منذ انشقاق (جلال الطالباني) عن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا (مصطفى البرزاني) عام 1967، ثم تأسيسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، تكرّست الانقسامات في صفوف الحركة الكردية، وتعمقت الانشقاقات أكثر مع استلام (مسعود البرزاني) قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني عقب وفاة والده عام 1979، وخصوصاً أن حزب الطالباني يتهم البرزاني بالتفرّد في اتخاذ القرارات، وتسليم المناصب العليا في إقليم كردستان لأفراد عائلته، حيث إلى جانب شغل البرزاني منصب رئاسة الإقليم، يشغل ابن شقيقه نيجيرفان رئاسة الحكومة، كما يشغل نجله مسرور منصب رئاسة الأمن القومي الذي تتبع إليه جميع المؤسسات الأمنية والعسكرية في الإقليم.
لهذا لم يكن اكراد العراق او المنطقة على وئام فيما بينهم، فقد اصبح لكل طرف رايته ومطالبه وعلاقاته الخارجية والاقليمية، بل مصالحه الخاصة التي يسعى الى تحقيقها بالطرق التي يراها مناسبة بعيدا عن الاطراف الاخرى، فقد تحالف اكراد العراق في عام 1970 مع ايران وامريكا في تمردهم على بغداد، وحصلوا على دعم كامل منهما، ولكن عندما اصبحت لإيران مصلحة مع العراق خاصة بعد ترسيم الحدود الحدود عام 1975، تم التخلي عنهم ليكونوا لقمة سهلة للقوات المسلحة العراقية، بعدها حصل الانشقاق بينهم واصبح هناك طرفان في الصراع الكردي، وهما حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، واصبح كل طرف له اتباعه الخاصين واجنداته الداخلية والخارجية، والاطراف التي يتعامل معها.
واصبح الاتحاد الوطني حليفا لإيران ويحصل على الدعم الكامل منها، حتى انها ساعدته عام 1996 في هجومه على اربيل مقر مسعود بارزاني، كما ان حزب مسعود من طرفه اخذ يبحث هو الآخر عن حلفاء له في تركيا وامريكا ودول عربية اخرى تكن للعراق العداء، كما ان لكل حزب ادارته الخاصة ومناطقه التي لايجوز ان يتجاوز عليها الآخرون حتى لو كانوا من نفس القومية او لهم نفس الهدف.
اما العلاقات مع اكراد المنطقة فلم تكن احسن حالا من نظيراتها العراقية، فقد اصبح لأكراد كل دولة في المنطقة قواتهم واهدافهم الخاصة، بل تم استخدام الاكراد من قبل دول المنطقة لضرب اكراد الطرف الاخر، فقد عمل اكراد العراق مثلا ضد تمرد اكراد ايران وتركيا، مقابل الحصول على تسهيلات من هذه الدول لمرور تجارتهم وتصدير نفطهم، وهكذا اصبح الاكراد مرة اخرى اداة بيد دول المنطقة لخلق فوضى جديدة لاتقل عن فوضى داعش.
فقد اندلعت اشتباكات بين قوات البشمركة السورية المدعومة من الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، و"قوات حماية سنجار" المدعومة من حزب العمال الكردستاني التركي ، قرب مناطق عراقية متاخمة للحدود مع سوريا، يوم الجمعة 3 اذار 2017، وقد بدأت قوات حزب العمال الكردستاني التركي انتشارها قرب بلدة سنجار، في شمال غرب العراق، بعد هجوم تنظيم الدولة الاسلامية على تلك البلدة ذات الغالبية الأيزيدية، واستعادت قوات البشمركة الكردية العراقية ومقاتلو حزب العمال الكردستاني السيطرة على بلدة سنجار من الجهاديين بعملية مشتركة، ان المواجهات بدأت وحسب المصادر عندما تقدمت قوة كبيرة من البشمركة يطلق عليها اسم "روجافا"، باتجاه قضاء سنوني على الحدود السورية العراقية، ومحاولة قوات البشمركة قطع الطريق على مقاتلي حزب العمال الكردستاني المتواجدين في المنطقة، غير أن حزب العمال الكردستاني التركي يتهم قوات البشمركة الكردية السورية، بقطع الطريق أمام قواته للتنقل بين سنجار ومنطقة سنوسي التي يتخذها مقرا له، وان المواجهات ادت إلى مقتل خمسة مقاتلين من الجانبين، خلال الاشتباكات المتواصلة بشكل متقطع.
وبغض النظر عن المواجهات والخسائر، فان هناك عدة اسباب تقف وراء هذه المواجهات، ومن يقوم بتحريكها في الوقت الحاضر، خاصة بعد ان وصل تحرير الموصل الى نهايته، ومن هذه الاسباب هي:
1- الصراع الكردي–الكردي الداخلي في العراق، لقد تفاقم الصراع في المدة الاخيرة مع تدهور اسعار النفط، وعدم تمكن حكومة اربيل من تسديد راتب الموظفين، والاتهامات الموجه لمسعود واعوانه من التفرد بالسلطة، واحتكار المناصب من قبل عائلته، والفساد المالي، والموقف من حزب العمال الكردستاني بات نقطة خلافٍ كبيرة، فمقابل دعم الاتحاد الوطني الكردستاني حزب العمال الكردستاني في حربه ضد تركيا، والتنسيق معه في منطقتي قنديل وسنجار، ودعم الاثنين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، يتحالف حزب البرزاني مع الحكومة التركية ضد حزب العمال الكردستاني، ويطالبه بالخروج من الإقليم، بما في ذلك معقله في قنديل، كما يعيش في حالة صدام مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، حيث يتهمه بالتفرّد ومنع الأحزاب الكردية السورية المتحالفة مع البرزاني (المجلس الوطني الكردي) من تقاسم النفوذ في المناطق الكردية في سورية..
2- على الرغم من ان الصراع بين المجموعتين المتصارعتين البيشمركة اربيل وحزب العمال الكردستاني التركي في سنجار تبدو صراعا(كردياً ـ كرديا) بين حزبين في ظاهره، إلا أنّ الباطن أبعد من ذلك بكثير، إذ يحمل بين طياته صراعاً عميقاً بين أجندات ومصالح إقليمية، ولعل بعض معالم هذا الصراع يمكن قراءته في التهديدات التركية المتكررة لـ"العمال الكردستاني" والتأكيد المستمرّ أكثر من مرة على "ضرورة ملاحقته في سنجار" كونه "يشكل خطراً على الأمن القومي التركي"، وعبّر أكثر من مسؤول تركي (بينهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان) عن مخاوف "تحويل العمال الكردستاني لسنجار إلى قنديل أخرى، فان الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي بدا بعملية عسكرية لإخراجه من سنجار وذلك حفاظا على علاقاته المتميزة مع تركيا.
3- العلاقة مع بغداد، فقد ذكرت بعض التقارير من ان هناك اتصالات بين حزب العمال الكردستاني التركي والحكومة الاتحادية في بغداد حول مشاركة الحزب في حرب تحرير الموصل من داعش، مما دفع بعض فصائله المحلية المسلحة في سنجار للمشاركة في معركة الموصل، من خلال بروز قوة عسكرية تتسلّح بالأيديولوجية الدينية وتتكون من إيزيديي المنطقة، أصبحت بحكم القانون ضمن ملاك منظومة الجيش العراقي، بعد موافقة البرلمان على إضفاء صيغة قانونية على "الحشد الشعبي" باعتبارها مساندة للجيش مع الحفاظ على هويتها وخصوصيتها خصوصاً بعد حصولها على تفويض رسمي من الحكومة المركزيّة بالانضمام إلى عمليّة تحرير الموصل، كونها قوة تتبع ل"الحشد الشعبي"، وتتلقى الأسلحة والأموال من بغداد، هذا ما جعل حكومة كردستان العراق تخشى من هذه العلاقة بينهما، وانها قد تتحول في المستقبل الى عمل مشترك ضد الاقليم.
4- الخوف التركي من توسع النفوذ الايراني في الموصل وجنوب تركيا من خلال تعاونها مع حزب العمال الكردستاني التركي، خاصة وان "فيدرالية روجآفا"، تطمح من خلال السيطرة على سنجار تامين للحزب السيطرة على أهم منفذ استراتيجي وحيوي يربط مشروعه بالعراق، والذي يقود الى تشابك مصالح "العمال الكردستاني" مع أجندات إيران التي ستمكن سيطرتها على مناطق سنجار وتلعفر من ربط طهران عبر "روجآفا" بالبحر الأبيض المتوسط وربط مشروعها في المنطقة بالمشروع الكردي، هذا ما دفع تركيا الى الضغط على اكراد العراق الى اخراج حزب العمال من سنجار ول بالقوة العسكرية.
5- أنّ نجاح "العمال الكردستاني" في تقوية نفوذه في سنجار سيقوّي من أوراقه في اللعب مع اللاعبين الكبار، خصوصاً وأنّه نجح في سوريا إلى حدّ كبير في لفت أنظار العالم إلى رديفه السوري (الإتحاد الديمقراطي) بكونه شريكاً في استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب وصناعة السلام، بعد عقود من إدراجه على لائحة الإرهاب، هو الاخر جعل تركيا تدفع باتجاه العمل العسكري ضده وبالتعاون مع اكراد العراق، الذين يخشون من ان يسيطر حزب العمال الكردستاني على المنظمات والاحزاب الكردية في المنطقة مما يفقد هذه الاحزاب مصالحها الخاصة في دولها.
6- سعي حزب العمال الكردستاني إلى تلميع صورته وتعزيز شرعيّته ، فحزب العمال الكردستاني يحاول محو ادّعاء تركيا المتكرّر بأنّه تنظيم إرهابي، وهي صورة توافق عليها الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي، وهو يريد إنشاء علاقات مع تلك الدّول واكتساب شرعيّة في السّياسات الدّوليّة، ورغبته في أن يصبح طرفًا فاعلاً في ديناميات الشرق الأوسط، إذا كان بإمكانه إخراج داعش من الموصل، سيحقّق تلك الشّرعيّة وسيجد نفسه في وضع جيّد في السّياسات الإقليمية، إنّ (حزب العمال الكردستاني) يحاول إيجاد مكان له عبر رصف تحرّكاته مع الجهات الفاعلة الإقليميّة، فهو يريد إيجاد مكان بين إيران، والسعوديّة وتركيا، وهذه مسألة أيضًا بين حزب العمال الكردستاني والحزب الدّيمقراطي الكردستاني بقيادة (مسعود بارزاني). أنشأ الحزب الدّيمقراطي الكردستاني دولة الأمر الواقع. ويريد حزب العمّال الكردستاني التّفوّق على الحزب الدّيمقراطي الكردستاني عبر تحوّله إلى طرف في الموصل. في الواقع، تنظر القوى العالمية إلى الأكراد كجهة إقليميّة فاعلة وهذا يؤدي أحيانا إلى منافسة شرسة بين أكراد حزب العمال الكردستاني وأكراد الحزب الديمقراطي الكردستاني.
على الرغم من ان الصراع بين بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني التركي لا زالت محدودة وفي بداياتها، ولم تتطور الى نزاع مسلح واسع بين الطرفين كما حدث في منتصف التسعينيات بين البرزاني وأوجلان، الا ان مستقبل الصراع وحدوده لن تتوقف عند سنجار العراقية بل سوف يمتد الى مناطق اخرى في شمال العراق، خاصة وان لحزب العمال الكردستاني التركي العديد من القواعد في شمال العراق، وله انصار ايضا، كما ان محاولة مسعود السيطرة على اكراد العراق بالقوة، خاصة الاقليات في الموصل مثل اليزيدين، سيقود الى توسع الصراع بين هذه المكونات والاقليم، وهو ما ينذر بحروب قادمة في الموصل بعد الانتهاء من داعش.
اضف تعليق