q
ملفات - شهر رمضان

بالعلم والعمل تسود الامم

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الحادِيةُ عشَرَة (11-12)

البعضَ يتصوَّر أَنَّ مُهمَّتهُ تقتصِر على نقلِ العلمِ والمعرِفةِ من مصادرِها إِلى العامَّة من دونِ أَن تمُرَّ بهِ، وكأَنَّ العِلمَ الذي يحمِلهُ هوَ لغيرهِ وليسَ لنفسهِ أَوَّلاً قبلَ أَن يمُرَّ منهُ إِلى الآخرين، ولذلكَ لا تُلاحظ أَيَّ تأثيرٍ للعلمِ الذي يحملهُ على شخصيَّتهِ وعلى مُختلفِ المُستوياتِ...

 {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ}.

 فبالعلمِ والمعرِفةِ يسودُ المرءُ كما أَنَّ بهِما تسودُ الأُمَمُ والشُّعوبُ.

 يقُولُ تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

 ولقد تعهَّدَ نبيَّ الله يوسُف (ع) لملكِ مِصرَ بالنَّجاحِ في حمايةِ البلادِ من كوارثِ الجُوعِ والقحَطِ بأَمرَينِ؛ النَّزاهةُ والعِلمُ، عندما قالَ له الملِكُ {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ردَّ عليهِ يُوسُفَ (ع) بقَولهِ {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.

 فإِذا رأَيت معيارَ السِّيادةِ في مُجتمعٍ ما وتَوزيعِ المناصبِ في الدَّولةِ غَيرَ العلمِ والمعرفةِ والبصيرةِ في الأُمورِ فتأَكَّد بأَنَّ في عقلهِ وعقلِها أَفَنٌ.

 وإِذا كانَ المُتعلِّمُ يُواجهُ التحدِّيات بُكُلِّ أَشكالِها بعلمهِ ومعرفتهِ وحِكمتهِ فإِنَّ الجاهِلَ يتذرَّع بجهلهِ للهرَبِ مِن المُواجهةِ، لذلكَ ترى أَنَّ الشُّعوب المُتخلِّفة تنشغِل بالحديثِ والتَّنظيرِ لـ [مُؤَامراتِ الأَعداءِ] من دونِ أَن تُحدِّثَ نفسَها بالتَّفكيرِ والتَّخطيطِ وكأَنَّها تبحثُ عن تبريراتٍ لفشلِها وتخلُّفِها {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} ترى الشُّعوب الأُخرى مُنشغِلةٌ بوضعِ خُططِ الإِنتاجِ ومشاريعِ التَّنميةِ التي تقودَها للتقدُّمِ والتطوُّرِ والنُّهوضِ.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ} بمعنى أَنَّكَ لا تسمعُ الأَعذارَ إِلَّا من الجاهلِ أَمَّا العالِمُ فلا يلجأُ للأَعذارِ عادةً لأَنَّهُ يمتلكُ آلةَ النَّجاحِ [العِلم] فهوَ لا يحتاجُ إِلى شمَّاعاتٍ يُعلِّقُ عليها فشلهُ، فحتَّى الفشَل هوَ مُستعِدٌّ لمواجهتهِ من دونِ التَّفكيرِ بالهربِ منهُ.

 وإِنَّ أَفضل العُلماء هو الذي يجمعُ عِلم الآخرينَ إِلى علمهِ على اعتبارِ أَنَّ العِلمَ حاجةٌ إِنسانيَّةٌ لا عِلاقةَ لها بالدِّينِ والمذهبِ والإِثنيَّةِ والإِنتماءِ الجُغرافي والعشائري ولذلكَ قالَ رسولُ الله (ص) {أُطلبُوا العِلمَ ولَو بالصِّينِ} وهوَ (ص) وقتها كانَ في الصَّحراءِ! فيما قالَ الإِمامُ جعفر بن محمَّد الصَّادق(ع) {سُئِلَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) عن أَعلمِ النَّاسَ قال؛ مَن جمعَ عِلمَ النَّاسِ إِلى عِلمهِ}.

 وهكذا نرى كيفَ أَنَّ المعارِفَ، وعلى مُختلفِ الأَصعِدةِ، تنتقِلُ بينَ الشُّعوبِ والأُممِ بِلا استئذانٍ ولا تُحرَمُ مِنها إِلَّا المُتخلِّفة! كالَّتي تتعامَل معَ علومِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) بنفَسٍ طائِفيٍّ! فأَنتَ طائِفيٌّ إِذا استشهدتَ بقَولٍ من [نهجِ البلاغةِ] لكنَّكَ عصرِيٌّ وحضارِيٌّ إِذا استشهدتَ بقَولٍ من [رأسِ المال]!.

 هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر؛ فإِنَّ التَّعليمَ والتعلُّمَ عمليَّةٌ مُتكامِلةٌ كما يصفُها أَميرُ المُؤمنِينَ(ع) بقولهِ {مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا} فإِذا انتشرَت ظاهِرة الجَهل والأُميَّة في مُجتمعٍ ما فهذا يعني أَنَّ فيهِ [عُلماء] أَنانيُّون احتكرُوا العِلمَ لأَنفسهِم ورفضُوا تعليمَهُ لغيرهِم، و [جُهَّالٌ أُمِّيُّونَ] تكاسلُوا عن طلبِ العلمِ لأَيِّ سببٍ من الأَسبابِ!.

 يقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {جَاهِلُكُمْ مُزْدَادٌ وعَالِمُكُمْ مُسَوِّفٌ}.

 وتزدادُ المُصيبةُ عندما يُحوِّلُ الجاهِلُ السُّؤَالَ إِلى حلَبَةٍ للمُصارعةِ! فقد قالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) لِسَائِلٍ سَأَلَه عَنْ مُعْضِلَةٍ {سَلْ تَفَقُّهاً ولَا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ وإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}.

 يقولُ رسولُ الله (ص) يحثُّ على نشرِ العلمِ دُونَ احتكارهِ {مِنَ الصَّدقةِ أَن يتعلَّمَ الرَّجُلُ العِلمَ ويُعلِّمهُ النَّاسَ} وقولهُ (ص) {أَفضلُ الصَّدقة أَن يتعلَّمَ المرءُ عِلماً ثُمَّ يُعلِّمهُ أَخاهُ} وعنهُ (ص) {زكاةُ العِلمِ تعليمَهَ مَن لا يعلمَهُ} و {ما تصدَّقَ النَّاسُ بصدقَةٍ أَفضَل مِن عِلمٍ يُنشَر}.

أَمَّا حفيدهُ الصَّادق (ع) فيقولُ {إِنَّ لِكُلِّ شئٍ زكاةٌ، وزَكاةُ العلمِ أَن يُعلِّمهُ أَهلهُ}.

 وقالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه الأَنْصَارِيِّ {يَا جَابِرُ قِوَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ، عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَه وجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وجَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِه وفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه، فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَه اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِه بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه}.

 فمتى يحكُمُ الجهلُ المُجتمع؟! ومتى يمُوتُ العِلمُ؟! وكيفَ؟! ولماذا؟!.

 في النصِّ التَّالي أَجوبةٌ شافِيةٌ على لسانِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) ينقُلها في وصيَّتهِ لكُمَيل بن زيادٍ النَّخَعي.

 قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ؛

 {يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ؛ إِنَّ هَذِه الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ؛ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.

 يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ والْمَالُ تَنْقُصُه النَّفَقَةُ والْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الإِنْفَاقِ وصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِه.

 يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِه بِهِ يَكْسِبُ الإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِه وجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِه والْعِلْمُ حَاكِمٌ والْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْه.

 يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وهُمْ أَحْيَاءٌ والْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه) لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً! بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْه مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا ومُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّه عَلَى عِبَادِه وبِحُجَجِه عَلَى أَوْلِيَائِه، أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَه فِي أَحْنَائِه يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِه لأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَلَا لَا ذَا ولَا ذَاكَ أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ والِادِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الأَنْعَامُ السَّائِمَةُ كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيه}.

فلسفةِ التَّعليمِ والتعلُّم

 {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

 قد يسأَلُ سائلٌ؛ إِذا كانت للعلمِ كُلَّ هذهِ الأَهميَّة في عمليَّةِ الإِصلاحِ والتَّغييرِ فلماذا لا نُلاحظ ذلكَ في المُجتمعِ؟! لماذا لم يغيِّر حالَ البلادِ نحوَ الأَفضلِ والأَحسنِ؟! لماذا لم نلمِسَ مفهُوم الآية الكريمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. في واقعِنا الإِجتماعي؟! بل العَكس هي الحالَة المُنتشرةُ فيهِ؟!.

 يبدو أَنَّ سببَ ذلكَ أَمرانِ!.

 أ/ الفِهمُ القاصِرُ لفلسفةِ التَّعليمِ والتعلُّم.

 فالعِلمُ، كما هوَ معلُومٌ، للعملِ وليسَ للتُّخمةِ أَو للتَّرفِ، فإِذا كسبَ المرءُ عِلماً واحتفظَ بهِ ولم يُقرِّر توظيفهِ لتغييرِ سلُوكهِ فهو بالتَّأكيد عِلمٌ لا ينفع، وهوَ حال مُجتمعاتِنا التي تحمِل الكثير من العلمِ لكنَّها لم تُقرِّر أَن تدعهُ يؤَثِّر في سلوكيَّاتها، وهذا هوَ أَسوءُ أَنواع العِلم!.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ وأَرْفَعُه مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ والأَرْكَانِ} وقولهُ {الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه} وهو المعنى الذي أَشارت إِليهِ الآية الكريمة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

 لننظُرَ في النصِّ التَّالي كيفَ يربط أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بين العلمِ والعملِ فهُما، حسبَ هذا المنطِقِ، كسِكَّتَي قِطار لا يمكنُ أَن ينقطِعَ أَحدهُها ويستمرَّ الآخر وإِلَّا وقعَ المحذُورُ {فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِه أَنْ يَعْلَمَ؛ أَعَمَلُهُ عَلَيْه أَمْ لَه؟! فَإِنْ كَانَ لَه مَضَى فِيهِ وإِنْ كَانَ عَلَيْه وَقَفَ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِه، والْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ؛ أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ!}.

 فهوَ (ع) يُقارنُ بينَ العالمِ والجاهلِ بمعيارِ العملِ، فهوَ الذي يميِّز بينهُما، وإِلَّا ما الذي يُميِّز العالِم عن الجاهلِ إِذا لم يُغيِّر علمَهُ سلوكهُ ويُحسِّن من أَخلاقهِ ويُقوِّم طريقةَ تعامُلهِ في المُجتمعِ؟! ماذا ينفعُ العالِم إِذا كانَ يضعَ عِلمهُ على الرفِّ عندما يخرُجُ من بيتهِ ولا يأخذهُ معهُ للسُّوقِ؟!.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {وإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِه كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِه بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْه أَعْظَمُ والْحَسْرَةُ لَه أَلْزَمُ وهُوَ عِنْدَ اللَّه أَلْوَمُ}.

 حقاً فإِنَّ العِلمَ حُجَّةٌ بالغةٌ على العالِمِ، كما أَنَّ شهادةَ الطبِّ حُجَّةٌ على الطَّبيبِ الذي يُراجعهُ المرضى في العيادةِ، فإِذا لم يكُن أَهلها فهل لهُ الحقَّ في أَن يرفعَ لافتةً أَمامَ المبنى تُشيرُ إِلى اختصاصهِ الطبِّي مثلاً؟!.

 ب/ عدم إِنعكاس العلمِ على السلوكيَّات فغابَت [القُدوة والأُسوة].

 إِنَّ البعضَ يتصوَّر أَنَّ مُهمَّتهُ تقتصِر على نقلِ العلمِ والمعرِفةِ من مصادرِها إِلى العامَّة من دونِ أَن تمُرَّ بهِ، وكأَنَّ العِلمَ الذي يحمِلهُ هوَ لغيرهِ وليسَ لنفسهِ أَوَّلاً قبلَ أَن يمُرَّ منهُ إِلى الآخرين، ولذلكَ لا تُلاحظ أَيَّ تأثيرٍ للعلمِ الذي يحملهُ على شخصيَّتهِ وعلى مُختلفِ المُستوياتِ، ولهذا السَّبب فإِنَّ العلمَ والمعرفةَ عندنا لا تُؤثِّر، لأَنَّ النَّاسَ عادةً لا تتأَثَّر بالعلمِ المُجرَّدِ كتأَثُّرِها وانبهارِها بالنُّموذجِ الذي تأخُذَ منهُ العلمَ والمعرفةَ، وإِلَّا كيفَ يُمكِنُ لفاسدٍ أَن يقنعَ المُتلقِّي بأَهميَّةِ النَّزاهةِ إِذا كانت رائِحةَ فسادهِ تُزكِمُ الأُنوفَ؟!.

 ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ القرآن الكريم لم يمنحَ رسولَ الله (ص) صِفةَ [العظَمةِ] كما وصفهُ فيها بالأَخلاقِ في قولهِ تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} لأَنَّ النَّاسَ ينظرُونَ إِلى سلوكِ النبيِّ والرَّسولِ والإِمامِ والمُصلحِ و [الواعظِ] قبلَ أَن ينظرُوا في كلامهِ وحديثهِ و [رِسالتهِ] فلمَّا نزَّهَ اللَّهُ تعالى أَخلاقَ نبيِّهِ (ص) عندئذٍ قالَ {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. 

 ويشيرُ القرآن الكريم إِلى مُحوريَّةِ [القُدوة] في قولهِ تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

 فالإِصلاحُ بالقُدوةِ، والدَّعوةُ للإِصلاحِ بالأُسوةِ.

 يقُولُ الصَّادقُ (ع) {كُونُوا دُعاةً للنَّاسِ بغَيرِ أَلسِنتِكُم، ليَرُوا مِنكُم الوَرَع والإِجتهاد والصَّلاح والخَير، فإِنَّ ذلكَ داعِيَةٌ}.

 أَمَّا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) فكلامهُ واضحٌ جدّاً بهذا الصَّددِ، إِذ يقولُ (ع) {مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه ولْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه، ومُعَلِّمُ نَفْسِهِ ومُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِمْ}.

 وقولهُ (ع) {الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّه فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ}.

 فالفضلُ الذي يلمسَهُ المُجتمع في حديثِ العالمِ على عملهِ وسلوكهِ اليومي هو الذي يُحوِّل العِلم والمعرِفة إِلى مُجرَّدِ ثرثَرةٍ لا تُغني ولا تُسمِنُ من جوعٍ، وهوَ حال مُجتمعاتِنا للأَسفِ الشَّديد.

 إِنَّ العلمَ الذي يُؤثِّر في المُجتمع هو الذي يسيرُ في الأَسواقِ نمُوذجاً وليسَ الذي يتحرَّك في المُجتمعِ لِساناً وخِطاباً!.


اضف تعليق