ان نفكر جديا بتمكين غير القادرين ماليا على السفر، بتخصيص قروض للسفر تحديدا وباستقطاع مقبول من الراتب ان كان المسافر موظفا، وبلا فوائد من المصارف لغير الموظفين، بالمقابل علينا تفعيل السياحة الخارجية في بلادنا، فلا تقل فوائدها عن سفر العراقيين للخارج، والاجتماعي فيها يفوق المالي، من خلالها تتفاعل الثقافات...

يموت موتا بطيئا من لا يُسافر، بالسفر تنتعش الروح، ويسترخي المزاج، ويحلّق الخيال، وتتجدد الطاقة، وينبعث الأمل، ويستيقظ الحماس، هذا من غير تلك الفوائد التي أورثها لنا الأولون في كلامهم، فليس بالضرورة أن تضيق بك الدنيا لترى ان أرض الله واسعة، بل السفر حاجة قد يحول دونها عدم المكنة المالية او غياب الوعي بأهميتها او الانغماس بمشاغل الحياة او البخل، وهي ملحة للعلماء والفنانين والأدباء ليكتبوا بطريقة الناظرين الى السفح من قمة الجبل، ووصف الأشياء كما رأتها العين، لا كما سمعتها الأذن، واستنباط الحكمة عن يقين، وليس اطلاق عبارات تشوبها الشكوك والظنون.

ما كان بمقدوري القول: ليس للعراقيين مثيل كرما وشجاعة وغيرة لو لم أر الآخرين من غير أبناء وطني، ففي السفر اكتشاف لوطنك وأهلك وذاتك، قبل اكتشاف أوطان الآخرين والتعرف الى شعوبها، فما أن تستنجد في قلب عواصم الغربة بالقول: أين العراقيون؟ حتى تجدهم يلتفون حولك كالساتر المرصوص من كل المذاهب والأديان والقوميات، تقدح عيونهم شررا، ومحياهم احمرارا، لهم الاستعداد للتضحية بكل شيء حتى أرواحهم دفاعا عنك، حدث هذا في أعتم سنوات العراق، فما بالك عندما يكون البال مرتاحا، والحال ميسورا، والمزاج رائقا، فهل رأيتم مثل هذا عند غيرهم؟ هذا ما رواه لي كثيرون، وفي أكثر من مكان، تشعر بروحك محلقة في الفضاء عندما تراهم يبادرون لحمل حقائبك الثقيلة لكبر سنك، او يتكفلون بعراقية أربكتها الحقائب والأطفال، ويسألونك اينما يلتقوك ان كنت بحاجة، لذا لا تستغرب عندما يُدهش الآخرون بنا. فنحن ليس كغيرنا أبدا.

في السفر يتعزز انتمائك للوطن، ويزداد حبك للأهل الذي نسميه بالوطنية، وتوقن ان جميع المظاهر التي خلفت ندوبا في جسدنا كانت سياسية وليس اجتماعية، والطائفية مثالها الأوضح، وعندما يبلغ عندك اليقين هذا المبلغ، لن يعجبك بريق الناطحات واغراء السواحل وانارة الشوارع وطلاء الأرصفة، فسرعان ما يبدأ الحنين بالسريان في الشرايين بالرغم من أيام سفرك المعدودة . كثيرون اولئك الذين يجهلون قيمة الوطن، لذا علينا تمكينهم من اكتشافه بالسفر.

السفر مدرسة ثرية وان كانت باهظة الثمن، نتعلم منها الكثير لنطبقه في بيوتنا وأحيائنا، وكيف يفكر الآخرون، نريد لمن تعلم أن ينقل التجربة، ولمن تخلف أن يتحضر، وللمزاج المتشنج أن يسترخي، وللثقافة أن تتمثل الجديد من القيم بما يعزز الأصيل الذي نريد له رسوخا، فنحن مجتمع قيمي، تضبط سلوكنا وتفكيرنا القيم أكثر من القانون، فللعادات والأعراف سطوة، ومنها ما هو بال، ويُراد له أن يتبدل، وفي السفر احتمال للتغيير أكثر من طرقنا التقليدية التي تستغرق زمنا قد يطول.

لا يعني السفر الاستمتاع فحسب، وان كانت الغالبية تنظر له من هذه الوجهة، و لا ضير في ذلك، بل يأتي اثراء للثقافة حتى وان كان ذلك بغير قصد، نستطلع جغرافية البلدان وطرق عيش الناس وثقافة الشعوب وغيرها.

لذا يجب أن نفكر جديا بتمكين غير القادرين ماليا على السفر، بتخصيص قروض للسفر تحديدا وباستقطاع مقبول من الراتب ان كان المسافر موظفا، وبلا فوائد من المصارف لغير الموظفين، بالمقابل علينا تفعيل السياحة الخارجية في بلادنا، فلا تقل فوائدها عن سفر العراقيين للخارج، والاجتماعي فيها يفوق المالي، من خلالها تتفاعل الثقافات، ويتحلحل التشدد في الكثير من الأمور، بضمنها العادات والتقاليد والأعراف غير المرغوب فيها، ليروا الوجه الاجتماعي للحرية كممارسة واقعية على الأرض، لنتخلص من فكرة الوصاية التي انتقلت من الأوصياء الكبار الى بعض الأفراد، فقيدوا حريتنا وعكروا مزاجنا. اللهم حررنا من الأوصياء كبارهم وصغارهم الذين صادروا حقنا بالتفكير، وظنوا انهم الصح ونحن الخطأ على الدوام.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق