q
عددا كبيرا من العوامل التي دفعت الأسعار إلى الارتفاع كانت تعديلات "لمرة واحدة" استجابة لصدمات العرض والطلب. وقد دعت إلى تغييرات نسبية في الأسعار أكبر من تلك التي كانت لتحدث لو وقعت صدمة لاتجاه التضخم مدفوعة باستمرار الطلب الكلي المفرط. كان هذا أشد وضوحا أثناء...
بقلم: ويليم إتش. بويتر، إبراهيم رهبري

نيويورك ــ في العام الماضي، في أعقاب التضخم العظيم خلال الفترة 2021-2022، أصدرت البنوك المركزية، وكبار الأكاديميين، والمؤسسات الدولية عددا من التقارير السطحية اللاحقة للأحداث. ولكن حتى قبل أن تجف أحبار تحليلاتهم، كانت توقعات التضخم تُـعَـدَّل نزولا بذات السرعة التي عُـدِّلَت بها ارتفاعا خلال العامين السابقين.

على سبيل المثال، في يونيو/حزيران 2023، كان متوسط توقعات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لتضخم نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية على أساس سنوي (باستثناء أسعار المواد الغذائية والطاقة) في الربع الرابع نحو 3.9%، في حين تراوحت توقعات لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية بين 3.6% و4.5%. في واقع الأمر، كان 3.2%.

قبل تناول ما غاب عن المتنبئين، لا بد من توضيح أمرين. أولا، ليست توقعات التضخم الصادرة عن البنوك المركزية أسوأ من توقعات القطاع الخاص في المتوسط، بل وربما تكون أفضل بعض الشيء ــ وهو ما قد يتوقعه المرء، نظرا لأنها تميل إلى كونها أقدر على الوصول إلى البيانات وتسخير قدر أعظم من الخبرات. ثانيا، لم تتجه توقعات التضخم نحو الأسوأ بشكل واضح. صحيح أن صندوق النقد الدولي، بين جهات أخرى، لاحظ أن أخطاء توقعات التضخم كانت أكبر بمقدار 2.5 ضعف وخمسة أضعاف مقارنة بعامي 2021 و2022، على التوالي، من المتوسط خلال الفترة 2010-2019، لكن مستويات التضخم السنوي في عامي 2021 و2022 كانت أكبر بمقدار 1.3 و2.5 مرة من متوسط الفترة 2010-2019، وكانت التغيرات في معدلات التضخم السنوية أكبر بمقدار 2.6 و7.1 مرة.

التفسير الحميد هو أن الصدمات أصبحت أكبر، وليس أن التنبؤ بالتضخم أصبح أقل كفاءة. لكن التعقيب الواضح على هذا الرد هو أن التوقعات لا تشكل أهمية كبرى عندما لا يتغير المتغير موضع التنبؤ بدرجة كبيرة. أي أننا لا نزال بحاجة إلى معرفة سبب استمرار التوقعات في إخطاء الهدف.

لدينا الآن عاملان موثقان جيدا. فأولا، استخفت التوقعات بالتأثير الذي يخلفه التيسير النقدي والمالي الضخم على الطلب، إلى جانب مضاعفات الإنفاق المرتفعة المرتبطة بالتحويلات الكبيرة التي تلقتها الأسر أثناء الجائحة. ثانيا، انطلقت تحفيزات الطلب الرئيسية في وقت حيث كانت سلاسل العرض خاضعة لضغوط كبيرة وغير متوقعة، ويرجع ذلك أولا إلى الجائحة ثم إلى غزو روسيا لأوكرانيا. الصدمات بحكم تعريفها يصعب التنبؤ بها، وقد كانت الصدمات ضخمة بشكل خاص في الفترة 2020-2022.

لكن التوقعات أيضا كان يعيبها خلل أكثر جوهرية: إذ كانت تفتقر إلى الوصف التمثيلي الواقعي لبيئة الأسعار والأجور. تختلف الصدمات الكبيرة عن الصدمات الصغيرة من حيث أنها تغير السمات الرئيسية لآلية النقل. على سبيل المثال، تميل الشركات إلى تغيير الأسعار بشكل أكثر تكرارا عندما تواجه صدمات كبرى. وفقا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، خلال النصف الثاني من عام 2021 ومرة أخرى خلال النصف الثاني من عام 2022، حَـدَّثَت الشركات الأسعار بشكل أكثر تكرارا بنحو مرتين عن الوتيرة التي كان عليها التحديث قبل الجائحة.

ربما كانت الصدمات الكبرى هي السبب. لكن الشركات تجد أيضا أنه من الأسهل رفع الأسعار عندما يفعل آخرون ذلك، وربما كانت صدمتا الجائحة والطاقة مجتمعتين أداة تنسيق فعالة لزيادات الأسعار.

يختلف تحديد الأجور عن تحديد الأسعار. وفقا لدراسة أجراها البنك المركزي الأوروبي في عام 2009، تميل الشركات إلى تغيير الأجور بمعدل أقل بنحو الثلث مقارنة بتغيير الأسعار. وقد انتعش نمو الأجور طوال الفترة 2021-2022 مع انقطاع العمال عن العمل بمعدلات غير مسبوقة (وهو الاتجاه الذي لاحق عن كَـثَـب ضغوط الأجور). لكن النماذج قللت من تقدير المدة التي قد تلزم أسواق العمل الضيقة والزيادات الكبيرة في الأسعار قبل أن يتسنى لها التأثير على عملية تحديد الأجور. وقد أدت هذه التأخيرات إلى إطالة أمد الدافع التضخمي الأساسي دون تضخيمه بالضرورة بالمعنى التراكمي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن عددا كبيرا من العوامل التي دفعت الأسعار إلى الارتفاع كانت تعديلات "لمرة واحدة" استجابة لصدمات العرض والطلب. وقد دعت إلى تغييرات نسبية في الأسعار أكبر من تلك التي كانت لتحدث لو وقعت صدمة لاتجاه التضخم مدفوعة باستمرار الطلب الكلي المفرط. كان هذا أشد وضوحا أثناء صدمة أسعار الطاقة الكبرى في عام 2022. كان الأمر كذلك على وجه التحديد: صدمة أسعار نسبية انعكس اتجاهها جزئيا في عام 2023. وقد خلفت ديناميكيات مماثلة أثرها على أسعار السلع المرتبطة بشكل وثيق بأسعار الطاقة أو تأثرت بشكل مباشر بارتباكات سلاسل التوريد الرئيسية. وقد انقلب اتجاه هذه الديناميكيات أيضا ــ كما رأينا مع أسعار السيارات وأسعار شحن الحاويات.

تدور الآن مناقشة بالغة الأهمية حول ما إذا كانت الشركات رفعت هوامش أرباحها بشكل غير طبيعي في السنوات الأخيرة. وقد توصلت دراسة حديثة أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى أن أرباح الشركات غير المالية ارتفعت إلى 19% فوق إجمالي القيمة المضافة في الربع الثاني من عام 2021، مقارنة بنحو 13% في الربع الرابع من عام 2019. ولكن بمجرد ارتفاع الأسعار وهوامش الربح، يصبح ارتفاعها بدرجة أكبر مما كانت عليه قبل التعديلات الكبيرة في الأسعار ــ أقل ــ وليس أكثر ــ ترجيحا. كما ساهم تطبيع أسعار الطاقة، وسلاسل التوريد، وهوامش الربح، في انخفاض التضخم بشكل أسرع من المتوقع في النصف الثاني من عام 2023.

سيكون التضخم الأعظم عاملا تحويليا لنماذج البنوك المركزية لا يقل أثرا عن الأزمة المالية في عام 2008. في ذلك الوقت، جرى تكييف النماذج لتشمل توصيفا أكثر واقعية للتأثيرات المالية. والآن، نحن في احتياج إلى معالجة أكثر واقعية لعملية تحديد الأسعار والأجور. على وجه التحديد، ينبغي لنا النظر في ثلاثة تغييرات واجبة.

في المقام الأول من الأهمية، يتطلب فهم التضخم التحليل على المستوى القطاعي أو شبه القطاعي، ومن الناحية المثالية بطريقة تعبر أيضا عن روابط سلاسل العرض. هذا من شأنه أن يجعل التوقعات أكثر تعقيدا، ولكن لا توجد طريقة للالتفاف حول ذلك. كما يُـعَـد النظر في البيانات المفصلة ضرورة أساسية لتحديد وتفكيك تعقيدات التغيرات ذات الصلة في العرض والطلب ومدى إلحاحها واستمراريتها. في بعض الأحيان تؤثر القطاعات الفردية بشكل كبير على التضخم الكلي، وتشكل أسعار المساكن في الولايات المتحدة مثالا بارزا على ذلك.

ثانيا، ينبغي للتنبؤات أن تضع في الحسبان مستوى (أو حجم) الصدمات من أجل رصد الاختلالات، وخاصة فيما يتصل بهوامش الربح. وأخيرا، ينبغي للتنبؤات أن تعيد النظر بانتظام في التغيرات التي تطرأ على الظروف والافتراضات. أثناء فترة التضخم العظيم، شملت التغيرات المهمة التي شهدتها الولايات المتحدة دَفـعة كبرى للطلب الكلي (من التحويلات المالية النقدية إلى الأسر)؛ وارتفاع وتيرة تعديلات الأسعار، نظرا لحجم صدمتي العرض والطلب مجتمعتين؛ والعدد المرتفع من القروض العقارية المعاد تمويلها مؤخرا والتي حُـبِـسَـت عند معدلات منخفضة.

في إعادة صياغة لعبارة شهيرة جاءت على لسان ونستون تشرشل، وصف رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول مؤخرا المتنبئين بأنهم "مجموعة متواضعة من الناس ــ لديهم كثير من الأسباب التي تدعو إلى التواضع". وعلى الرغم من أنهم تعلموا كثيرا من الدروس المفيدة من التضخم الكبير في الفترة 2021-2022، فإن التواضع ربما يكون أفضل وسيلة لتجنب الاضطرار إلى الوقوف موقف المتواضع مرة أخرى.

* ويليم إتش. بويتر، كبير الاقتصاديين السابق في سيتي بنك والعضو السابق في لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا، وهو مستشار اقتصادي مستقل.

إبراهيم رهبري، استراتيجي وخبير اقتصادي مستقل، وهو كبير استراتيجيي العملات السابق، والرئيس العالمي لتحليل النقد الأجنبي، ورئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي في سيتي جروب.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق