q

عندما شاع استخدام الراديو والتلفاز في منتصف الستينيات من القرن الماضي، رفض التربويون تبني الثقافة السمعية والبصرية المنبثقة عن تلك الوسائل، وتمسكت المدرسة بالثقافة التقليدية المبنية أساسا على الكتاب، مرتكزة على فكرة السلبية التي تحملها الصورة والإدعاء بأن هذه الوسائل تُعمّق التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع الواحد ثم ما لبث المدافعون عن تلك الوسائل أن تبنوا هذه الطرائق الجديدة في التعليم حسب رأيهم. في محاولة لتوطينها وتحميلها الثقافة المدرسية. وحتى الآن لم يحسم علماء النفس أو التربويون بشكل قاطع إيجابية استخدام تلك الوسائل. وجاء تطور الحاسوب مع بداية التسعينيات في القرن العشرين مع ما شهد المجتمع العالمي من تطور هائل في ميدان الاتصالات الالكترونية ليُستَوعَب في المدرسة بشكل طبيعي. ولم نتردد نحن في عالمنا العربي بتبني الأسلوب ذاته، في محاولات لتعميم هذا الاتجاه ضمن المدارس.

وفي ظل انتشار أوسع لمختلف وسائل الاتصال وبخاصة الإنترنيت، تُطرح إشكالية التواصل/التعليم من جهة ومستقبل الكتاب من جهة ثانية فالتعليم من حيث هو علاقة بين معلّم ومتعلّم هو في جزء منه عملية تواصلية. وفي ظل تنامي وسائل اتصال أخرى، تجد المدرسة نفسها أمام خيارات وأدوار مُتجددة من المفترض أن تعيها حتى تحتضن طلابها. فما هو الإنترنيت ؟ إنه وسيلة لاتصال شبكات الحاسبات الإلكترونية فيما بينها لتربط بين الأفراد والمؤسسات من مُختلف الأجناس والأنواع. فهو مُكوّن من شبكات للكمبيوتر يعمل عليها أكثر من 30 مليون مستخدم في 160 دولة حسب بعض التقديرات. مع الإشارة إلى أن عدد مُستخدمي الإنترنيت (الشبكة العنكبوتية) يتزايد يوميا بالرغم من ارتباط هذه التقنية بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للفرد في بعض دول الشرق الأوسط وأفريقيا ودول جنوب الكرة الأرضية بشكل عام.

واليوم أصبح الإنترنيت سيد العصر بلا مُنازع، لما تتمتع به هذه الوسيلة من مزايا. فالإنترنيت أدخلنا في عصر ثورة المعلوماتية، كما سهل الكثير من الوظائف ووفر الكثير من الوقت. وكما لكل وسيلة جديدة من مزايا فإن لها عيوب أيضا ويتوقف إحداها على الأخرى من خلال طبيعة استخدام الشخص لتلك الوسيلة.

فالإنسان هو الذي يعطي للأداة/الوسيلة إما حسناتها أو سيئاتها. ولا يستطيع أحد أن يجحد الفوائد التي يجنيها البعض كأفراد أو مؤسسات من خلال هذه الأداة. فهي صالحة للاستخدامات التجارية والعسكرية والحكومية والتعليمية من قبل الباحثين والأفراد العاديين، حيث يمكنهم التراسل والتواصل الفوريين والاطلاع على ما يهمهم من كتب صدرت حديثا أو معلومات متاحة على الشبكة أو غيرها من الأمور.

قد يعتبر البعض هذه الوسيلة آفة لما أصبح علية حال الشباب في العمر المُبكّر من الجلوس أمام شاشات الحاسبة ولساعات طويلة، مما يُشكّل هدرا للوقت في حال افتقد هؤلاء للتوجيه والإرشاد في كيفية الاستخدام. ففي دراسة عربية حول استخدام الطلبة للإنترنيت بين عمر 10 و 15 سنة جاء في النتائج: أن عدد المستخدمين اليوميين للشبكة بلغ (96%) من التلاميذ ولم تحتل المدرسة إلا حيزا ضعيفا (8%) من استخداماتهم للحاسوب. كما لوحظ أن (16%) من التلاميذ يستعملون البريد الإلكتروني وهي النسبة عينها للإبحار أو البحث عن المعلومات، فيما ينصرف ما نسبته (38%) إلى المحادثة التي تأتي بالدرجة الأولى من حيث الأهمية في استخدام التلاميذ للشبكة. وهنا نُنبه إلى خطورة هذه الطريقة في العارف واللهو وتبادل المعلومات، نظرا لما قد يتعرض له الشاب أو الفتى من أنواع الدعاية السلبية أو الخادعة، والتنكر تحت شخصية مستعارة..... وما يمكن أن تؤدي إليه من لقاءات فعلية خطرة سواء من الناحية الخُلُقية أو الأمنية، ولاسيما أن ( 73% ) من أولياء الأمور يسمحون لأولادهم باستخدام الإنترنيت دون ضبط المحادثة من قبلهم واعتماد برتوكول عائلي لتقدير خطورة إمكانات هذه الشبكة ودفع مخاطرها عن أبنائهم.

هنا تطرح مسألة "العولمة" ومستقبل الثقافة التقليدية في عصر الإنترنيت، فمن السلبيات المشخّصة يمكن لنا الحديث بالشكل التالي: فما يوفره لنا الحاسوب من معلومات يأتي على حساب هيكلية أو شمولية توفرها لنا الصحيفة أو الكتاب الورقي ناهيك عن التضحية ولاسيما في ميدان الفنون والأدب بالنوعية في سبيل الكمية أو حتى الانتقائية المتحّيزة والطامسة لكل أوجه الخصوصية والإبداع. ويكفي أنه يتجه شطر اعتماد لغة دولية ـ هي الإنكليزية ـ حيث تقصي أجيالنا عن عوالم لغتنا الوطنية أو فلكلورنا وتراثنا. مما يطرح مشكلة "التغريب الثقافي" الذي يستفحل وضعه حين نتطرق إلى استخدام الحاسوب والإنترنيت.

لا ينكر ما لهذه الوسيلة من جوانب ذات نفع كبير ولا يُستغنى عنه في مجال إيصال المعلومات وسهولة تداولها وسرعة الوصول إليها والتواصل الصوتي والصوري سواء بين الأفراد أو المؤسسات، ولكن كيف لنا أن نُفرمل حركة الانزلاق الشبابي نحو محيط العولمة المُتلاطم الأمواج وأن تفاعل معها ـ أي العولمة ـ من دون أن ننهي اتصالنا بالموروث الذي نحمله. فبعد أن كانت المجتمعات منفتحة على بعضها البعض تربطها العلاقات الإنسانية، أضحت اليوم مرتبطة بالأساليب الالكترونية وأمست العلاقات الفردية والاجتماعية بالنزوع نحو التقلص و الضمور خصوصا بعد أن تعلّق الإنسان بها حد الإيمان بفكرة التواصل باتجاه واحد .

ورغم التركيز على كمية المعلومات ومقدار تغذية الأجهزة وقدرتها العالية على تخزين واسترجاع المعلومات ونظم البرامج التي تسير بشكل مطرد نحو التقدم ، فأن الثغرات التي تقع بها تلك الأجهزة قد تُشكل كوارث بشرية في عصر التكنولوجيا الذرية وفي ضل السباق النووي لبعض الدول الشرق أوسطية على سبيل المثال .

وفي المقابل .. نجد إن التجارب ضمن ميدان التربية تُشير إلى حجم الفوائد الكبير الذي يجنيها الأفراد الذين يُعانون من صعوبات تعليمية من خلال استخدامهم للإنترنيت. حيث شكلت الشبكة حافزا لهم على تخطي المشكلات المُتعلّقة بالتواصل ومواجهة العالم.

وحين يكون استخدام الإنترنيت وسيلة تعليمية وضرورة تربوية فمن واجبنا إذن أن ندفع بطرائقنا التعليمية بالاتجاه الجديد، حيث إن دور المُعلّم والطالب لا بد وأن يتغيّر من علاقة مالك وحيد للمعلومات ومُتلق معزول، إلى آخر أكثر ديناميكية يمكنه التعامل مع:

1/ النص و 2/ الصوت و 3/ الصورة، بطريقة تُحفّز الطالب على تنمية حسه النقدي والتمييز بين مختلف الوثائق لإنتاج معرفة جديدة.

وهنا لنا وقفة مع المدرسة ـ كمؤسسة تربوية/تعليمية ـ كيف عليها أن تُقدّم المعرفة العلمية في هذا الحقل الجديد ؟ حيث عليها يَقع الثقل الأكبر في هذا الميدان، كونها تحتوي على المُتَلَقي والمؤثر معا ناهيك عن كونها هي الوسيلة التي تجمعهم معا.

هذا ولا بد أن تنتقل المدرسة من حيّز الاستهلاك إلى حيّز الإنتاج، خصوصا في مجال استخدام الشبكة وإنتاج البرامج التي تراها مناسبة والتي تعمل على تطوير الذهن والعقل لدى الطالب، بدل الاتكاء على كل ما هو مستورد في هذا الحقل الحساس، لأن المنتج الأصلي من شركات ودول تُغّذي برامجها المُصدَرة بما يتفق ومنهجا الفكري وثقافتها الخاصة.

ولكي ينتقل مجتمعنا من حالة التلقي إلى حيّز التفاعل، لا بد أن تعي الدولة دورها ومسؤولياتها كراعٍ ومُخطط لسياسة تربوية وتعليميّة ناضجة وفق المقاييس المُتفق عليها عالميا، تهدف إلى إنتاج أدوات العمل التربوي التي تُعمّق الشعور بالمواطنة والجذر الإنساني لدى من يتلق المعلومات والشروح، فلا يكون عرضة للانقياد الدائم لأدوات تُزيد من تبعيته الفكرية واللغوية والقيميّة، بغض النظر عن الفوارق الطبقية أو الاجتماعية السائدة ضمن أي حيّز مكاني على مساحة الوطن ككل.

..............................................

مراجع الدراسة
1 / صالح أبوأصبع، الاتصال والإعلام في المجتمعات المعاصرة، عمان، دار آرام للدراسات والنشر، 1995.
2 / أماني الخطيب، أزمة القراءة في الوطن العربي، ط 1، بيروت، دار المحجّة البيضاء، 2012.
3 / يوسف عبدالتواب، الطفل العربي ووسائل الإعلام وأجهزة الثقافة، دراسة ميدانية، القاهرة، 1988.
4 / مصطفى حجازي، حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، 1998.
5 / انشراح الشال، قنوات فضائية في عالم ثالث، دار الفكر العربي، القاهرة، 1993.
6 / كمال التابعي، الاتجاهات المعاصرة في دراسة القيم، ط 1، القاهرة، دار المعارف، 1999.
7 / عبدالله عبد الدايم، الثورة التكنلوجية في التربية العربية، بيروت، دار العلم للملايين، 1980.

........................................................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق