q
يبقى الواعظ الداخلي هو الأقوى، لأنه الأقدر على تغيير النفس وإصلاحها؛ فالإنسان الذي لديه وازع نفسي ورقيب ذاتي يتأثر بسرعة، ويندم لارتكابه أي ذنب أو خطأ. وميزة الواعظ الداخلي أنه يكون مع الإنسان دائماً وأبداً، ملازماً له في السر والعلن، بينما الواعظ الخارجي لا يرى إلا الأمور الظاهرة...

اهتم أئمة الهدى بتوجيه أصحابهم وأتباعهم ومحبيهم إلى الأخذ بأسباب النجاح في الدنيا ونيل الفلاح في الآخرة، وفي حياة كل إمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) نقرأ مجموعة من التوجيهات والإرشادات والوصايا القيمة في هذا الجانب الحياتي المهم.

ومما ورد من التوجيهات المهمة عن الإمام الجواد (عليه السلام) ما روي عنه أنه قال: «الْمُؤْمِنُ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: تَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ، وَوَاعِظٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَبُولٍ مِمَّنْ يَنْصَحُهُ»[1].

وفي هذا النص يشير الإمام إلى ما يحتاجه المؤمن كي ينجح في حياته الدنيوية والأخروية، وأنه لا غنى له عن هذه الخصال الثلاث مهما كانت رتبته وموقعيته ومكانته، لأنها تمثل أهم دعائم ومقومات النجاح والصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وهي:

أولاً- التوفيق الإلهي:

من أهم دعائم النجاح كما جاء في توجيهات الإمام الجواد (عليه السلام) هو توفيق الله سبحانه وتعالى للإنسان، ومعنى التوفيق المعونة والتيسير والتسديد، فأن تكون موفقاً يعني أن الله جلّ جلاله قد أعانك في حياتك، ويسّر لك الأمور لبلوغ ما تصبو إليه من أهداف وغايات.

ومن التوفيق أن يرزق الإنسان التوفيق للإتيان بالطاعات والابتعاد عن المعاصي، ولذا نقرأ في الدعاء المأثور المروي عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «اللهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفيقَ الطَّاعَةِ، وَبُعْدَ الْمَعْصِيَةِ» فالمؤمن يستشعر لذة الطاعة وحلاوة العبادة، بينما المخذول يسلب منه ذلك، فلا يشعر بحلاوة العبادة، ولا يتذوق لذة الدعاء والمناجاة، فلا يرغب في القيام بالعبادة، ولا يوفق للدعاء، وقد يتهاون في فعل المحرمات والمعاصي وارتكاب الذنوب والموبقات.

وضد التوفيق الخذلان، فالمخذول محروم لسوء أفعاله وقبح سريرته من معونة الله له، وتيسيره لأموره، فأينما اتجه فإنه لا يوفق في حياته ولا ينجح فيما يرغب فيه.

إن المخذول يكله الله إلى نفسه، ويدعه وشأنه، فلا يحظى بتأييد منه ولا معونة ولا تسديد ولا مدد من الله تعالى، فمن ينصره الله يوفقه وينصره، ومن يخذله ينهزم ويخسر: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[2].

وأما المؤمن الذي يتكل على الله تعالى في كل شؤونه، ويثق به في كل أموره؛ فإنه يكون موفقاً في حياته، وناجحاً في أعماله، ومتميزاً في حياته، وينال الفلاح في آخرته. كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[3].

ثانياً- الواعظ الداخلي:

الدعامة الثانية من دعائم النجاح هو الواعظ الداخلي، فتارة تأتي الإنسان الموعظة من داخل نفسه، وتارة تأتيه من الخارج؛ كأن تأتيه من أبويه أو من أصدقائه أو من زملائه في العمل أو من المعلمين والمربين وغيرهم، ولكن يبقى الواعظ الداخلي هو الأقوى، لأنه الأقدر على تغيير النفس وإصلاحها؛ فالإنسان الذي لديه وازع نفسي ورقيب ذاتي يتأثر بسرعة، ويندم لارتكابه أي ذنب أو خطأ.

وميزة الواعظ الداخلي أنه يكون مع الإنسان دائماً وأبداً، ملازماً له في السر والعلن، بينما الواعظ الخارجي لا يرى إلا الأمور الظاهرة، فمن لديه واعظ من نفسه فإن ضميره يكون حياً ومتفاعلاً مع كل خطواته وأفعاله وسلوكه.

كما أن الواعظ الداخلي الحي يحرك الإنسان ويحفزه نحو فعل الخير والفضيلة، والمداومة على العمل الصالح، وإنجاز الأعمال في أوقاتها من دون تسويف أو مماطلة أو تأخير، ولذا فإن الواعظ الداخلي من دعائم النجاح الرئيسة.

ثالثاً- قبول النصيحة:

الدعامة الثالثة من دعائم النجاح التي أشار إليها الإمام الجواد (عليه السلام) قبول النصيحة من الناصحين الصادقين، فالإنسان لا يرى أخطاء نفسه نتيجة لحبه لذاته، أو لاعتداده الزائد بنفسه، ولكن الآخرين يرون ويشخصون أخطاءك وسلبياتك، ومن أراد النجاح فعليه أن يتقبل النصيحة من أهل العلم والخبرة والفهم والتجربة.

بعض الناس لا يتقبل النصيحة من أحد، لأنه يعد ذلك انتقاصاً من شخصيته، أو جرحاً لكبريائه، أو تقليلاً من عجبه بنفسه، وقد ينزعج ويتنرفز ويتعصب تجاه من ينصحه، وربما يزعل فيقطع علاقته بأخيه المؤمن لأنه نصحه نصيحة أخوية!

ولذا لما قال رَجُلٌ لِلإمام الْجَوَادِ (عليه السلام): أَوْصِنِي.

قَالَ: «وَتَقْبَلُ؟!».

قَالَ: نَعَمْ.

قَال: «تَوَسَّدِ الصَّبرَ، وَاعتَنِقِ الفَقرَ، وَارفُضِ الشَّهَواتِ، وَخَالِفِ الْهَوَى، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ»[4].

والعاقل هو من يقبل نصيحة من ينصحه، بل وعليه شكره لأنه نبهه إلى أمور هو غافل عنها، ولذا روي عن الإمام الصّادق (عليه السلام): «أحَبُّ إخواني إلَيَّ مَن أهدى‏ إلَيَّ عُيوبي»[5] فالتنبيه إلى العيوب والأخطاء وقبول النصيحة من عوامل تغيير الذات، وتصحيح الأخطاء، وتحقيق النجاح.

وأما من لا يقبل النصيحة، ولا يأخذ بأقوال الآخرين من أهل الخبرة والتجربة والوعي والفهم، ولا يستفيد من تجارب الناجحين، فإنه يفشل في حياته ويصاب بالخيبة والخسران.

رابعاً- الصحة:

يشير الإمام الجواد (عليه السلام) في رواية أخرى إلى دعائم أخرى من دعائم النجاح ومقوماته، إذ روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «أَرْبَعُ‏ خِصَالٍ‏ تُعِينُ‏ الْمَرْءَ عَلَى‏ الْعَمَلِ:‏ الصِّحَّةُ، وَالْغِنَى، وَالْعِلْمُ، وَالتَّوْفِيقُ»[6] وقد أشرنا إلى أهمية التوفيق الإلهي في صناعة النجاح والسداد.

في هذا النص المروي عن الإمام الجواد (عليه السلام) يبدأ بنعمة الصحة، لأنها من أفضل النعم وأهمها في صناعة النجاح في الحياة؛ إذ يعد التمتع بالصحة والعافية من دعائم النجاح ومرتكزاته، فالشخص المعافى من الأمراض والأسقام، والذي يرفل بصحة العقل والنفس والبدن يكون مؤهلاً للنجاح الباهر في حياته، وتحقيق ما يصبو إليه من أهداف وتطلعات.

وأما الشخص المريض، والمبتلى بأمراض مزمنة وصعبة فإن فرصه للنجاح تكون أقل في الحياة، ولذا على المرء أن يحافظ على صحته بقدر الإمكان حتى يتمتع بصحة جيدة، ويكون قادراً على إنجاز أعماله وتحقيق طموحاته.

خامساً- الغنى:

الغنى مفهوم يتسع لعدة مجالات وأبعاد وجوانب، ولا يقتصر على وفرة المال؛ فقد يكون المرء غنياً بأفكاره، فصاحب الأفكار الخلاقة غني في هذا الجانب، ويمكنه أن يحلّق عالياً في عالم النجاح والتميز؛ وصاحب التجارب والخبرة غني في حياته العملية، ويمكنه أن يوظف خبراته وتجاربه في إنجاز الكثير من الأعمال وتحقيق المزيد من الأهداف.

كما أن ميسور الحال وصاحب الأموال الوفيرة يستطيع فعل الكثير من الأمور التي يعجز عن فعلها الفقير، فالمال هو عصب الحياة، وبه يمكن إنجاز الأعمال الكبيرة، وبناء المشاريع الضخمة، وتأسيس الشركات والمؤسسات المنتجة والنافعة للمجتمع.

سادساً- العلم:

العلم ثروة وقوة، ولذا اعتبرها الإمام الجواد (عليه السلام) من الخصال المعينة للمرء على إنجاز الأعمال، وصناعة النجاح.

فلا يمكن للفرد أن يتقدم إلا بالعلم، ولا يمكن للمجتمع النهوض إلا بالعلم، ولا يمكن للأمم أن تتحضر إلا بالعلم.

فمن أراد النجاح في الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الفلاح في الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم.

...................................
الهوامش:
[1] تحف العقول: 457.
[2] سورة آل عمران: الآية 160.
[3] سورة هود: الآية 88.
[4] تحف العقول: 455.
[5] الكافي: ج 2 ص 639 ح 5، تحف العقول: ص 366، الاختصاص: ص 240، بحار الأنوار: ج 74 ص 282 ح 4.
[6] كشف الغمة في معرفة الأئمة: (ط - القديمة)، ج‏2، ص: 346. بحار الأنوار: ج‏75، ص: 79، ح 57.

اضف تعليق