q
بعد انقضاء أكثر من أربعة أشهر على بدء الفيضانات الموسمية المُدمرة في باكستان، لقي ما لا يقل عن 1500 شخص حتفهم من جرَّاء تلك الفيضانات، في الوقت الذي لم تنحسر فيه بعدُ المياه التي غمرت البلاد بأكملها تقريبًا، وتتسبب حالة الطوارئ المستمرة هذه في انتشار الأوبئة والأمراض المُعدية...
بقلم إيرين بيبا

بعد انقضاء أكثر من أربعة أشهر على بدء الفيضانات الموسمية المُدمرة في باكستان، لقي ما لا يقل عن 1500 شخص حتفهم من جرَّاء تلك الفيضانات، في الوقت الذي لم تنحسر فيه بعدُ المياه التي غمرت البلاد بأكملها تقريبًا، وتتسبب حالة الطوارئ المستمرة هذه في انتشار الأوبئة والأمراض المُعدية، ويُحتمل أن تكون هذه الآثار أشد فتكًا من الكارثة الأولية، يقول ريتشارد برينان، مدير الطوارئ الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في منطقة شرق المتوسط: "المخاطر التي تتهدد الصحة العامة أشد سوءًا، ومن الوارد أن يصبح عدد القتلى أعلى بكثير".

رغم اختلاف العدد الدقيق للنازحين في باكستان باختلاف المصادر، فإن عددهم بلغ قرابة ثمانية ملايين شخص، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، ويعيش عددٌ كبيرٌ من هؤلاء في ظروف غير صحية، مثل هذه الأوضاع آخذةٌ في الانتشار على نحوٍ مقلق؛ إذ يزيد التغيُّر المناخي من معدل تكرار هطول المطر وشدته، وتؤدي هذه الكوارث بدورها إلى آثار جانبية طارئة تتمثل في تفشِّي الأمراض، ربما يستحيل تجنُّب أسوأ السيناريوهات، ولكن ثمة حلولًا يمكن التعويل عليها للتخفيف من الآثار الصحية المترتبة على الفيضانات في المستقبل.

الوضع في باكستان

يقول برينان إننا تعلمنا من كوارث الفيضانات على مدار التاريخ أن وقع الكارثة "يكون في المعتاد حادًّا وصادمًا، وفي غضون أسابيع، أو أيام في بعض الأحيان، تبدأ عمليات البحث والإنقاذ، ثم تأتي مرحلة التعافي وإعادة البناء"، ويستدرك برينان قائلًا: "أما مع هذا الفيضان، فنحن ما زلنا عالقين في المرحلة الحادة من الكارثة ولم نتجاوزها بعد"، يصف برينان الوضع بعد عودته مؤخرًا من زيارةٍ رصَد خلالها حجم الكارثة على الأرض، إذ يقول: "لا تزال محيطاتٌ من المياه الراكدة تغمر آلاف الكيلومترات المربعة"، ويشير إلى أنه من بين أكثر من 7 ملايين نازح، يعيش نحو 600 ألف نازح فقط في المخيمات المُنظَّمَة، أما الباقون فينتشرون -وفق قوله- على طول الطريق الممتد من مدينة كراتشي، الواقعة على شاطئ بحر العرب في أقصى الجنوب، وصولًا إلى الأقاليم الشمالية من البلاد، ويوضح برينان أن الأشخاص الموجودين على قارعة الطريق هم "المحظوظون؛ إذ بمقدورهم تلقِّي المساعدات، أما آلاف المجتمعات المحلية فلا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق القوارب".

تهيأت ظروفٌ مواتية لتفشِّي الأمراض نتيجة تكدُّس ملايين الأشخاص في أماكن وظروف غير صحية، دون أن يحصلوا على مياه شرب نظيفة أو مرافق رعاية صحية مناسبة، وتمثل المياه الراكدة -وفق برينان- بؤرًا مثاليةً لتجمُّع أسراب البعوض، الذي يؤدي حاليًّا إلى انتشار الملاريا وحمى الضنك في باكستان، وتتفشى أمراض الجهاز التنفسي، كما تؤدي مياه الفيضانات السامة إلى الإصابة بالتهابات الجلد والجرب، ويبلغ عدد النساء الحوامل في البلاد -وفق تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان- نحو 127 ألفًا، وتلد نحو 2000 امرأة منهن كل يوم (رغم اختلاف التقديرات باختلاف المصادر)، ويتساءل برينان: "أين تلد هؤلاء النساء؟ هل يلدن على قارعة الطريق؟"، وفي الوقت ذاته، أدى غرق الأراضي الزراعية وفقدان مخزون الأغذية في جميع أنحاء البلاد إلى انتشار سوء التغذية، هذا، ولم يخضع حجم الضرر المُنعَكس على الصحة النفسية للبحث والدراسة بعد، ويوضح برينان أن مياه الفيضانات الراكدة لا يزال أمامها شهور حتى تنحسر، ويُردف محذرًا أنه مع تسبُّب التغيُّر المناخي في مزيد من الأحداث المماثلة، تُمثل باكستان نذير شؤم لما سيحدث مستقبلًا.

كيف يؤثر التغيُّر المناخي على الفيضانات؟

يختلف تأثير التغيُّر المناخي باختلاف المكان على مستوى العالم، صحيحٌ أن الغلاف الجوي الأكثر احترارًا يحمل كمياتٍ أكبر من المياه، ما يؤدي إلى زيادة حدة هطول المطر، لكن مسألة ما إذا كانت زيادة كمية المياه تؤدي إلى زيادة معدل حدوث الفيضانات وشدتها تتوقف على مكان هطول المطر، يوضح دانييل سوين، اختصاصي علم المناخ في معهد البيئة والاستدامة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "الأمر ليس مرهونًا بشدة هطول المطر فحسب، بل يجب أيضًا أن تُؤخذ بعين الاعتبار طبيعة السطح الذي يتساقط عليه المطر من عدة جوانب"؛ ففي المناطق المزودة بتدابير لمواجهة الفيضانات -مثل السدود، والأراضي الرطبة المُستعادة- تقل احتمالية حدوث فيضاناتٍ على نحوٍ متكرر وحاد، وفي بعض الأماكن الأكثر جفافًا، حيث تصبح التربة أشبه بقطعة إسفنج تتشرب المياه وتحتفظ بها، وفق ما يقول سوين، وعلى النقيض، تزداد احتمالية حدوث فيضانات مفاجئة في المناطق التي يرصف فيها الإنسان الجداول والمجاري المائية، وفي الأماكن ذات الأراضي الرطبة، تقل قدرة التربة على امتصاص الأمطار الغزيرة، أما الآثار الناجمة عن فيضانات المحيطات فمن الممكن التنبؤ بها بدقة أكبر بكثير، نظرًا إلى أن هذه الفيضانات تتأثر في الأساس بارتفاع مستوى سطح البحر.

يقول سوين: "المقولة القديمة 'عندما تمطر السماء، تصب ماءها صبًّا' تنطبق حرفيًّا على السياق الذي نتحدث فيه، فهي تُعبر في إيجاز عن الكثير من التعقيد الذي ينطوي عليه الأمر"، وهذا ما يُطلق عليه سوين "عتبة الظروف المتطرفة"، صحيحٌ أن الفيضانات لا تشهد تزايُدًا في كل بقاع العالم، لكن الأماكن التي تكون فيها الظروف الجوية وأحوال مظاهر السطح مواتيةً تمامًا، تؤدي أحداث الطقس المتطرف إلى حدوث فيضانات أكثر تواترًا وقوة، وهذا معناه أن التبِعات الصحية العالمية لن تكون هي الأخرى موزَّعةً بالتساوي.

كيف تُسهِم الكوارث في توسيع الفجوات

في الأماكن التي تتزايد فيها الفيضانات، يستطيع العلماء أن يرصدوا مساراتٍ معينةً للتنبؤ بمدى تأثر الصحة العامة بالخطر المتزايد، تقول نيوكي موارومبا، الأستاذ المساعد لإدارة الطوارئ وعلم الكوارث في جامعة نبراسكا أوماها، بالولايات المتحدة: "عندما ننظر إلى الكوارث باعتبارها أنظمةً تسبِّب تردِّيًا وتدميرًا، نعلم أن الأوضاع السابقة على الكارثة ستتفاقم عندما تحُلُّ ببلدٍ"، فيمكن الاستناد إلى الفوارق العرقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصحية للتنبؤ بمدى التأثير الذي تُخلِّفه الأحداث الطارئة على منطقةٍ من المناطق، سيكون عدم المساواة هو العامل الحاسم في تحديد الأشخاص الأكثر تضررًا وتقدير حجم الضرر، توضح موارومبا قائلةً: "الكوارث لا تُسفر عن تلك [المشكلات]، بل تزيدها ضخامةً وسوءًا".

وما يزيد الطين بلةً أن التغيُّر المناخي إلى انتشار ناقلات الأمراض؛ إذ يتسبب احترار الكوكب في تفشِّي أوبئة مثل عدوى فيروس «زيكا»، والملاريا، وحمى غرب النيل، بسبب أن البعوض الذي ينشر هذه الأمراض أصبح بمقدوره الآن العيش في المناطق التي كانت شديدة البرودة في السابق على نحوٍ لم يكن باستطاعته احتماله، وعندما تتكرر كوارث الفيضانات في تلك المناطق، يزداد انتشار الأمراض التي ينقلها البعوض، وتكتسب مياه الفيضانات سمعةً سيئةً أيضًا بسبب ضراوتها؛ ففي أعقاب إعصار «إيان»، الذي ضرب ولاية فلوريدا الأمريكية هذا العام، شهدت الولاية ارتفاعًا حادًّا في معدلات الإصابة بعدوى البكتيريا آكلة اللحم.

ومن آنٍ إلى آخر، تنتقل أمراضٌ جديدة إلى المناطق المنكوبة مع قدوم عمال إغاثة من خارجها لتقديم المساعدة، وكمثالٍ على ذلك، تقول موارومبا إنه في أعقاب الزلزال الذي ضرب هايتي عام 2010، كان أفراد من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مصابين بالكوليرا –وهو من الأمراض المنقولة بالماء- ونشروه بين السكان المحليين (تنصلت الأمم المتحدة منالمسؤولية عن تفشي المرض، ورُفضت الدعاوى القضائية المُطالِبة بتعويضات للضحايا)، يُشار إلى أن المرض لم يكن موجودًا في هايتي قبل وصول قوات حفظ السلام، لكن ظلت الكوليرا في البلاد منذ ذلك الحين، حيث تحدث نوبات تفشٍّ للمرض على نحوٍ متكرر؛ فقد تفشى المرض -مثلًا- في أعقاب الفيضانات التي سبَّبها إعصار «ماثيو» الذي ضرب البلاد عام 2016، وإذ إن الكوارث المتكررة تؤدي إلى مزيدٍ من الاختلاط بين المجموعات السكانية على هذا النحو، يزداد على الأرجح انتشار المرض.

لكن بفضل جهود علماء الكوارث، مثل موارومبا، فإن رصد هذه المسارات مع الاستفادة منها في المناطق المُعرَّضة لخطر الفيضانات معناه إمكانية التوصل إلى حلول.

التخفيف من مخاطر الكوارث الصحية والوقاية منها

قبل وقوع الكوارث، ثمة خطواتٌ مباشرة يمكن اتخاذها للتأهب للمرض والحد من انتشاره، يقول برينان إن منظمة الصحة العالمية تتعاون مع البلدان لإجراء تقييمات للمخاطر، إذ يحددون نوع الكوارث التي من المرجح أن تقع، ويضعون خطط استجابةٍ لها، وهذا يتضمن التأكد من كفاءة النظم الطبية في البلاد، وتوافر الاستعدادات اللازمة لإدارة الأشخاص وتنظيمهم.

لكن يتعذر التنبؤ بكل هذه المخاطر، لا سيما في ظل التغيُّر المناخي، ويمكن للبلدان -قبل وقوع الكارثة بوقتٍ طويل- التأهب على نحوٍ فعال من خلال اتخاذ خطواتٍ كبيرة وشاملة، وفق ما تُوصي كريستين باترسون، مديرة مشروع «دروداون ليفت» لدى منظمة «بروجكت دروداون» Project Drawdown غير الهادفة إلى الربح، والتي تمثل رافدًا من روافد المعلومات المتعلقة بالحلول المناخية، وتتضمن الكثير من هذه الخطوات محاربة كلٍّ من الفقر وعدم المساواة.

فمثلًا، يمكن للطاقة الشمسية أن تُحدِث تأثيرًا هائلًا على جهود الإغاثة والتعافي من الكوارث، ويتحقق هذا بالأخص إذا جرى توصيل منظومة للطاقة الشمسية خارج الشبكة بالمراكز الصحية التي شُيدت بطرق فعالة –مثل تلك التي بُنيت مرتفعةً عن سطح الأرض- لمقاومة العواصف، فعندما ضرب إعصار «إيان» ولاية فلوريدا في الآونة الأخيرة، انقطعت الكهرباء عن معظم السكان، لكنها لم تنقطع قَط في أحد المجتمعات المحلية؛ إذ كانت لديه منظومة للطاقة الشمسية، وفق قول باترسون.

والأهم أنه من الممكن أن يؤثر تنظيم الأسرة، والتعليم، وخفض معدلات الفقر تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا في درجة التأهب لمواجهة الكوارث وقدرة أي بلدٍ على الصمود في مواجهة العواصف، كما تشير باترسون، التي تُردف قائلةً: "في مجال الصحة العامة، كانت الخصائص السكانية في باكستان عرضةً لخطرٍ فعلي قبل الفيضان"، ولكن إذا سعت البلدان جاهدةً إلى "تعزيز الأمن الغذائي، وخفض معدلات الفقر، ومعالجة مشكلات المياه والصرف الصحي"، فإنها تكون بذلك قد وضعت قدميها على الطريق الذي يمكِّنها من تجنُّب بعض أسوأ التبِعات الصحية التي تظهر في أعقاب وقوع كارثة، وإضافةً إلى ذلك، تمثل العديد من الحلول المطروحة بهدف التغلب على تلك المشكلات طرقًا رائعةً أيضًا لتقليل الانبعاثات، ومكافحة التغيُّر المناخي على نطاقٍ أوسع.

اضف تعليق