أدت الحرب الباردة في العالم إلى ظهور تسميات مختلفة تشير كلها إلى استعمال الأزمات لتمرير مشروعات كبرى وتقويض مشروعات أخرى فمن حرب الفضاء إلى حرب المياه إلى غير ذلك حتى حرب الحكومات حيث لا توجد دولة في العالم ملزمة أو لديها دوافع حقيقية لإشباع احتياجات غيرها من المعلومات إلا إذا كان في تحقيق مصالح خاصة بها(1).
إن ثورة المعلومات كانت الركيزة الأساسية للعولمة في اتجاهاتها المختلفة إعلامياً واقتصادياً وسياسياً ؛ فقد أتاحت المعلومات وتقنياتها للشركات متعددة الجنسية والكيانات الإعلامية الكبيرة أن تبرمج خططها باتجاه اختراق الحدود الوطنية للدول الأخرى وفرض علاقات جديدة بدأت تعد انتهاكا لسيادة البلدان الأخرى ولا سيما عندما تستعمل في الاتجاه الذي يخدم مصالح وسياسات البلدان الأخرى(2).
وقد تكون المعلوماتية العنصر الأهم والسلاح الأمضى من أسلحة العولمة إذا نجح أيديولوجيو العولمة في توظيف معطياته لصالحهم، فالمعلوماتية تمتلك خاصية تنفرد بها عن باقي التغييرات الجديدة، تلك هي إمكاناتها في التأثير وتجاوز الثقافات وحتى الاشتراك في صناعاتها( ). ويطلق على الأسلوب الجديد الذي يحظى باهتمام المؤسسة العسكرية الأمريكية اصطلاح " عقيدة المعلومات " ( Information Doctrine) حيث توصف المعلومات بأنها رصيد استراتيجي، وأن مجال المعلوماتية هو سبيلها لسيطرة الولايات المتحدة العالمية(3). إن تقديم تغطية واسعة للعالم الثالث يتطلب الوصول إلى معلومات قد لا تسمح بها هذه الدول نفسها فتكون النتيجة ( تغطية قاصرة)(4). إن التعامل مع المعلومات يملك أبعاداً ثلاثة : جمع المعلومات أولاً، ثم تحليل المعلومة ثانياً، ثم نقل المعلومة إلى موقع الاهتمام بها ثالثاً(5).
إن السيطرة الإعلامية تتم عبر التحكم في تدفق المعلومات الذي تقوم به وكالات الأنباء الدولية العاملة في معظم الدول النامية من دون أية عوائق أو حواجز، مستعينة ـ في عملها هذا ـ بتكنولوجيا العصر المتقدمة المتمثلة في الوقت الحاضر بالتوابع الفضائية لشبكات الإعلام التي تسيطر عليها كلياً الاحتكارات الدولية الكبرى(6).
إن انسياب المعلومات في العالم ظل طويلاً خاضعاً للممارسات التمييزية، ولن تتوفر للرأي العام في البلاد الصناعية فرصة الإطلاع الصحيح على كامل المعلومات حول مطالب البلدان النامية واحتياجاتها حتى تتحرر فيه أنماط الاتصال والإعلام من توجهها نحو الرواج التجاري الذي يفرض عليها إبراز المثير من المعلومات على حساب الجوهري منها(7).
وقد تساعد المعلومات المتبادلة بين الدول على خلق اهتمامات مشتركة بين الدول، وعلى غرس روح التعاون والإحساس المشترك بالأخطار التي تهدد مصالح الدول أو الجنس البشري كله، أو قد تؤدي ـ بخلاف ذلك ـ إلى إشاعة جو من القلق والتوتر وعدم الثقة بين الدول(8). حيث أصبحت عملية تصدير المعلومات أيسر من تحريك القطعات العسكرية وتمرير الثقافات الاستهلاكية غزو الثقافات القومية والوطنية عن طريق هذه الوسائل، وبذلك أثبتت كونها وسيلة هيمنة لمن يتميز في خلقها ويستحوذ على نتائجها، وأن من لا يمتلك ناصيتها يرتهن مستقبله بمن يدركها، ومن معرفة سوق العرض والطلب للتكنولوجيا التي تقف وراءها الشركات الكبرى للدول الصناعية يدرك مقدار الخلل الذي تحدثه عملية نقل التكنولوجيا بسبب ضخامة ما تستنزفه من أموال وموارد خارج حدود الوطن(9) ولذلك تجد نفسها مضطرة لأن تبقى مفتوحة تحت تأثير قوى الإعلام والتكنولوجيا() حيث تكون الأنماط الحياتية المعروضة على شاشات التلفاز الوطنية والدولية كما في دور العرض السينمائي طاغية طغياناً كاملاً على خطاب السياسة القومية البلاغي ومقوضة له(10).
بعد اقتحام الإعلام العصر الرقمي واكتشاف نظام الضغط الذي يسمح باستعمال الحيز الواحد للعديد من الخدمات الإعلامية، وبالتالي سيؤدي إلى التنافس على بيع السلع الإعلامية عموماً، والتغطية الإخبارية لأحداث خاصة إلى صراع رهيب لتحقيق الأرباح على حساب جودة المنتج بعد أن تصبح البشرية بأجمعها الجمهور المستهلك (11). وبذلك يتعرض العالم لطوفان صحافة السوق(12). وبما أن الأساليب والاستراتيجيات الحديثة التي يستعملها الإعلام الغربي والتي تسيطر على تدفق المنتجات الثقافية تقوم على استعمال المعلومات وتوجيهها لتحقيق التأثير الذي يحقق أغراضها وإغراق العالم في المعلومات المسلية حتى يفقد المواطنون قدراتهم على تحليل الأحداث وتفسيرها ونقدها، فيعتمدون ـ في قراراتهم ـ على الاستجابات العاطفية السريعة كالخوف(13). فهناك عشرات الألوف من المراسلين لوسائل الإعلام يتركزون في الولايات المتحدة، ويتنافسون على تنمية علاقاتهم بمصادر داخل البيت الأبيض، ولذلك فأن وسائل الإعلام لا تتنافس بالفعل على تغطية الأحداث، ولكنها تتنافس على البحث عن معلومات رديئة، تركز على الرواية الأمريكية لأحداث العالم والموقف الأمريكي من هذه الأحداث ولذا أصبحت معظم الأخبار التي تقدمها وسائل الإعلام متشابهة ومكررة ويرمي معظمها إلى التسلية أكثر من تقديم الحقائق(14).
وهكذا فأن عملية الاختيار والانتقاء التي تقوم بها وكالات الإنباء لا تؤدي إلى إخفاء الكثير من المعلومات ووجهات النظر، ومواقف الشعوب الأخرى ولكنها تؤدي إلى تحريف الأخبار، ذلك أن تحريف الأخبار وتشويهها، قد ينتج عن حذف بعض المعلومات، أو إخفاء بعض الحقائق.
أشكال تشويه المعلومات:
هناك ثلاثة أشكال لتشويه المعلومات هي(15):
1ـ معلومات يشوهها مصدرها عن عمد، ففي بعض الأحيان نجد بعض الوكالات الدولية للأنباء تنقل الأخبار المشوهة أو المحرفة ثم تذكر مصادرها بقصد الابتعاد عن النقد والملامة، ولا سيما إذا كان الخبر صادراً من وجهة نظر رسمية، ففي هذه الحالة تصبح الوكالة غير مسؤولة طالما أنها نسبت هذا الخبر إلى مصدره.
2ـ معلومات تشوهها الوكالات عن عمد، ويحدث في بعض الأحيان، أن تقوم الوكالة بإدخال بعض التغييرات والتحريفات في صياغة الخبر بالطريقة التي تجعله يسلك المعاني السلبية بعد أن كان إيجابياً في المعنى، والغرض الرئيسي من التحريف في الأخبار هو خدمة مصالحها الاقتصادية أو السياسية.
3ـ معلومات تشوّه عن غير عمد لأسباب سيكولوجية أو مهنية، فتجد بعض الوكالات لا تستطيع تحريف بعض الأخبار ذات المضمون الدولي أو القضايا الدولية التي لها علاقة بهيئة الأمم المتحدة وتحت إشرافها المباشر مثل أزمة الخليج، والبوسنة والهرسك، والقضية العربية الفلسطينية وغيرها من المشكلات والقضايا الدولية التي تظهر على الساحة الدبلوماسية والسياسية الدولية، والسبب في ذلك أن هذه القضايا واضحة في مضمونها، وتكون تحت سيطرة مجلس الأمن المكون أعضاؤه من الدول المتقدمة.
إن طرائق تشويه المعلومات التي تمارسها وكالات الأنباء الدولية تتعدى حدود نشر معلومات كاذبة ليأخذ أشكالاً أخرى كـ : المغالاة التي لا ترتبط ببعضها في قالب واحد وعرضها بماٍ يوحي بأنها متصلة وتكون حالة واحدة، وعرض الحقائق بطريقة تولد نتيجة ضمنية تعكس حالة رضا مما يقدمه النظام المهيمن، والتشويه القائم على خلق حالة مزاجية وعقلية مسبقة نحو الأحداث وذلك بتقديم الأحداث ذات الأبعاد المعروفة بأسلوب يخلق حالة خوف أو شك لا أساس لها من الصحة، وأخيراً التشويه عن طريق ( التعتيم ) أو عدم نشر أية معلومات متصلة بالحدث أو الموقف الذي لا يخدم مصالح الدول التي لا تنتمي إليها وكالات الأنباء الدولية(16). وقد ظهرت تسمية أباطرة المعلومات() في خضم الأعاصير المعلوماتية وهم رجال من نتاج الرأسمالية وأصبحوا يسيرون العالم بصناعتهم للأحداث وتسويقهم التجاري من أدوات الإعلام والمعلومات(17). لأن الفجوة الرقمية لا يمكن تجاهلها، إلا أنها ليست مشكلة تقنية في المقام الأول، فالتقنية كانت وستظل منتجاً اجتماعياً(18)، يدل ذلك على مدى تركيز السلطة والهيمنة في الدول الصناعية المتقدمة، بل وفي عدد قليل من هذه الدول نتيجة لسيطرتها على المعلومات، وعلى وسائل إنتاجها ومعالجتها وتخزينها واسترجاعها وذلك يكون بسرعة هائلة وعلى نطاق شاسع مما أدى إلى وجود قلة منتجة وكثرة مستهلكة صفوة مسيطرة وأغلبية مقهورة، جماعات تزداد غنى وسيطرة وجماعات تزداد فقراً وتبعية(19).
وما يحصل في الوطن العربي هو هيمنة مصلحة مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على المصلحة العامة أو مصلحة المواطنين، وأن إيجاد توازن بين هذه المصالح الأساسية ضروري ليتمكن القطاع الإعلامي العربي من الإسهام المثمر والفعال في التنمية الاجتماعية والثقافية، إذ إن هذه الهيمنة هي جزء من السيطرة الإعلامية والثقافية والاستعمارية وما تحمله من أخطار مدمرة على القيم العربية الإسلامية، وترويج للمفاهيم الحياتية العربية في أوساط النشء والأجيال العربية.
وانطلاقاً من الحافز القوي للهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ وازدياد المصالح، اعتمدت الولايات المتحدة عدة أساليب في مجال الدعاية الخارجية الموجهة إلى دول العالم المختلفة، وفد أعدت لكل ذلك فريق خبراء متخصصاً بشؤون البلدان المختلفة(20). وتشير الوكالات إلى التنافس الحاد بينها، ولا تشير إلى اتفاقها أو تحالفها للهيمنة على سوق الأنباء الدولية. حيث هيمنة وكالات الأنباء الدولية والإذاعات والتلفاز والأفلام والصحف والمجلات والنشرات والكتب ومصارف المعلومات، وكان طبيعياً أن يثير اختلال التوازن هذا المطالبة لإجراء تغيير جذري في النظام الدولي الراهن والإعلام(21). وكما تقوم الشركات ببناء مرافق ومصانع جديدة، فسوف يتعين عليها أن تقوم ببناء البنية الأساسية للحوسبة والاتصالات وتشييدها من أجل ربط تلك المنشآت والوحدات مع المؤسسات الشريكة حول العالم(22).
إن الهيمنة الاتصالية التي تمارسها وسائل الإعلام الغربية في البلدان النامية بترويجها أنماطاً من الحياة تسهم في عولمة الثقافة وتهديد مرتكزاتها القومية والوطنية في تلك البلدان(13).
ويشير تقرير سري للكونغرس الأمريكي عن كسب العمليات العقائدية والسياسة الخارجية عن طريق الهيمنة المعلوماتية إلى إمكانية تحقيق مصالح السياسة الخارجية باستعمال الأدوات الحديثة وتقنيات الاتصالات(24). لا بل أن الدول الصناعية تعمل على توظيف تكنولوجيا الإعلام في تحقيق سياساتها الخارجية في الهيمنة والسيطرة على دول العالم، عن طريق المعوقات.
اضف تعليق