q
نحن على أعتاب اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام، حيث يقف فيه الحجاج عند جبل عرفات لأداء إحدى مناسك الحج، وفي مثل هذه الايام ثمة ذكرى عظيمة سجّلها التاريخ وحفظتها الاجيال؛ وهي وقوف الإمام الحسين، عليه السلام، في إحدى رحلاته الى الديار المقدسة، وتحديداً في يوم عرفة...

"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ"

جسّد الامام الحسين يوم عاشوراء القمة في الشجاعة والبطولة في مواجهة قوى الباطل، مستسهلاً الموت، بل عدّه سعادة و كرامة، ولكن! قبل هذا كان في قمة العبودية والخشوع والتضرّع لله –تعالى- أكسبه تلك الشجاعة لمواجهة موتٍ في غاية الألم والبشاعة.

نحن على أعتاب اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام، حيث يقف فيه الحجاج عند جبل عرفات لأداء إحدى مناسك الحج، وفي مثل هذه الايام ثمة ذكرى عظيمة سجّلها التاريخ وحفظتها الاجيال؛ وهي وقوف الإمام الحسين، عليه السلام، في إحدى رحلاته الى الديار المقدسة، وتحديداً في يوم عرفة، وتلاوته دعاءً هو من أعظم و أرقى ما صدر من بني البشر في مضامينه العبادية، ومعارفه الدينية العميقة، وهو في هذا الدعاء المُوصى قراءته في ساعات النهار من يوم عرفة، يجيب الامام الحسين فيه على سؤال بدأه الفلاسفة منذ انطلاق مسيرة المعرفة والفكر البشري في اليونان القديمة، وما يزال، عن طريقة الوصول الى حقيقة الخلق والخالق والوجود، وهل يمكن بما يملكه الانسان من حواس ظاهرية وباطنية (العقل) أم لا؟

بين النزعة المادية للتفكير واختبار الايمان

واضح الفرق بين الحقائق المادية والحقائق الغيبية، فالاولى يدركها الانسان بجملة من القوى منها؛ الحواس الظاهرية والعقل والفطرة، والتجربة والتعلّم والاستقراء، تمكن الانسان من معرفة الاشياء والظواهر في الحياة، بينما الحقائق الغيبية التي "تندرج ضمن علم العقائد، هي واقعيات خارجية غير مرتهنة في وجودها، ولا في صحتها ولا في آثارها التكوينية والحقيقية، بالعلم بها او عدمه، فسواء علمنا بها أم لا، فانها حق أولاً؛ وصدق ثانياً". (مدخل الى علم العقائد نقد النظرية الحسيّة- آية الله السيد مرتضى الشيرازي".

ومن الحقائق الغيبية؛ الله –تعالى- والجنّة والنار، والثواب والعقاب، وحتى المعاجز، وإدراك هذه الحقائق لا يكون بالطريقة المادية –الحسيّة التي تتبناها طائفة واسعة من البشرية اليوم، وتضطر للتوقف الذاهل أمام ما يقوله الامام الحسين، عليه السلام، في دعائه يوم عرفة طالباً من الله –تعالى- بأن "اجعلني أخشاك كأني أراك"، فأيّ خشية هذه التي تقرّب الانسان الى الخالق، وهو غيب مطلق، الى درجة أن يتصور او يتشبّه شخصاً أمامه يراقبه ويحاسبه؟ بينما يعتقد أصحاب المدرسة الحسيّة أن أي شيء لا تدركه الحواس الظاهرية والباطنية (العقل) فلا وجود له.

يجيب الامام الحسين، عليه السلام، عن هذا التساؤل بوجود قوى إدراكية أخرى للحقائق الغيبية، وهي الروح والنفس التي تصنع المعرفة الصحيحة، ومن ثم الوصول الى الإيمان واليقين، وقد جسّد هذه القوة، عليه السلام، بشخصه الكريم في ملحمة عاشوراء، ثم تعلّم الدرس البليغ؛ الصفوة المتبقية ممن صحبه في مسيرته، ومن التحق به فيما بعد مثل؛ الحر الرياحي، فقد فضل هؤلاء الانتماء لمعسكرٍ لا يعطيهم سوى الموت والهزيمة العسكرية، على المعسكر الذي حقق النصر وعاد مقاتلوه الى أهليهم غانمين سالمين لانهم حكّموا العقل الداعي بعدم "إلقاء النفس في التهلكة"، بينما الإيمان المنبعث من جلسات الدعاء والتضرع والانقطاع الى الله –تعالى- هو الذي يتفوق على العقل العاجز عن تشخيص الحق من الباطل، والجنة من النار، وهو التشخيص الذي حَظي به شخصٌ مثل الحر الرياحي عندما فضّل إيمانه على عقله في لحظة حاسمة واستثنائية جعلته يتحول من انسان مجهول مثل سائر من قتل في جيش عمر بن سعد، الى أيقونة الإرادة والتغيير الجذري الناجح عبر التاريخ.

أما عن كيفية توفير هذه الروح النقيّة والنفس الطيبة، فان هذه الزيارة الخاصة والمؤكدة بحد ذاتها (عرفة)، وسائر الزيارات المؤكدة للإمام الحسين، عليه السلام، تمثل سُبلاً سالكة لتحقيق هذا الهدف، ومن ثمّ الوصول الى الدرجات العليا من الإيمان واليقين بالله –تعالى- وبأحكامه وسُننه في الحياة، وبما وعد به عباده في الآخرة.

الدعاء و البطولة الخالدة

البطولة ليس بالضرورة في حمل السلاح وخوض المعارك لنيل إحدى الحُسنين؛ إما النصر أو الشهادة، ربما تكون ثمة مصاديق اخرى في حياتنا اليومية، لاسيما ونحن في نواجه تحديات فكرية وثقافية لم نشهدها منذ تاريخنا المديد، فأن يتمكن رب أسرة من تربية ابنائه على الالتزام بالاحكام الدينية والآداب والقيم الاخلاقية في وقت أصبح الانترنت سيد الموقف، فهو أبٌ ناجحٌ وبطلٌ من الدرجة الاولى، لأنه تغلّب على قوى عالمية كبرى تتحكم بالافكار والمزاجات والقناعات في جميع انحاء العالم.

وكم من بطلٍ أفنى عمره ليثبت صورته المميزة والمتفوقة في اذهان وقلوب الناس في هذه الحياة، بل و سعى مستميتاً أن يخلدها بعد مماته، ولكنها تسقط فوراً لمجرد موته، لأنه كان بطلاً لنفسه لا للآخرين، فقد أعقبه من هو أقوى وأكثر إثارة، وها هو القرآن الكريم يحدثنا عن هذه الحقيقة المرّة في غير آية كريمة: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

لذا نجد الامام الحسين، عليه السلام، يعلمنا في دعاء عرفة طريق التكامل النفسي والروحي، وصناعة حالة عصامية تمنحنا قوة قاهرة مسنودة من السماء، حيث القدرة اللامتناهية، يكفي مراجعة هذا الدعاء لنعرف كيف أن الامام يشكر ربه على تفاصيل دقيقة في بدنه وفي حياته، ثم يُظهر جانباً من القدرة الإلهية، والإقرار بالضِعة والاستكانة والهوان أمام جبروت الله وعظمته، وانطلاقاً من هذه المعرفة يطلب الامام من الله –تعالى- بالعفو والصفح والمغفرة.

بهذا النوع من العلاقة يحصّن الانسان نفسه من الزلل والخطل –قدر الإمكان- ولا ننسى أن الامام الحسين يدعو بهذه الالفاظ القاسية الدالة على حصول التقصير في العمل والفهم، وهو، عليه السلام، إمامٌ معصوم، وقد تربى في حجر رسول الله، ومن ثم حجر أمير المؤمنين، وقد شهد نزول الوحي من السماء بين فترة واخرى، فهو انسان غير عادي بالمرة، إنما صياغة الدعاء مهداة إلينا نحن لتكون لنا مدرسة معرفية من خلالها نكتسب القوة الحقيقية المستندة الى قوة السماء، لا الى قوى بشرية تنتهي وتموت بموت صاحبها مثل؛ القوة الغضبية، والقوة الشهوية، وهي القوتان التي طالما دفعت بالانسان الى الكوارث والانحرافات القاتلة.

ولعل هذا يفسّر لنا الاهتمام البالغ بمسألة النيّة في الأعمال، وأن تكون خالصة لوجه الله –تعالى- فقط لا غير، ومن هنا وقعت الملاحم البطولية الخالدة، مثل لحظة قتل أمير المؤمنين لعمر بن ودّ العامري بتأجيل قطع رأسه لحظات ليكون العمل خالصاً لوجه الله، ولا يختلط بالغضب من ذلك الرجل بإساءته الى أمير المؤمنين في القصة المعروفة، ونفس هذا الموقف تجسّد في رجال مؤمنين من الاخيار الصالحين فضلوا الإنفاق وخوض غمار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر ثقافة أهل البيت بكل ما يملكون، على حياة الدعة والرفاهية والاستقرار البعيدة عن المضايقات السياسية والاجتماعية.

إن الذي يخشى الله –تعالى- دون اليقين الحاصل لديه بأنه يراه، فانه يؤدي الفرائض، بل وحتى المستحبات، ويتجنب المعاصي طمعاً بالأجر والثواب "وتلك عبادة التجّار"، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، هذا النوع ربما يتعرض لرياح بسيطة في حياته تجعله ينزلق في لحظة اعتداد بالنفس وغرور بمنزلته الدينية والاجتماعية فيبيح لنفسه ما يُحب، بينما الذي يطبق دعاء الإمام الحسين: "اللهم اجعلني أخشاك كأنني أراك"، فانه يبقى يقضاً طوال حياته، ولن يسمح لنفسه لحظة واحدة بارتكاب معصية، وإن كانت بلمح البصر، او إشارة، او ربما بخاطرة عابرة في الذهن.

فهل كل هذا يُعد من المثاليات والمستحيلات؟!

وهل ما دعا به الامام الحسين، عليه السلام، في تلك اللحظات الروحانية، والحالة الاستثنائية من الخشوع والخضوع والبكاء، كان كلاماً خاصاً بالإمام الحسين دون سواه؟!

القضية ليست سهلة بالتأكيد، ولكنها ليست مستحيلة بالمرة، وممكنة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، و بلغ بإيمانه درجات عالية تجعل ذاته وقدراته ضمن القدرة الإلهية العظيمة اللامتناهية.

اضف تعليق