q
يتطلب النمو الاقتصادي والمساواة نهجاً يركز على فرص العمل في التنمية. ومع أن النمو الاقتصادي غير ممكن إلا إذا تحول العمال إلى وظائف أفضل وأكثر إنتاجية، فإن العدالة تتطلب تحسين فرص عمل العمال القابعين في أسفل سلم توزيع الدخل. ومن ثم فإن الطبقة المتوسطة المتنامية سوف تعمل بدورها...
بقلم: داني رودريك

كمبريدج- ظل الاقتصاد التقليدي يعاني دائما من خلل عندما يتعلق الأمر بالوظائف. وترجع هذه المشكلة إلى عهد آدم سميث، الذي وضع المستهلكين بدلا من العمال على عرش الحياة الاقتصادية. وقال إن أساس الرفاه ليس كيف ننتج أو ماذا ننتج، بل ما إذا كان بوسعنا أن نستهلك حزمتنا المفضلة من السلع والخدمات.

ومنذ ذلك الحين، أعطى الاقتصاد الحديث طابعا رسميا لهذا النهج، إذ لَخص رفاه الأفراد في نماذج تفضيلية قائمة على حزمة استهلاكنا. إذ نحقق أقصى قدر من "المنفعة" عن طريق اختيار أكثر السلع والخدمات التي ترضينا. ومع أن كل مستهلك هو أيضاً عامل من نوع ما، فإن الوظائف لا تؤثر إلا ضمنا على هذه المنفعة، وذلك بالدخل الذي توفره، والذي يحدد مقدار المال المتاح للإنفاق على الاستهلاك.

ومع ذلك، فإن الوظيفة لا تؤثر على ميزانية الفرد فحسب. فهي تضمن للشخص كرامته واعتراف المجتمع به. فهي تساهم في تشكيل هويتنا، وتحدد دورنا في المجتمع، والتقدير الذي يُكنه لنا المجتمع. ونحن نعلم أن الوظائف مهمة لأن الأشخاص الذين يفقدونها غالبا ما يكونون غير راضين عن الحياة إلى درجة كبيرة وباستمرار. وتعادل القيمة المالية لهذا الشعور أضعاف دخل الشخص، مما يجعل تعويض الأفراد بالتحويلات الحكومية (مثل التأمين على البطالة) غير ممكن من الناحية العملية.

وعلى نطاق أوسع، تشكل الوظائف دعامة الحياة الاجتماعية. وعندما تختفي وظائف الطبقة المتوسطة اللائقة- بسبب التشغيل الآلي، أو التجارة، أو سياسات التقشف- فلن تنشأ تأثيرات اقتصادية مباشرة فحسب، بل وأيضاً تأثيرات اجتماعية وسياسية بعيدة المدى. وسترتفع معدلات الجريمة، وتتفكك الأسر، وترتفع معدلات الإدمان والانتحار، ويتزايد دعم الاستبداد.

وعندما يفكر خبراء الاقتصاد وصانعو السياسات في العدالة الاجتماعية، فإنهم عادة ما يركزون على التنوع "التوزيعي"ـ من يحصل على ماذا؟ ولكن كما يزعم الفيلسوف السياسي، مايكل جي ساندل، فربما يكون المقياس الأهم هو "العدالة المساهِمة"، التي يقصد بها الفرص المتاحة لكسب الاحترام الاجتماعي الذي تجلبه الوظائف الجيدة والتي تنتج " ما يحتاج إليه الآخرون ويقدرونه".

وفي حين أنه عادة ما يُنظر إلى هذه القضايا في سياق الاقتصادات المتقدمة، فإنها لا تقل أهمية فيما يتعلق بالبلدان النامية. ففي دولة غنية، يمكن تعريف الوظيفة الجيدة على أنها الوظيفة التي تمكن الفرد من الانتقال إلى مستويات معيشة الطبقة الوسطى، والتي تدعم حقوق العمل الأساسية مثل ظروف العمل الآمنة، والمفاوضة الجماعية، والقواعد التنظيمية التي تحمي العمال من الطرد التعسفي. وفي البلدان الفقيرة، فعادة ما تُعرف الوظيفة الجيدة بأنها الوظيفة التي توفر مستوى معيشة أعلى مقارنة مع تلك التي توفرها زراعة الكفاف غير المنتِجة والمرهقة، أو تلك المرتبطة بالعمل في القطاع غير الرسمي الذي يسبب عدم الاستقرار على المستويات المعيشية.

والواقع أن انتقال الناس من وظائف سيئة إلى وظائف أفضل يلخص عملية التغيير البنيوي التي تدفع قدما بالتنمية الاقتصادية برمتها. إن إطلاق العنان لهذه العملية بوتيرة سريعة وباستدامة أمر بالغ الأهمية. وفي الماضي كان التصنيع القوة الدافعة الرئيسية من أجل تحقيق ذلك.

والمشكلة الآن هي أن الصناعات التحويلية لم تعد هي القطاعات التي تستوعب العمالة، كما كان عليه الأمر في السابق. إذ أدت مجموعة من العوامل -وخاصة اعتماد أساليب التصنيع الحديثة على قدر أكبر من المهارات واستخدامها المكثف لرأس المال، واشتداد المنافسة الدولية على الانضمام إلى سلاسل القيمة العالمية- إلى صعوبة زيادة فرص العمل في التصنيع الرسمي في الاقتصادات النامية. وحتى البلدان التي تتمتع بقطاعات صناعية قوية -وخاصة الصين- تشهد تراجعاً في حصة التصنيع في إجمالي تشغيل العمالة.

والنتيجة الحتمية لهذه الاتجاهات هو أنه سيكون ضروريا توليد القسم الأعظم من فرص العمل الفضلى في قطاع الخدمات، سواء في البلدان النامية أو المتقدمة. ولكن بالنظر إلى أن معظم الخدمات في البلدان النامية غير منتِجة بقدر كبير وغير رسمية، فإن هذا التحول يشكل تحديا كبيرا. وما يزيد الطين بلة هو أن أغلب الحكومات غير معتادة على النظر إلى قطاعات الخدمات على أنها محركات للنمو. إن سياسات النمو -سواء كانت مرتبطة بالبحث والتطوير، أو الحوكمة، أو التنظيم، أو السياسات الصناعية- تستهدف عادة شركات التصنيع الكبرى التي تدخل ضمار المنافسة في الأسواق العالمية.

ورغم صعوبة الأمر، يتعين على الحكومات أن تتعلم كيفية تعزيز الإنتاجية وتشغيل العمالة في وقت واحد في قطاعات الخدمات التي تستخدم العمالة بكثافة. وهذا يعني اعتماد تدابير تتسم بالعديد من سمات "السياسة الصناعية الحديثة"؛ إذ تسعى الدولة إلى التعاون الوثيق والمتكرر مع الشركات لإزالة العقبات التي تحول دون توسعها، وذلك مقابل خلق فرص العمل.

وهناك بالفعل بعض الأمثلة على هذا النموذج في جميع أنحاء العالم. فلنأخذ على سبيل المثال الشراكة التي أبرمتها ولاية هاريانا الهندية (التي بدأت في عام 2018) مع شركتي خدمات نقل الركاب "أولا" و"أوبر". لقد تأسست هذه الشراكة بين القطاعين العام والخاص بهدف زيادة فرص عمل الشباب، إذ تسهل على الشركات عملية تحديد هوية السائقين وتوظيفهم، وتستند هذه الشراكة بين القطاعين العام والخاص إلى مقايضة واضحة. فقد خففت ولاية هاريانا القيود التنظيمية التي أعاقت نمو الخدمات، وتقاسمت قواعد البيانات الخاصة بالشباب العاطلين عن العمل، ونظمت معارض فرص عمل حصرية للشركات، التي تعهدت بدورها بالتزامات (رخوة) بتوظيف عدد كبير من الشباب.

إن هذا الاتفاق ديناميكي. إذ يساعد تكييف الشروط مع الظروف المتغيرة على بناء الثقة المتبادلة دون إلزام الشركات بشروط صارمة. وفي أقل من عام، خلقت الشراكة أكثر من 44 ألف فرصة عمل جديدة لشباب هاريانا.

ولا شك أن الخدمات تشمل أنشطة مختلفة، وهناك اختلاف كبير بين الشركات في الحجم وفي الشكل. وأي برنامج واقعي لتوسيع نطاق العمالة المنتِجة في قطاع الخدمات لابد أن يكون انتقائياً، مع التركيز على الشركات والقطاعات الفرعية المرشحة للنجاح. وسوف يكون من الضروري وضع برامج تجريبية، وكثيراً ما تكون الحكومات المحلية -البلديات والسلطات دون الوطنية- أكثر قدرة من المسئولين الوطنيين على تنفيذ هذه البرامج.

وفي نهاية المطاف، يتطلب النمو الاقتصادي والمساواة نهجاً يركز على فرص العمل في التنمية. ومع أن النمو الاقتصادي غير ممكن إلا إذا تحول العمال إلى وظائف أفضل وأكثر إنتاجية، فإن العدالة تتطلب تحسين فرص عمل العمال القابعين في أسفل سلم توزيع الدخل. ومن ثم فإن الطبقة المتوسطة المتنامية سوف تعمل بدورها على تعزيز الطلب المحلي، وتعزيز خلق فرص العمل في مجال الخدمات.

إن النموذج القائم على الخدمات لا يمكنه أن يولد معجزات النمو التي أنتجها التصنيع الموجه للتصدير في الماضي. ولكنه لا يزال ممكنا أن يؤدي إلى نمو أعلى جودة، وقدر أكبر من الإدماج الاجتماعي وطبقة متوسطة ذات نطاق أوسع.

* داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بكلية جون إف كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ورئيس الرابطة الاقتصادية الدولية ومؤلف كتاب (حديث صريح عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل)
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق