q
لا يختلف اثنان على فشلنا في البناء والاعمار خلال العقدين الماضيين، وان مقارنة ما أُنفق من أموال بما تحقق من انجازات على مستوى البلاد، يؤكد هذا الفشل في اعمار الانسان والبنيان على حد سواء، فلم تتمكن تجربتنا من حماية نفسها من ان تكون مجالا منتهكا من الجهلاء والفاسدين، لتغدو محافظاتنا مرتعا للفاسدين...

مع ان الدروس المستنبطة من التجارب ثرية وعميقة ومؤثرة، وتقتضي زمنا ليس بالقصير ليطويها النسيان، لكنها ستندرج في طياته يوما ما لا محالة، كما ليس من الصحيح أن نكابد المآسي لنتعلم منها، بل يفترض أن تكون للقائد القدرة على استشراف المستقبل، والوقوف على مختلف احتمالاته، وادراك المواقف وأبعادها اللاحقة، وان يكون وعيه متبلورا بحيث تصدق توقعاته في غالبيتها، وان يتسلح بمعطيات الواقع ليكون بمقدوره التنبؤ، فالقيادة لا تعني التربع على الكراسي، والتمكن من النفوذ، والاستمتاع بالوجاهة، بل القيادة مهارات فائقة وثقافة رفيعة تمكن صاحبها من الابحار بالسفينة الى شواطيء الأمان .

لا نختلف على ان القيادة في جانب منها موهبة، لكنها تظل على فطرتها ان لم تصقل بالثقافة، وتتعزز بالتخصص، فبالثقافة والتخصص تتشكل الرؤية، وبغير الرؤية تغدو القيادة باهتة، وبلا اخلاص تصير منبوذة، وان اهتمت بالضيق من المصالح تكون محتقرة. ومن هذه الزوايا ميزوا بين قادتنا .

القادة العظام اولئك الذين تمكنوا من تحديد ملامح المستقبل، وأبدوا استعدادا للتضحية وتمسكا بالمبادىء، وحرصا على انقاذ شعوبهم من مجاهيل التخلف، اولئك الذين صنعت لهم الشعوب تماثيل في ذاكرتها، وفي التاريخ القريب العديد من هؤلاء الذين أحدثوا تحولات مذهلة في حياة أممهم، وأصبحت بلدانهم منارات مشعة، انظروا لسنغافورة من مستنقع للبعوض الى مدينة للأحلام، وهذه الامارات من صحراء مظلمة الى سمفونية للنور، وتلك ماليزيا من سلحفاة بائسة الى نمر أسيوي، بالقفزات دخل نادي الدول المتقدمة، لن أتحدث عن اليابان وكوريا الجنوبية وبعض من دول أمريكا اللاتينية، فما أن تتأمل في هذه التجارب حتى يمثل أمام عينيك مهاتير محمد الماليزي، ولي كوان يو السنغافوري، وجوكو ويدودو الاندونوسي . ما كان لهذه التجارب أن تصبح مثالا للنمو، لولا النزاهة بوصفها قيمة مقدسة .

لا يختلف اثنان على فشلنا في البناء والاعمار خلال العقدين الماضيين، وان مقارنة ما أُنفق من أموال بما تحقق من انجازات على مستوى البلاد، يؤكد هذا الفشل في اعمار الانسان والبنيان على حد سواء، فلم تتمكن تجربتنا من حماية نفسها من ان تكون مجالا منتهكا من الجهلاء والفاسدين، لتغدو محافظاتنا مرتعا للفاسدين، يعبث بها غير المخلصين للوطن، وغير العارفين بأبجديات السياسة، وأصحاب النفوذ والسلطة التي تفوق سلطة الدولة، والذين لا يتحرك ضميرهم لتخلف بلدهم عن غيره من البلدان، ولا يحزنون لرؤية أطفالنا يخوضون في الأوحال للوصول الى مدارسهم، مع ان خمس سنوات من العمل النزيه تكفي للانتقال بالعراق من حال الى حال، ولكن كيف للنزاهة أن تطول رؤوس الفساد وليس الاكتفاء بذيوله .

كان علينا أن نعرف مسبقا وليس بالتجارب، ومع ذلك فما تعلمناه من التجربة كاف للقول ان آليات عملنا فاشلة، وان الصلاحيات التي اعطيت للمحافظات في غير محلها، ولن تفضي الى ما يتطلع له الناس، ولن يكون هناك بناء او اعمار الا بما هو شكلي ووهمي، وان مشاريعها وتخصيصاتها ستكون دافعا للصراع بين المتنفذين والمالكين لسلطة المال، بدل أن تكون بابا للتفاؤل بتحسن الحال. 

ولذا لا غرابة عندما تتصارع الأحزاب على المناصب العليا فيها، فالوجه الآخر لهذه المناصب هو المال، وان استقرارها ليس بالمطلق هو حصيلة جهد أمني، بقدر ما هو توافق بين الأحزاب على تبادل المصالح، وان الارتباك الأمني ما هو الا مظهر أساس للاختلاف .

وطالما الأمر كذلك، وبما اننا نتعلم من التجارب وليس من العلم، وان ما يحركنا هو الضيق من المصالح وليس محنة الوطن ومآسي الناس، لذا ادعو الى تطبيق المركزية في ادارة مشاريع الاعمار في المحافظات عبر مجلس للأعمار او ما تراه الحكومة مناسبا، وذلك لا يعني نهاية للفساد، و لكن يضّيق من حلقاته، يكفينا ما استنزف من مال وما أُهدر من وقت .

اضف تعليق