q
فضيلة الحكمة عبارة عن العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه، وهو لا ينفك عن اليقين والطمأنينة، فمجرد أخذ بعض المسائل وتقريرها على وجه لائق من دون وثوق النفس واطمئنانها ليست حكمة، والأخذ بمثله ليس حكيما، إذ حقيقة الحكمة لا تنفك عن الإذعان القطعي واليقيني وهما مفقودان فيه...

قد دريت إجمالا أن الفضائل المذكورة ملكات مخصوصة، لها آثار معلومة، وربما صدر عن بعض الناس أفعال شبيهة بالفضائل، وليست بها، فلا بد من بيان الفرق بينهما لئلا يشتبه على الغافل فيضل ويضل، فنقول:

قد عرفت أن فضيلة الحكمة عبارة عن العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه، وهو لا ينفك عن اليقين والطمأنينة، فمجرد أخذ بعض المسائل وتقريرها على وجه لائق من دون وثوق النفس واطمئنانها ليست حكمة، والأخذ بمثله ليس حكيما، إذ حقيقة الحكمة لا تنفك عن الإذعان القطعي واليقيني وهما مفقودان فيه، فمثله كمثل الأطفال في التشبه بالرجل، أو بعض الحيوانات في محاكاة ما للانسان من الأقوال والأفعال.

وأما فضيلة العفة، فقد عرفت أنها عبارة عن ملكة انقياد القوة الشهوية للعقل، حتى يكون تصرفها مقصورا على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عما يتضمن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه، وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بتلك الملكة وصدور آثارها مجرد كونها فضيلة وكمالا للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها، لا شيء آخر من دفع ضر، أو جلب نفع، أو اضطرار وإلجاء، فالإعراض عن اللذات الدنيوية لتحصيل الأزيد من جنسها ليس عفة، كما هو شأن بعض تاركي الدنيا للدنيا وكذا الحال في تركها لخمود القوة وقصورها وضعف الآلة وفتورها، أو لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، أو للحذر من حدوث الأمراض والأسقام، أو اطلاع الناس وتوبيخهم، أو لعدم درك تلك اللذات كما هو شأن بعض أهالي الجبال والبوادي.. إلى غير ذلك.

وأما فضيلة الشجاعة، فقد عرفت أنها ملكة انقياد القوة الغضبية للعقل حتى يكون تصرفها بحسب أمره ونهيه، ولا يكون للاتصاف بها وصدور آثارها داع سوى كونها كمالا وفضيلة، فالإقدام على الأمور الهائلة، والخوص في الحروب العظيمة، وعدم المبالاة من الضرب والقطع والقتل لتحصيل الجاه والمال، أو الظفر بامرأة ذات جمال، أو للحذر من السلطان ومثله، أو للشهوة بين أبناء جنسه، ليست صادرة عن ملكة الشجاعة، بل منشأها إما رذيلة الشره أو الجبن، كما هو شأن عساكر الجائرين، وقاطعي الطرق والسارقين، فمن كان أكثر خوضا في الأهوال، وأشد جرأة على الأبطال للوصول إلى شيء من تلك الأغراض، فهو أكثر جبنا وحرصا، لا أكثر شجاعة ونجدة.

وقس على ذلك الوقوع في المهالك والأهوال، تعصبا عن الأقارب والأتباع، وربما كان باعثه تكرر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغتر بذلك ولم يبال بالإقدام اتكالا على العادة الجارية. ومثله مثل رجل ذي سلاح لم يبال بالمحاربة مع طفل أعزل، فإن عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. ومن هذا القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة والإقدام، فإنه ليس صادرا عن ملكة الشجاعة، بل عن طبيعة القوة والغلبة.

وبالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت أفعاله صادرة عن إشارة العقل ولم يكن له باعث سوى كونها جميلة، فربما كان الحذر عن بعض الأهوال من مقتضيات العقل فلا ينافي الشجاعة، وربما لم يكن الخوض في بعض الأخطار من موجباته فينافيها، ولذا قيل عدم الفزع مع شدة الزلازل وتواتر الصواعق من علائم الجنون دون الشجاعة، وإيقاع النفس في الهلكات بلا داع عقلي أو شرعي كتعرضه للسباع المؤذية، أو القاء نفسه من المواضع الشاهقة، أو في البحار والشطوط الغامرة من دون علم بالسباحة من أمارات القحة والحماقة.

ثم الشجاع الحقيقي من كان حذره من العار والفضيحة أكثر من خوفه من الموت والهلاك، فمن لا يبالي بذهاب شرفه، وفضيحة أهله وحرمه، فهو من أهل الجنون والحماقة، ولا يستحق اسم العقل والشجاعة، كيف والموت عند الشجاع مع بقاء الفضيلة أحسن من الحياة بدونها، ولذا يختار الموت الجميل على الحياة القبيحة.

على أن الشجاعة في المبادئ ربما كانت مؤذية، وإنما تظهر لذتها في العاقبة (لا) سيما إذا حصلت بها الحماية عن الدين والملة، والذب عن العقائد الحقة، فإن الشجاع لحبه الجميل وثباته على الرأي الصحيح إذا علم أن عمره في معرض الزوال والدثور، وأثر الفعل الجميل يبقى على مر الدهور، يختار الجميل الباقي على الرذيل الفاني، فيحامي عن دينه وشريعته، ولا يبالي بما يحذر عنه غيره من أبناء طبيعته، لعلمه بأن الجبان المقصر في حماية الدين، ومقاومة جنود الشياطين إن بقي أياما معدودة، فمع تكدرها بالذل والصغار تكون زائلة، ولا ترضى نفسه بالحرمان عن السعادة الباقية، ولذا قال فخر الشجعان وسيد ولد عدنان عليه صلوات الله الملك الرحمان لأصحابه: "أيها الناس إنكم إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش".

وبالجملة: كل فعل يصدر عن الشجاع في أي وقت يكون مقتضى للعقل مناسبا لهذا الوقت واقعا في موقعه، وله قوة التحمل على المصائب، وملكة الصبر على الشدائد والنوائب، ولا يضطرب من شدائد الأمور، ويستخف بما يستعظمه الجمهور، وإذا غضب كان غضبه بمقتضى العقل، وكان انتقامه مقصورا على ما يستحسن عقلا وشرعا، ولا يتعدى إلى ما لا ينبغي. وليس مطلق الانتقام مذموما، فربما كان في بعض المواضع مستحسنا عند العقل والشرع، وقد صرح الحكماء بأن عدم الانتقام ممن يستحقه يحدث في النفس ذبولا لا يرتفع إلا بالانتقام، وربما أدى هذا الذبول إلى بعض الرذائل المهلكة.

وأما العدالة فقد عرفت أنها عبارة عن انقياد القوة العملية للعاقلة، أو امتزاج القوى وتسالمها وانقهار الجميع تحت العاقلة، بحيث يرتفع بينها التنازع والتجاذب، ولا يغلب بعضها على بعض، ولا يقدم على شيء غير ما تسقط له العاقلة. وإنما يتم ذلك إذا حصلت للإنسان ملكة راسخة تصدر لأجلها جميع الأفعال على نهج الاعتدال بسهولة، ولا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة وكمالا، فمن يتكلف أعمال العدول رياء وسمعة، أو لجلب القلوب، أو تحصيل الجاه والمال ليس عادلا.

وقس على ذلك جميع أنواع الفضائل المندرجة تحت الأجناس المذكورة فإنه بإزاء كل منها رذيلة شبيهة بها، فينبغي لطالب السعادة أن يعرفها ويجتنب عنها، مثلا السخاء عبارة عن ملكة سهولة بذل المال على المستحق، مع كون الغاية الباعثة له عليه مجرد كونه فضيلة وكمالا، دون الأغراض الأخر، فبذل المال لتحصيل الأزيد، أو لدفع الضرر، أو نيل الجاه، للوصول إلى شيء من اللذات الحيوانية ليس سخاء، وكذا بذله لغير المستحق والإسراف في إنفاقه، فإن المبذر جاهل بعظم قدر المال، والاحتياج إليه في مواقع لولاه لأدى إلى تضييع الأهل والعيال والعجز عن كسب المعارف وفضائل الأعمال، وله دخل عظيم في ترويج أحكام الملة ونشر الفضيلة والحكمة، ولذا ورد في الصحيفة السليمانية (إن الحكمة مع الثروة يقظان، ومع الفقر نائم).

وربما كان منشأ التبذير عدم العلم بصعوبة تحصيل الحلال منه، وهكذا يكون في الأغلب لمن يظفر بمال بغتة من ميراث أو غيره مما لا يحتاج إلى كد وعمل، فإن مثله غافل عن صعوبة كسب الحلال منه، إذ المكاسب الطيبة قليلة جدا، وارتكابها للأحرار مشكل، ولذا ترى أفاضل الأحرار ناقصي الحظوظ منه شاكين عن بختهم، وأضدادهم على خلاف ذلك، لعدم مبالاتهم من تحصيله بأي نحو كان. وقد قال بعض الحكماء: "إن تحصيل المال بمنزلة نقل الحجر إلى قلة الجبل وإنفاقه كإطلاقه".

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

اضف تعليق