q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الإمام الهادي (ع) والإصلاح الاجتماعي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

تمر علينا ذكرى ولادة الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ونعيش هذه الذكرى بعمق كي نستلهم منها ما يقوّم الفرد والمجتمع، ويشد أزره في مواجهة مصاعب الحياة الكثيرة، لاسيما الفكرية والعقائدية والعلمية منها، فقد ضج عالم اليوم بالثقافات المختلفة والأفكار المتناقضة، وباتت وسائل الإعلام مفتوحة على مصراعيها لكل ما هبّ ودب من التيارات الفكرية الصالحة والمنحرفة...

(سار الإمام الهادي على نهج آبائه المعصومين (عليهم السلام) مؤثراً صلاح المجتمع)

الإمام الشيرازي

تمر علينا ذكرى ولادة الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ونعيش هذه الذكرى بعمق كي نستلهم منها ما يقوّم الفرد والمجتمع، ويشد أزره في مواجهة مصاعب الحياة الكثيرة، لاسيما الفكرية والعقائدية والعلمية منها، فقد ضج عالم اليوم بالثقافات المختلفة والأفكار المتناقضة، وباتت وسائل الإعلام مفتوحة على مصراعيها لكل ما هبّ ودب من التيارات الفكرية الصالحة والمنحرفة، وتداخلت مع بعضها لدرجة بات من الصعب على العقل البسيط أن يفرز بينها.

وهنا تبدو الحاجة كبيرة كي نطلع على علوم أهل البيت، ونأخذ من نصائحهم وأفكارهم ما يجعل عقولنا أكثر استنارة وفهما لما يدور حولنا، فمن لا يضع أمامه نموذج فكري عقائدي لا يمكن له أن يعبر هذا العصر بسلام، لاسيما مع هذا التدفق الهائل للأفكار والثقافات المتناحرة، لهذا بات الصلاح هدفا أساسيا لكل فرد ولكل مجتمع.

ونحن نعدّ من الأمم المحظوظة بسبب الخزين الهائل من المبادئ العظيمة لأهل البيت، ومنها موسوعة العلوم المتفردة التي تركها لنا الإمام علي الهادي (عليه السلام) في عدد من مؤلّفاته المهمة، كلها تضع سبل الصلاح بين أيدي الناس كي يعوا ما يدور حولهم وما يجري في دنياهم سواء على الصعيد الديني والفكري أو المادي والمعنوي، وهذا هو ديدن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حيث أناروا عقول المسلمين بعلومهم، وفتحوا لهم آفاق الحياة السليمة، وسبل العيش الكريم في مجتمع مسالم ومنتِج.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم (المعصوم الثاني عشر: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام):

(على نهج آبائه المعصومين (عليهم السلام) سار الإمام الهادي (عليه السلام) مؤثراً صلاح المجتمع وهداية العباد على كل شيء، وقد كان له (عليه السلام) مواقف مهمة سجلها التاريخ بأحرف من نور).

وحين نعود إلى صفحات التاريخ ونطالع المرحلة السياسية التي عاشها الإمام علي الهادي (عليه السلام)، سوف نكتشف الظروف المعقدة التي أحاطت به، وفي المقدمة منها تلك البغضاء والمضايقات التي كان يتعرض لها من السلطان الجائر، ويضاف إلى ذلك ظهور الكثير من الفرق الضالة آنذاك، مما تسبب في انتشار الكثير من الأفكار المضللة والبدع الزائفة، مما ضاعف من خطورة ما يتعرض له المسلمون.

التصدي المستمر لتيارات الانحراف

في ظل هذه الظروف العصيبة قام الإمام علي الهادي (عليه السلام) بالتصدي الحازم لموجات الانحراف، خاصة ما تعرض له القرآن الكريم من محاولات خبيثة، تصدى لها الإمام عليه السلام من خلال توجيه الرسائل التي تدحض تلك الأفكار المريضة وتوضح مخاطرها وكان الإمام (عليه السلام) يوجّه رسائله العلمية التوضيحية إلى شيعته، مما صنع لهم طوقا حاميا لهم من تلك الأفكار والبدع والمعتقدات الخبيثة.

يقول الإمام الشيرازي:

لقد (شهد عصر الإمام الهادي (عليه السلام) ظهور العديد من الفرق الضالة كالمجبرة والمفوضة والغلاة، وأثيرت الكثير من المباحث الجدلية، منها مسألة قدم القرآن الكريم المعروفة بمحنة القرآن، وهي معضلة اُبتلي بها العامّة ولم تؤثّر على الشيعة. ففي رسالة كتبها الإمام الهادي (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإياك من الفتنة، فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق).

لقد حاول حكام بني العباس مضايقة الإمام علي الهادي (عليه السلام) وحاصروه، وسعوا إلى منعه من نشر العلوم الدينية بكل الطرق، ومع كل هذه الأفعال الاستبدادية الجائرة، التي كان الهدف منها محو علوم أهل البيت وحرمان الأجيال اللاحقة منها، إلا أن ما وصلنا منها رغم قّته وندرته لكنه كبير وعميق ومؤثر، ويعد من التراث الديني الخالد للشيعة وللمسلمين، وتضمنت هذه العلوم الكثير من الأجوبة والمضامين الفكرية والدينية النادرة.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

إن (العلوم التي ظهرت من الإمام الهادي (عليه السلام) كثيرة وفي مختلف المجالات، ولكن من ظلم بني العباس وجورهم أنهم كانوا يحرمون الناس والأجيال من تلك العلوم، وسعوا في تلف التراث الشيعي حتى لم يصل منها إلا القليل، وفي هذا القليل الكثير من العلوم والمعارف. ومنها ما أجاب به الإمام الهادي (عليه السلام) لأسئلة يحيى بن أكثم، في مجلس الواثق بحضور الفقهاء).

ارتداد الظلم على الظالمين

لقد تعرض الإمام علي الهادي (عليه السلام) لسلسلة من المظالم التي قام بها حكام بني العباس، سعيا منهم لمقارعة علوم أئمة أهل البيت، ولكنهم لم يفلحوا في هذه المهمة رغم قمعهم وظلمهم المستمر ليل نهار وبكل الأساليب القمعية الظالمة، إلا أن العلوم التي وصلتنا من الإمام علي الهادي (عليه السلام) تؤكد فشل أولئك الحكام وارتداد ظلمهم وقمعهم عليهم، وهو ما ثبت تاريخيا من خلال مطالعتنا للصراع بين أولئك الحكام وبين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وسعيهم المستمر على تأليف وكتابة وبث المبادئ والعلوم المتفردة.

وهكذا وصلتنا مؤلّفات الأئمة عليهم السلام، وهي تحمل في طياتها خرائط من نور يهتدي بها الناس، ويحصل منها على الخلق القويم، ويستمد منها سبل الاستقامة في حياتنا الغارقة بالظلام والمتاهات والانحرافات الكثيرة، فمن يطالع الزيارة الجامعة للإمام علي الهادي (عليه السلام) يستطيع أن يغترف منها نوادر الأفكار النيرة، ويهتدي من خلالها للسير في سبل الاستقامة والصلاح، من خلال الاطلاع على الكثير من المعارف الإلهية التي تصب في تنوير الجانب المظلم من الحياة.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(على الرغم من أن ظروف الإمام الهادي (عليه السلام) كانت صعبة جداً، خاصة في عهد المتوكل الذي عرف بشدة بغضه للإمام (عليه السلام) ولشيعته، مع ذلك فقد وصلنا منه (عليه السلام) معارف رفيعة، منها: الزيارة الجامعة الكبيرة، وهي بحر من العلوم والمعارف والعقائد الحقة، تربي الإنسان على الإيمان، وتعلمه الحق، وتبين له كيف يزور أهل البيت (عليهم السلام)، وتعرفه مقاماتهم العظيمة، وتطلعه على مجموعة كبيرة من المعارف الإلهية التي قلما توجد في مكان آخر).

لقد كان الحكام العباسيون ظالمون بسبب جهلهم، وكانت حربهم المستمرة على أئمة أهل البيت تدور رحاها ليل نهار، بسبب خوفهم من علوم أهل البيت (عليهم السلام)، فكل ظنهم إن الإنسان العالم الفاهم المتنور يشكل خطرا على سلطاتهم، وهو ظن صحيح بالنسبة لهم، لأن الإنسان الفاهم الوعي لا يصبر على الظلم والاستبداد، وهذا هو هدف الإمام علي الهادي (عليه السلام) وهو يواصل سعيه في تنوير شيعته برسائله التوجيهية التوضيحية على الرغم من سياسات القمع الجائرة للحاكم العباسي المستبد.

اضف تعليق