوة ولكنّها تصرّ على استخدام الأسلوب (الاحسن) عند الجدال والنقاش والحوار، اي انّ هناكَ اختلافٌ في صيغة الأداء، لماذا؟.

من خلال التّدبّر في السياقات القرآنية يبدو لي انّ في الامر سراً، وهو؛

انّ الدّعوة الى الله تعالى ورسالاتهِ هي عمليّة تبليغيّة محضة ليس اكثر، امّا الجدال والنقاش والحوار ففيها جانبُ تحدّي بين الطّرفين، خاصّة اذا كان على رؤوس الأشهاد، ينتبه لها الرّأي العام أكثر من انتباهه لمجرّد التّبليغ، ولذلك ينبغي ان يكون المحاورُ اكثر دقّةً وأكثرُ انتباهاً وهو يختار المفردات والمصطلحات والحجج والبراهين، وأكثرُ التزاماً بأخلاقيات الجدال وأكثر انتباها لمشاعر الرأي العام لانه يُجادل ولا يُبلّغ، ولذلك فالعيون مُفتّحة عليه والعقولُ مستنفرةٌ والكلّ يترقّب أيُّ الفريقين يسقط في اختبار المصداقيّة؟.

طبعاً؛ هذا اذا كان المجادلُ والمحاورُ يبتغي التأثير في الآخر او في الرأي العام من خلال محاججة الخصم.ّ

وَمِمَّا لا شكَّ فيه انَّ التأثير لا يَكُونُ الا بالشّرط الّذي حدّده الامام امير المؤمنين عليه السلام عندما نهى أصحابه عن سبَّ اهل الشّام، جيش معاوية بن ابي سفيان، قائلاً لهم؛ {وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ}.

فاذا كان القصدُ من وراء المجادلة:

اولاً؛ إصابة القول.

ثانيا؛ الابلاغ في المحاججة.

اذن؛ ينبغي ان يكونَ الحديثُ وصفاً وذكراً، وصفاً للأعمال وذكراً وتذكيراً بالاحوال، بعيداً عن لغةِ التّسقيط والاستهزاء، فانّ ذلك يساهمُ بشكلٍ كبيرٍ في عملية تنوير الرأي العام، اما اذا كان الغرضُ من كلّ ذلك هو المِراء على حد قول الامام عليه السلام {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ} وتوظيف فرصة لتصفية حسابات او افراغ شحنات إضافية من الحقد والضغينة والكراهية، فلا فرق في ان يكون الكلام أيّ شيء، لأنه ميؤوس منه وغير هادف ابداً، بعدَ ان انتُزعت عنه ايّة إمكانية للتأثير.

لذلك نلاحظ انّه عليه السلام كان يوظّف كلّ حوارٍ وجدالٍ يجري بينه وبين معاوية عبر المراسلات الكثيرة لتنوير الرّأي العام، لانه على يقين بان المحاور، معاوية، لن يتاثّر بِشَيْءٍ بعد ان خٓبِرٓهُمُ فعرِفهُم على حقيقتهم، وانّما كانت عينُه على الرّأي العام سواءً في صفوف جيشه او في صفوف جيش العدو، ولهذا السّبب وظّف الامام كل انواع المحاججات النّقلية والعقليّة والمنطقيّة والبلاغيّة لإفحام معاوية ليس لذاته وانما للتأثير بالرّأي العام وتنويره.

يتّضح لنا من كلِّ ذلك ان العِبرة ليس في المحاججة او النقد او الحوار وانما في الهدف منه، فاذا كان الهدفُ هو لتنوير الاخر وتبيين خطأه لتنبيهه بما يُصلح حاله، او حال الرأي العام، لا فرق، فينبغي ان نبذلَ جُهدنا في البحث عن (أَحسنِ) الحديث، امّا عدم الاكتراث بالهدف فلا يزيدُ النقدَ والحوارَ والجدالَ شيءٌ ابداً، عندها استخدم ما شئت من اللغات، حتى السوقيّة منها، اذ:

مازاد حنّونُ في الإسلامِ خردلةً

ولا النَّصَارَى لهم شُغلٌ بحنّونِ

وبرأيي؛ فانّ واجبنا اليوم ينصبّ باتّجاه التأثير للتنوير والإصلاح والتغيير وليس للتسقيط والتشهير، أليس كذلك؟.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق