q
تعد الزيارة الأربعينيَّة بكل ما تمثله من أبعاد روحية واجتماعية وإنسانية أنموذجاً، يحتذى به في تكريس ثقافة العمل التطوعي وتجذرها بين أوساط المجتمع. وبعيداً عن الأجواء التراجيدية التي تمثلها هذه المناسبة، فإن أهم ما يميز هذه الشعيرة، هي ظاهرة العمل التطوعي، الذي تبديه الناس على مختلف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية والطبقية...

تعد الزيارة الأربعينيَّة بكل ما تمثله من أبعاد روحية واجتماعية وإنسانية أنموذجاً، يحتذى به في تكريس ثقافة العمل التطوعي وتجذرها بين أوساط المجتمع. وبعيداً عن الأجواء التراجيدية التي تمثلها هذه المناسبة، فإن أهم ما يميز هذه الشعيرة، هي ظاهرة العمل التطوعي، الذي تبديه الناس على مختلف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية والطبقية، سواء كان ذلك على مستوى تقديم الخدمات أو ما يقدم من طعام وشراب ومأوى للمشاركين بإحياء هذه الذكرى.

ويبدو أن التطوع والأعمال التطوعية ذات التوجه الروحي في نظر أصحابها من أجل وأعظم تلك الأعمال، ربما لارتباط هذا المفهوم بمنظومة القيم والمفاهيم الروحية والسلوكية في نفس الإنسان والأسرة والمجتمع. لكن الذي يمكن تشخصيه في هذا الشأن، هو أن العمل التطوعي هذا ينتهي بإنتهاء هذه المراسيم، وهذا يعني أن ثقافة العمل التطوعي داخل أوساط المجتمع لم تتجذر بعد، وهذا الأمر لا يعني تقاعسا أو قصورا في كينونة المجتمع، إنما مرد ذلك يعود إلى تراكمات ثقافية وسياسية واجتماعية.

وكان من المفترض أن تكون ثقافة العمل الطوعي كفضيلة إنسانية ووطنية وسلوك إجتماعي نبيل في مجتمعنا وبلادنا أكثر اتساعاً من بقية المجتمعات والبلدان، على اعتبار أن ذلك من صلب قيمنا الروحية والحضارية، وما تحمله من مفاهيم موروثة تحضنا جميعاً على عمل الخير والتطوع ومساعدة الآخرين، إلا أن هذه القيم قد أصابها الخمول والتشويه وعدم الفعالية، واختصر أمرها على بعض المناسبات الدينية، في حين أصبح العمل التطوعي إحدى أهم ركائز العمل الاجتماعي والتنموي في الكثير من البلدان، وبات ركناً أساسياً من حياة غالبية الناس في تلك البلدان. ما يهمنا في هذا المقام هو ما يحدث اليوم في أوساط هذا المجتمع من مُتغرات في المفاهيم والقيم، وضرورة تبني المفاهيم العصرية، التي تنسجم مع الواقع الإجتماعي والثقافي للمجتمع العراقي.

إن ما نود التأكيد عليه، هو تعميم تجربة العمل التطوعي في ذكرى إحياء هذه المناسبة والمناسبات المتعلقة بها، بل وجميع المناسبات الدينية والوطنية، التي تصاحبها مثل هذه المبادرات الإنسانية، وأن لا يقتصر الأمر على هذه المناسبة دون غيرها، فإن ظاهرة الأعمال الخيرية والعمل التطوعي يصبان في المسار الصحيح لتطوير وتنمية قيم التعاون بشتى أنواعه بين أفراد وشرائح المجتمع عموماً، وعلى الجهات المعنية استثمار هذه الظاهرة لنشر ثقافة العمل الطوعي بين الجميع، نظراً لأهمية هذا النوع من الخدمات في تطور المجتمعات في مختلف مجالات الحياة، على أن تتجذر هذه التجربة ثقافياً وأجتماعياً وسلوكياً.

وهنا نقف قليلاً لاستنباط الدروس والعبر من هذه التجربة الإنسانية، خصوصاً بعد ان أثبتت نجاحها على كافة الأصعدة، وهي تجربة فريدة من نوعها، أذ لم تشهد أي تجربة في العالم، إن تحركت مثل هذه الجموع المليونية وبوقت محدد وقدمت لها مثل هذه الخدمات التطوعية وبهذا التنظيم والكفاءة، ومن قبل جهات معروفة بإمكانياتها المحدودة.

الأمر الآخر هي دعوة إلى المؤسسات والجهات الرسمية، وغير الرسمية والمراكز البحثية والإعلامية المتخصصة بدعم العمل التطوعي ونشر هذه الثقافة بين الناس، فالرغبة والحماس في التطوع موجودان لدى الكثير من أفراد المجتمع ولكنها بحاجة إلى التنظيم والتوجيه، لهذا لا يكفي فقط وجود روح المبادرة والحماس والرغبة في العمل التطوعي لدى أفراد المجتمع، ولكن لا بد من فتح المجال لذلك وتوجيههم وأعطائهم الثقة بالنفس، وذلك من خلال إنشاء جمعيات غير حكومية للمتطوعين ومراكز للتدريب لدراسة إمكانات المتطوعين وتوجيههم للمكان الصحيح، وتلقيهم التدريب الفني والإداري، ليكون التطوع بذلك قائماً على أسس علمية ومنهجية صحيحة حتى يحقق الهدف المطلوب منه.

إن العمل التطوعي هو بمثابة ثروة عامة لا يمكن لأحد احتكارها، بحكم ما يحويه من روابط تقوم على القيم الاجتماعية الحميدة، فالتطوع يعبر عن إرادة وطنية نابعة من تصميم أفراد المجتمع على النهوض والتقدم والأخذ بزمام المبادرة في مواجهة مختلف القضايا الإنسانية، وهو بذلك يعكس درجة وعي وفعالية المجتمع وتماسكه.

اضف تعليق