يمكنك أن تربي أبناءك منذ الطفولة مرورا بالمراهقة والشباب، على الصمت الذي يغذي العقل بالأفكار الكبيرة، وقد مرّ علينا وصف الإمام علي للصمت بأنه (روضة الفكر)، فكلما امتلك الابن القدرة الحكيمة على الصمت، كان أقدر على صناعة الأفكار المبتكرة العميقة...

الصمت بمعناه اللغوي المعروف هو الكفّ عن الكلام، هذا هو الوصف الظاهري المكشوف للصمت، فحين يتوقف الشخص عن النطق نقول إنه صمتَ أو كفَّ عن الكلام، ولكن هل هذا التوصيف هو كل ما يعنيه الصمت، أم هناك معانٍ أخرى أكثر عمقًا وتشعّبًا؟

نعم هنالك معانٍ أخرى للصمت لا علاقة لها بالنطق أو التوقّف عنه، لأننا إذا حصرنا معنى الصمت بالتوقّف عن النطق، فكيف سنفسّر قول الإمام علي عليه السلام الي يقول: (الصمت روضة الفكر)؟

الروض أو الروضة هو أجمل الأماكن وأنسبها للتأمّل والتفكير والغوص في الأعماق والانعزال الفكري الفلسفي التام عن الواقع، وهو أجمل الأماكن وأكثرها هدوءًا لمن يريد أن يُبحر في أعماق الأشياء، والروض كما هو معروف البستان المعطّر بالزهور والاخضرار، تفوح فيه أنواع العطور والزهور، وتتلاطف فيه أعذب النسائم لدرجة أن الجليس يغفو من عذوبته.

وهذا يعني إن الفكر لا يجد مكانا يتحرك ويتأمّل فيه أنسب من الصمت الذي هو روض الفكر، فهل يعني هنا أن الصمت ينحصر بالكفّ عن الكلام فقط؟، كلا طبعا، وهناك فمعانٍ عظيمة للصمت بحسب استعمال هذه المفردة في الجمل المنطوقة.

هناك من يقول إن الصمت لا يصح في حضرة الحاكم أو المسؤول الظالم، وأن السكوت في هذه الحالة يمثل نوعا من الخوف أو الجبن أو التراجع عن الوقوف الشجاع وفضح الظالمين، وهذا صحيح تماما، لكن الصمت الذي نعنيه فلسفيا وفكرا غير الصمت الذي يتهرب من خلاله الإنسان عن أداء دوره الكفاحي.

صمت الحكمة والتعقّل

الصمت الذي نقصده هو صمت الحكمة، صمت التعقّل، صمت الإنسان المتوازن، الذي يحاول من خلال الصمت أن يكبح جماح المسيئين له بالكلام الجارح أو سواه، فحين لا تبادل الشخص الخاطئ بالخطأ، وتركن إلى الصمت وتترفع عن الدخول في مساجلات بذيئة، فهذا يعني أنك إنسان متوازن متعقّل يمتلك من الحكمة ما يجعله قادرا على مواجهة المسيء بالصمت الحكيم.

إذا ربّيت أبناءك بهذا النوع من الصمت، فأنت جعلت من حكماء متعقّلين، متوازنين، يمتلكون شخصيات رزينة قوية، لا يمكن استدراجها إلى المهاترات والمماحكات والنزعات اللفظية الفارغة، بمعنى أنت تحصّن أبناءك من السقوط في الكلام السوقي السقيم.

كذلك يمكنك أن تربي أبناءك منذ الطفولة مرورا بالمراهقة والشباب، على الصمت الذي يغذي العقل بالأفكار الكبيرة، وقد مرّ علينا وصف الإمام علي للصمت بأنه (روضة الفكر)، فكلما امتلك الابن القدرة الحكيمة على الصمت، كان أقدر على صناعة الأفكار المبتكرة العميقة.

ولهذا وُصف الصمت بأنه يمنح الإنسان وقارا وهيبة، حيث يقول أحد الفلاسفة بأن (كثرة الصمت هيبة)، لاسيما عندما يكون الكلام بلا قوانين ولا ضوابط ولا تقاليد، حينئذ يحمي الإنسان نفسه بالصمت، فيسمو فوق صغائر الكلام. 

ولهذا أيضا ينصح الكثير من العقلاء أبناءهم من عدم الوقوع في كثرة الكلام أو الثرثرة أو الإسفاف في القول بمناسبة أو بدونها، لهذا يحذّر أحد الحكماء الناس قائلا:

(الكلام كالدواء؛ إنْ أقللتَ منه نفع، وإنْ أكثرت منه قتل).

لهذا نلاحظ في حياتنا الواقعية أن أصحاب الشخصيات القوية لا يتكلمون ولا ينطقون بشيء إلا عندما يكون الكلام ضروريا، صحيح هناك من يؤكد على وجوب الكلام في بعض الأماكن والحالات، مثل الدفاع عن الحقوق الشخصية أو العامة.

قلّة الكلام ترفع من شأن الإنسان

وهذا أمر مفروغ منه بطبيعة الحال، لكن الصمت الذي نعنيه هو ذلك الذي يرفع من شأن الإنسان حين يكون الكلام فائضا أو لا فائدة منه وتنعكس الحالة فيصبح الكلام غير مجدٍ ويتحول إلى ثرثرة بلهاء.

يصف أحدهم هذا النوع من الكلام بالقول: (منْ كثرَ كلامه قلَّ احترامه)، فتصبح كثرة الكلام هنا نوعا من الإسفاف والإسراف غير المبرَّر بالكلام، ويكون الصمت في هذه الحالة سبيلا لرزانة الإنسان و وقاره وحكمته، هذه التفاصيل والمعاني المتناقضة للصمت يجب أن يعرفها الأبناء ويتم تربيتهم عليها من قبل الآباء كونها تقع ضمن مسؤولياتهم التربوية.

وهناك مفكرون وعلماء في اللغة والمعاني والمنطق، ربطوا بين العقل من جهة وبين قلّة الكلام من جهة أخرى، فقالوا (إذا تمَّ العقل نقص الكلام)، ولكن مثل هذا المعنى هل ينطبق على جميع حالات الصمت؟، بالطبع لا يمكن أن ينطبق ذلك على جميع الحالات، ولكن كلما نضج العقل يكون الإنسان أكثر حفاظا على كلامه، فلا يقول إلا ما يلزم ويصح قوله.

وكثيرا ما سمعنا بأن هناك من يتعرض للقتل أو لمشكلات كبيرة بسبب كلامه غير المناسب، لهذا يحذّر الحكماء من أن (سلامة الإنسان في حفظ اللسان)، وهذا في الحقيقة نوع من التربية التي لابد أن يتربّى عليها الأبناء وهي مسؤولية الأسرة صعودا إلى المسميات المسؤولة الأخرى، كالمدرسة والجامعة والأصدقاء والمؤسسات الديني وسواها.

وأخيرا نقول، غالبا ما يرتبط الصمت بالنضج، وليس صحيحا أن لباقة الكلام تكمن في كثرته وسرعة لفظه، فهناك أناس يتحدثون ببطء وهدوء، لكنهم يعكسون نضجهم وقوة شخصيتهم من خلال نبرة الصوت الواثقة، صحيح أن الكلمات تخرج ببطء ولكنها عميقة مؤثّرة ومحمَّلة بالحكمة، كأنها شجرة مثقلة بثمارها الناضجة.

اضف تعليق