الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

_قــراءة سايكولوجية _

د.محمد عبدالرضا شياع*

محمد علي شمس الدّين شاعر من الجنوب اللبناني، وأشدّد على الجنوب لاعتقادي بأنّ شمس الدّين ينظر إلى العالم بعين هذا المكان الذي انشغل بذرّات ترابه وبدخان قراه، وحتّى لغته الشّعريّة اكتسبت ميزتها من غناها بالرّموز والإشارات التي تحمل صيحات هذا الجنوب، ولا أغالي إذا قلت إنّ الشّعراء العالميّين أدركوا العالميّة من خلال الامتداد العميق لجذورهم في التّربة المحلّية، لذلك يتسنّى لقارئ محمد علي شمس الدّين تلمّس هذا الزّعم في أوّل قراءة لنصوصه التي تبدو فيها كلّ قرية من قرى الجنوب أمّاً لكلِّ القرى اللبنانية، وكلّ صخرة فيه أساس الكون.

من هنا أدركُ الغرابة التي تنطوي عليها إجابته عندما سألته عن المشهد الشّعريّ في الجنوب اللبـنانيّ حـين قال: (ابتـعد عن الغـابة الشّعريّة في الجنوب كثير مـن طـيورها، فقد اندلعت الحرائق في كلّ الجذوع وفي الماء والهواء أيضاً، ولم يبق سوى عشّاق هذه الحرائق المنذورين للذهاب معها إلى آخر الزمان. قد تفاجأ حين تعرف أنّ شعر الجنوب هو غير شعر الجنوب، حيث اندرج كثير من شعرائه في فانطازيا الكلام، وأهلكهم الابتعاد عن الأصل.. انشغلوا بالذهن عن حرارة التراب وبالقراءة عن حيويّة النصّ الأرضيّ) (1).

إنّ حرارة التّراب وحيويّة النصّ الأرضيّ هما العنصران النابضان في وعي الشّاعر الشّعريّ، بهما تكتب الذّات الكاتبة تراتيل وجودها، ويكون تحبير القصيدة شمساً تنتظر البزوغ، لكن ليس بعيداً عن الجنوب الذي يقول عنه الشّاعر: (أنا ناري وحبّي أن أكون شاعر الجنوب. أملي أن أكون ذلك الشّاعر، لأنّ الجنوب أرض عظيمة، ولي ثقة بأنّ الجنوب باق، الأرض لن تغوص في الهوة والناس هناك باقون) (2).

لكن بهذه التصريحات التي تسهم في بناء النصّ وقراءته هل أستطيع القول إنّني شارفت على تلمّس أسرار الكتابة وطقوس ولادة القصيدة عند شمس الدين؟ لا أظنّ الإجابة سهلة إلى الحدِّ الذي يجعلني متيقناً بإيجابيّة كلّ شيء، بيد أنّ درباً في الغابة الشّعريّة يغري بتتبع خطى الذّات الشّاعرة التي تبدو أنّها تمتلك مفاتيح القراءة.

يعني هذا أنّ قراءة شعر محمد علي شمس الدّين وإضاءة مكامنه المكانيّة تكمن في ذات الشّاعر، ولا أقصد بهذا القول تفرّد الشّاعر، بقدر ما أشير إلى خصوصيّة القراءة التي تتطلّبها نصوصه، مثلما كانت، وستكون، لنصوص الآخرين خصوصيتها التي لا تخرج عن النّسق المكانيّ الذي كتبوا قصائدهم فيه وعنه.

ما يدفعني لهذا القول نصوصُ الشّاعر نفسه التي تُظهر كثيراً من التّفاعل بين المبدع وموضوعه، وكأنّ الموضوع جزء لا يتجزّأ من البناء العضوي للكاتب، وهذا ما سأوضحه عبر القراءة التي لا أراها ملائمة خارج الرؤية السايكولوجيّة التي سأركّز من خلالها على جدليّة العلاقة بين الوعي واللاوعي، وهي تتأسّس بدءاً من طفولة الفرد المتجذّرة في أعماق المكان الذي يظلّ يغذّي الشّاعر بأسباب الكتابة وبتوقد الخيال بأسئلة لا تغادر بيت الطفولة، وبذلك يتكوّن الداخل وينمو بفعل الخارج الذي يعود ثانية للخروج، لكن بصيغة أخرى لا يمكن أن تكون سوى الكتابة الشّعريّة.

يقول محمد علي شمس الدّين: (إنّني من بدايات الحياة التي دخلت في وعي الولد، أو استعادة لاوعيه، كنت مشغولاً بأسئلة عن كيفيّة سقوط الورقة عن الغصن مثلاً، تترنّح ثمّ تهوي بخدّها على الأرض؛ ثمّ تعود ورقة أخرى فتنمو على هذا الغصن؟ كيف يموت صديقي عبدالله في القرية وأنا ولد؟ أين ذهب حين مات؟ كيف مضى الأمس؟ من أنت الآن؟) (3).

على الرغم من تدفّق الأسئلة الوجوديّة القلقة في هذه (المناصّة الدّالة) إلاّ أنّ هيمنة تخلّق الوعي أمر مفروغ منه. وقد حدّده علم النفس بوصفه (حالة مدركَة-بصيغة اسم المفعول-لأنّها تسلّم ذاتي لموجود خارج الذّات. وهو بذلك حالة متنامية تعزّزها التّجربة وتدعمها الخبرة ويروّضها التدريب.) (4) حينئذ يبدأ اللاوعي بالتخلّق، لأنّ (الوعي ليس عملاً منفصلاً عن اللاوعي. إنّ اللاوعي حالة متغذيّة بمعطيات الوعي، صائرة بتكيّفه، متحوّرة بأشكاله) (5) وبهذا التّفاعل يتكوّن الداخل؛ أي بواطن الذّات الكاتبة. وهو ما نقرؤه، مرّة أخرى، في تصريحات شمس الدّين الذي يقول: (كنت مشغولاً أيضاً بالأصوات، الأشعار الحزينة التي يردّدها أهلي في الجنوب، في القرية. تلك البكائيّات كانت تشجيني وأصغي إليها بصمت. حين أقع في مشكلة ما كنت أغني. هذا الغناء لا يعني أنّني كنت أطلق صوتي، بل أردّد في الداخل شيئاً ما) (6). وهذا الـ (ما) لا ينفصل عن داخل الشّاعر وإن غادره. فحتّى حواراته الشّعريّة تتّجه صوب الذّات في توحّد فريد قد يبدو حواراً ذاتياً ولكنّه ليس كذلك، لأنّه سبيل لالتصاق الشّاعر بنبع المكان الذي يشبه صدر الأمّ، ويختلف عنه في الآن ذاته، لأنّ في الطفولة الطبيعيّة يمتلك الطفل، وأوّل ما يمتلك صدر الأمّ ثمّ يتخلّى، في حين يختلف الأمر مع الطفولة الشّعريّة، كون الشّاعر لا يكبر فيظلّ متشبّثاً بطفولته حتّى الموت، وهو ما يمكن معاينته في قصيدة (أمّي) (7).

      هو القلب أم حفنة من دخان القرى؟

         قال لي صاحبي:

                         نشأنا معاً

                         وضحكنا معاً

                         وشربنا معاً وحلَ أقدامنا

        فهل أنتَ مثلي، غداً، ميت في المدينة؟

             قلت هذا اتجاهي

         من النهر حتّى احتراقاته في الخليج

                                           جنوباً

                                           جنوباً

                                           جنوباً

         وكلّ الجهات التي حدّدتني

                                   غدت واحدة.

         قال لي:

                 أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟

  قلت أمّي نهتني عن الموت إلا على صدرها

         قال:خذ رقم قبري...

                              وغابْ

         ولمّا التقينا

                   بكينا معاً فوق صدر التراب

إنّ هذا التوحّد الخلاّب ليس توحّداً بين الأنا والآخر، أو الذّات والموضوع فحسب، بل هو توحّد في الحياة وما بعد الحياة، وتوحّد الأمكنة، وإن كان منطلق الشّاعر من مكان معيّن. لنرى الشّاعر ماذا يقول: (أنا أحبّ تلك الدّيار وسكناها، وأقبّل الهواء هناك وروح الهواء، أقبّل الرّياح، أقبّل الأشجار هناك، أقبّل الأزهار، أقبّل التّراب، وأبوس حتّى روث الأبقار في الجنوب. إنّه وطني. ليس الجنوب وحده. من جنوبه إلى أقصاه.. كلّه وطني. بالمناسبة، أنا لست منحازاً إلى بقعة ما. أعتقد أنّه لا جنوب بلا لبنان، وأعتقد أنّه لا عالم عربيّ بدون لبنان، وبدون الجنوب. كلّ جزء هو كلّ. ولكن أريد أن أعبر إلى الكلّ من الجزء. أيضاً أريد أن أعبر إلى التّاريخ من هذا الجـزء، فالجنوب ليس حاضراً فقط، بل هو التّاريخ يتحرّك في حاضر) (8). فيكون امتداداً إلى العالم وعبوراً إليه. ولكن (من السّابق لأوانه القول إنّ شعره ثمّرة حياته هذه، فحسب، بل هو ثمّرة معرفة حسيّة وإدراكيّة للعالم المتّصل، الداخليّ-الخارجيّ معاً، عالم الكمون والظّهور، معبّراً عنها في رموز تحتاج إلى قراءة، تقبل بدورها تموضع الرّموز في الواقع الذي ولدت منه)(9).

غرناطة:جغرافية الداخل

إذا كان العبور إلى الوطن العربيّ الكبير يتمّ عبر الجنوب، فإنّ العبور إلى الأندلس يتمّ عبر (غرناطة) التي شكّلت نسقاً مكانيّاً لافتاً في شعر محمد علي شمس الدّين. ولعلّ قصيدة (البحث عن غرناطة)(10) تمثّل محور هذا النّسق، وهي قصيدة لا تخلو من الممارسة التجريبيّة التي مهرت شعر الكثير من شعراء الحداثة العربيّة الذين سعوا للانفلات من طوق القصيدة العموديّة وسلطتها النّافذة في الوجدان العربيّ، وبخاصّة أولئك الذين يتمتّعون بالأذن التقليديّة التي لا تنصت لغير صوت الخطابة. في هذه القصيدة، إذن، الشّيء الواضح من هذا الخروج، لذلك فإنّ قراءتها تتطلّب وعياً خاصاً لاقتناص دلالاتها الملتبسة التي يمكن الاهتداء من خلالها إلى ملامح الشّاعر. وقد أشار المستعرب الإسبانيّ بيدرو مارتينـــــــث مونتابيث Pedro Martinez Montavez إلى هذه الخصيصة بقوله: (منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها "البحث عن غرناطة" لمحمد علي شمس الدّين، شعرت بارتعاش غريب، أو بوخز، وأحسست أكيداً، أنّي اكتشفت شاعراً أصيلاً. في هذا الشّاعر شيء من المجازفة، مكثّف وصعب، لاسيما أنّه عرضة لكلّ الأشراك)(11) ويحدّد الباحث قيمة هذه القصيدة في الشّعر العربيّ حين يضيف (وشعرت أيضاً بأنّ القصيدة تحمل حساسيّات ورياحاً جديدة، إلى الشّعر العربيّ، رغم أنّها بطبيعة الحال، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركات ونزعات وأسماء سابقة، حتّى أنّنا لا نستطيع أن نفصلها عنها) (12).

سأحاول تلمّس الخصائص الدّلالية في هذه القصيدة، والتي تضعها في إطار النّسق المكانيّ الشّعريّ، لكنّني قبل الخوض في هذا الموضوع أودّ لفت الانتباه إلى القضيّة الأساسيّة التي أشرت إليها وهي هيمنة الذّات الشّاعرة التي سمّيتها بالداخل. وهذا الداخل يحتلّ في شعر شمس الدّين المحور الذي يرتكز عليه الوعي بالمكان. وفي هذه القصيدة ما يعضّد هذا الرّأي لغوياً بالقدر الذي لا ينفكّ عن الحضور الدّلالي؛ وأقصد هاته الملفوظات: }بذاكرتي-توصلني-فيفجؤني-لغتي-أعلم-أنّني-لي-مازلت أقرأ-أقذف- أعيدها-تدور بي-وأسقط-قدمي-أرصفها-أبيدها-أبيد-أقول-أضمحل-وبكيت{ ناهيك عمّا تكرّر من هذه الملفوظات الدّالّة على الذّات الكاتبة التي إذا أعدت تأمّلها ثانية أجد أنَّ مقولة القراءة السايكولوجيّة تصحّ في هذا المقام، وأنَّ اللاوعي يتغذّى من الوعي ولا يتكوّن الدّاخل إلا بفعل الخارج.  

على هذا الأساس أعود إلى قراءة البعد المكانيّ في هذا النّصّ الذي لا يغادر دواخل الذّات الشّاعرة كثيراً، إن لم يكن منصهراً في بوتقتها وهو الأمر الأرجح، إذ يبدأ "البحث عن غرناطة" في ذاكرة الشّاعر العائمة على وفي الماء الذي تتعدّد دلالاته:

       سعف النّخيل يرنّ في أجراسه "بَرَدى" 

       ويشربه الخليج يدقّ نافذة بذاكرتي

       ويفتح ثغرة في الرّأس توصلني

         فيفجؤني النّعاس

إنّ البحث عن غرناطة المكان هو البحث عن الزّمن المفقود؛ عنصران هامان في بناء القصيدة، وتتضاعف أهميّتهما عبر التّجاذب الخلاّق الذي تقوم به عناصر القصيدة الأخرى التي يبدو فيها الماء وكأنّه، حقّاً، التّحوّل الأوّل للنار كما يرى هيراقليدس. وعليه يكون (أحد العناصر الأساسيّة المؤلّفة للقصيدة، هو بالضبط: الحسّ، الأرق، والنفس الأنثويّ الواصل عبر قنوات مختلفة الإيحاء والتّذكّر وتجاذب الوجود)(13) الذي تغوص فيه كلّ التفاصيل:

     لغتي مدمّرة وأعلم أنّني لا ملك لي

هكذا يكون التّجاذب واقعاً بين ما تحمله الذّاكرة وما يجود به الواقع، فيكون الشّاعر موزّعاً، لا شعوريّاً، بين عالـمين، فيدركه الخوف من الزّمن، وهذا  في الرّؤية السّايكولوجيّة يعني (خوف لحظة، يبكي فيها الشّاعر على ما سبقها ويخاف من لاحقها خوفاً مزيجاً من الحبّ والرّجاء، من التّشاؤم والتّفاؤل، لأنّه مدرك في القراءة أنّه مقبل على غول عنيد) (14).

على الرّغم من المخاوف الحقيقيّة والمشروعة للشّاعر فإنّه يفاجئنا بإعلانه نفي البكاء، ولعلّ السبب يكمن في أبعاد نفسيّة أخرى ستتبين من خلال حركة النّصّ:

      وتدور بي قدماكِ، تسقط مثل برج

       الماء قبّة............... (لاأبكي)

إنّ إعلان الشّاعر رفض البكاء راجع لمآل نفسي لا أرغب بالنّظر إليه من خلال الرّؤية الفرويدية للقبّة، على الرّغم من وجود العناصر المصاحبة لهذه الرّؤية التّأويليّة كالماء مثلاً، لأنّني أفضّل التّأويل الذي ينسجم واعتقادي الدّينيّ على أنّ القبّة تمثّل في انحنائها الحنان الذي تجود به الأمّ على وليدها الذي يضاهيه انحناء السّماء على الأرض، وبين هذا الانحناء وذاك تقف المئذنة باسقة معانقة السّماء بشموخ وإباء، يضاهيها، هنا، برج الماء. وبين الصّيرورة والسّيرورة اللتين تتقاسمان بنية النّصّ وتسهمان في إنتاج دلالته يظلّ الشّاعر متشبّثاً بإسهاماته الذّاتية في هذا التّكوين الذي تتألّق فيه السّمات المكانيّة:

      وأسقط حين تبتدئين، فابتدئي

       من خلف نافذتين للغرباء، مثقلةً

       بماء النّطفة الأولى

       مكثفة بسحر زمانك المفقود

       في غرناطة الجسد

يبدو للوهلة الأولى أنّ الشّاعر يخاطب غير غرناطة، لكن في الحقيقة أنّ الخطاب موجّه إلى روح غرناطة المفقود، لأنّ الرّوح هنا تعني التّاريخ، الإنسان، الحضارة، وتعني فوق كلّ هذا التّكوين، حيث النّطفة الأولى، إذ كلّ شيء يعيش لحظة الدّمار التي تعلنها اللّغة على لسان الشّاعر الذي ليس أمامه سوى غرناطة الجسد، بيد أنّ عودة الرّوح إلى الجسد، ليتحقّق الانبعاث، تظلُّ مشروطة بالتّضحيات:

       وأبيد ذاكرتي وذاكرة النّخيل

       أقول إنّي آخر الموتى

       ووجهك أوّلُ

تظلّ قراءة الشّاعر للمكان الشّعريّ مشروطة بالرّؤية الزمانيّة (وحين يحاول الشّاعر أن يتعامل مع الزّمن، نجده يتعامل معه بإحساسين، إحساس ذاتيّ محضّ حيث يصير الزّمن جزءاً من الذّات وصورة في الدّاخل فيدركه إدراكاً بايولوجيّاً صرفاً، وإحساس واقعيّ حيث يصير الزّمن جزءاً في الأشياء وواحداً من الظّواهر فيدركه إدراكاً بعديّاً وتصير هناك مسافة بين الشّاعر والزّمن ذاته) (15). لذلك تأتي التّضحية من داخل الشّاعر ليكون آخر الموتى حتّى يدفع كلّ ما لديه ويكون وجه غرناطة أوّل الأحياء، وبذلك يتغلّب الشّاعر على خوفه لأنّه يعلم أنّ الحياة تتحقّق في مكان ما، فما بالك إذا كان المكان غرناطة التي تشكّل مركزاً للدلالات الزمانيّة والمكانيّة في الآن ذاته، ويتحقّق فيها التّفاعل بين الذّاتيّ والموضوعيّ، فيندمج الخارج والدّاخل ويغدو الكلّ واحداً، على الرّغم من أنّ النّاتج مطالب بالمغايرة، فعلى القصيدة أن لا تكون محاكاة مطلقة للواقع، لأنّ المسألة، كما يقول شمس الدّين نفسه (تتطلّب أكثر من مضاهاة. إنّها تتطلّب من القصيدة التّفوّق على الواقع) (16). فالتّجارب الكونيّة أثبتت هذا. من هنا يقول الشّاعر (من كلّ الحرب الأهليّة الإسبانيّة التي سقط فيها آلاف القتلى ودمّرت بلاد، لم يبق لنا سوى (الغرنيكا) لبيكاسو.. ولم يبق من الحرب العالميّة الأولى سوى الأثر الطويل والبعيد المتفاعل الذي أنتج الدّادائيّة والسّرياليّة..)(17).

إنّ إحساس الشّاعر بالفرق بين الواقع والمتخيّل دفعه لأن يدوّن هذا الإحساس في أحد نصوصه الذي يحمل عنواناً دالاً، ونعني به (لا أثر لكوكب على حافّة المشهد الأندلسيّ) (18)، إذ ينطوي العنوان على تجليّات زمانيّة لا يمكن معاينتها إلا من خلال ذاكرة المكان الممهورة بالفجيعة:

(بَعُدْنا كثيراً عن غرناطة. لم يَعُدِ النّهرُ يجري في الوادي الكبير، أصبح مِكبَّ نفاياتٍ إسبانيّة. وآخر ملوك بني الأحمر مُضحك. يهرول هنا وهناك ولا يعرف ماذا يفعل، وأمّه لا تحبّه، والصّغار يشيرون إليه بأصابعهم ويضحكون منه.)

أقرأ في هذه الفقرة مزيجاً من المعاناة والهمس الشّعريّ، على الرّغم من أنّ هذا النّصّ من الممكن تصنيفه إجناسيّاً خارج إطار الممارسة الشّعريّة مع أنّه لا يعدمها في بعض المواقع التي يسودها التّلميح بدل التّصريح وإن كان الأخير مهيمناً. ولعلّ المعاناة تكمن في الابتـعاد عن المكـان (غرناطة)، لاسيـما أنّ غرناطة بالنّسـبة لشمس الدّين تعني الكثير. فهو الذي حدّد موقعها حين سألته عن طبيعة الألفة التي تنشأ بين الشّاعر والمكان، فأجاب: (في قصائدي مكان وأمكنة. هناك أسماء أمكنة ولكنّها مضلّلة، أي أنّها لا تحيل إلى الجغرافية أو التّاريخ، بمقدار ما تحيل إلى جغرافية الداخل. وفي  قصيدة (لا أثر لكوكب على حافّة المشهد الأندلسيّ) من كتابي (حلقات العزلة) ألخّص هذه المسألة حيث أقول:

 موشّحات بلا أندلس

 أندلس بلا موشّحات

فالأماكن تزلق على أرصفة النّصوص. المدن تتدمّر وتتعمّر وتختلط التّواريخ. فغرناطة ليست بعيدة، بل هي قريبة. وهنا في القلب. إنّما صورتها ليست من التّاريخ(19).

لا يترك هذا التّعليق مجالاً للشكّ بأنّ ما يقوله الشّاعر لا يخرج عن إطار النّقد الشّعريّ، مثلما تشير كثير من قصائده إلى الشّعر النّقديّ، لذلك أقول: إنّ هذا التّعليق هو ميتانصّية، من خلالها أقرأ التّفاعل النّصّي الذي يقوم على النّقد. أي أنّ الميتانص، هنا، هو نقد للنصّ الذي أعاين من قراءته الكلية الآتي:

1- لاتتجاوز الصّورة المشهديّة دواخل الذّات، سواء أكانت ذات قارئة أم كاتبة، حيث لا أثر لأركان التّشبيه المتعارف عليها في الدّرس البلاغيّ والنّقديّ التقليديّ. وعليه فالصّورة التي أمامي هي خفاء واستبطان وتملّك للأشياء المتحدّث عنها، لأنّ الصّورة في هاته الحالة مثلما يرى أدونيس تتيح لنا امتلاك الأشياء، أو هي الأشياء ذاتها، وليست لمحة أو إشارة تعبر فوقها أو عليها. إنّها الومض الذي يضيء الدّاخل إذا لم تكن هي الدّاخل ذاته (20).

2- إنّ انفصال الرّوح عن الجسد يعني الموت، لذلك ظلّت الموشّحات يتيمة خارج المكان الذي ولدت فيه، والشّيء نفسه بالنّسبة للمكان الذي يفتقد أعزّ ما يميّزه، وهذا مآل انفصال الرّوح عن الجسد، فيصير الدّاخل خواء.

3- المعادل الموضـوعيّ لما تقدّم يتمثّل في اسـتلاب غرناطة من يد أبي عبدالله، واستلاب الشّاعر الإسبانيّ القتيل فيديريكو غارثيا لوركاFederico Garcia Lorca  من يد غرناطة، والدّليل (الوادي الكبير) الذي خلّده الشّاعر المغدور بأروع القصائد، إضافة إلى الانتصارات التي حقّقها المسلمون في المكان عينه. من هنا نقبض على جمر المكان الأندلسيّ الحافل بكلّ موضوعات الشّعر التي لا تبرح الدّاخل، وإن تراءت وكأنّها من التّاريخ، لكنّها في لحظة تجلّ لما يعتلج في الأعماق، محقّقة جغرافيّة الدّاخل التي لا يمكن النّظر إليها خارج الرّؤية السّايكولوجيّة.

الأندلس: كربلائية المشهد

فإنّ التّفاعل النّصّي الذي تحقّقه الخلفيّة الأندلسيّة وفق استراتيجيّة النّسق المكانيّ في شعر محمد علي شمس الدّين يبلغ ذروته عبر المناصّة التي ينطوي عليها العنوان المثير (إسبانيا: أندلسنا- كربلاؤنا)(21) في الكتاب نفسه (حلقات العزلة)، إذ تعمل هذه العناصر الثّلاثة المكوّنة للعنوان على تحديد العلاقة بين العناصر النّصّية التي أقرؤها في الآتي:

1- يقدّم محمد علي شمس الدّين، في الفقرة الأولى، الكاتب والرّوائي الإسبانيّ خوان غواتي سولوJuan Guati Solo من خلال القراءة اللامحة لروايته (المقبرة) المتضمّنة، بإشارة الشّاعر، مقارنة بين الإنسان الغربيّ والإنسان الشّرقيّ، عبر موضوع الموت الذي يخسر فيه الأوّل نصف الحياة، في حين يربح الثّاني الحياة مضاعفة، وهي الرّؤية التي يلخّصها في الفقرة الثّانية في المقبرة/العدم، والمقبرة/ الحياة.

2- ويتعمّق محمد علي شمس الدّين في تقديم مقروئه في الفقرة الثّالثة عبر تضاريس المكان البرشلونيّ، ومحطّات السّفر بين المغرب وإسبانيا وفرنسا والشّرق وأمريكا اللاتينيّة، ثمّ يتوغّل أكثر حين يقول: (هو صوت إسبانيّ آخر يضاف إلى كوكبة الإسبان المعاصرين المشغوفين بفتنة العرب).

3- يطفو على سطح المقارنة تميّز الإبداع الإسبانيّ على مثيله الغربيّ: (فالفنون الغربيّة عامّة، مدموغة بدمغة عصرها الآليّ، تخترق أحشاءها خيوط باردة من ثلج ومعدن... في حين أنّ الفنون في إسبانيا مشتعلة بوجودها وهي ذات نشيج وغنائيّة تشدّها إلى العرب بخيط من سحر الماضي).

قبل بلوغ الذّروة أتوقّف عند هذه النّقاط الثلاث لأتبيّن العشق المعرفيّ الذي تذوب فيه أشجان العرب والإسبان معاً في صعود متنامٍ لا يظهر فيه تفوّق أحدهما على الآخر، وإنّما هو التّفاعل الذي به يسبقان الغرب في مركبة الإبداع، وهو ما يأخذ المتابع إلى مبتغاه في فورة الدّم التي نتلمّسها في:

4- حينما يضيف شمس الدّين قائلاً: (إنّ شتاء ما، من دم ورماد يلفّ الألوان على قماشة الرّسّام الإسباني، والفرشاة مغموسة مباشرة في جرح الشّجرة والثّور... والماتادور... هولي...هولي... الله حي... وكمثل أغاني لوركا العميقة- لوركا ذي القبر الضّائع والنّجوم الدّامية على الصّدر- يأتي غناء انطونيو ماتشادو الذي هو من غسق، وتتدافع من الجنوب الإسبانيّ أحزان جماعية، كأنّها النّدب الكربلائيّ في جنوبيِّ لبنان).

إنَّ قراءة سريعة للنقطة الرّابعة تضع المتأمّل في قلب التّقاليد الإسبانية وحضارتها الحافلة بالموت، التي تحفّز فناني إسبانيا على توأمة الموت والحياة. بيد أنّ موت غارثيا لوركا جعل الدّهشة تهزّ الأعماق وتظلّ الرّوح حبيسة حسرتها، فتذرف العيون دماً على أنغام ماشادو في رثائه المرّ للوتر الرّاجف المكسور لوركا، في قصيدة يقول عنوانها (الجريمة حدثت في غرناطة)(22) أقرأ منها:

       وهو طلسم صامت ساذج،

       كانت نظرته جدّ عميقة،

       تكاد لا ترى.

          ...

       كان ينشد في أشعاره العميقة

       غرائب الحياة وروائعها.

       يتغنّى بالحبّ واللّذة،

                          بيد أنّ سرّ أشعاره هذه

                          ظلّ كامناً في صدره

يا للغرابة، يبدو أنّ كلّ شيء لا يحدّده سوى جغرافيّة الدّاخل، لأنّ الداخل مكمن الأسرار ونتاج تفاعل مع الخارج الذي لا يكفّ عن التّفاعل والتّأثير في دواخل أخرى، وكأنّ خارطة العالم لها الممرّات ذاتها التي تقود أحزان الجنوب الإسبانيّ لتلتقي أعراس الجنوب اللبنانيّ في مشهد الحزن الكربلائيّ، حيث (إسبانيا: أندلسنا وكربلاؤنا) مثلما يقول محمد علي شمس الدّين الذي تبرهن كتاباته على أنّ الأماكن، فعلاً، تزلق على أرصفة النّصوص التي يكتبها بدم الجرح اللوركيّ وبدم شهداء الجنوب اللبنانيّ في قصيدة لا تضمّها أعماله الكاملة وهي تجسّد (تحوّلات الغابة الأندلسيّة) (23) في اثني عشر مقطعاً تحتضن (غرناطةُ) (لوركا) في المقطع الأوّل منها. ولكن على الرّغم ممّا تتضمّنه من موتيفات مكانيّة، أكتفي منها، الآن، بالعودة إلى الموضوع المطروح في (حلقات العزلة) لأبيّن فهم الشّاعر محمد علي شمس الدّين لعمق التّفاعل بين العربيّ والإسبانيّ بالنّظر إلى عبارته التي يقول فيها: (يكفي أن نبتهج بصداقة الوجدان معهم، بالتّعاطف الجوهريّ، لاشكّ في أنّ أندلساً عميقة ما زالت تعمل في تلك البلاد، وتحرس وجدانها.)

بهذا الابتهاج الوجدانيّ لصداقة عميقة محفورة على صخور جغرافيّة الدّاخل يُقرأ نسق المكان الشّعريّ وتضاريسه الموزّعة على جسد إسبانيا فتحتضنها روح الأندلس غرناطة المرتوية بفيض الوادي الكبير وبتراب الأرض المعفّرة بالدّم اللوركيّ النازل (جنوباً جنوباً جنوباً) ليتفاعل بالنّدب الكربلائيّ الذي تنكتب على صيحاته قصائد محمد علي شمس الدّين الذي يقول في واحدة منها (24):

    ...

  جسدي دافئ،

   والإصابةُ مزّقت الثّوب

   لكنّها لم تزل معلّقةً بين جلدي

                          وبين السّماء

  رئتيّ لم تزل في مهبّ الهواء

  وقليل من الدّمع يجري

  ولكنّني كنت ألغيتُ هذا المصبَّ إلى كربلاء                 

   ليس للحزن ما يحفر الدّمعُ

                  لكنّه فرحي

   إنّ سبعين ألفاً من النّجم تهوي

                        لتلمس هذا الدّم المستحيل

       فاجرحوني

                  أنا ذبيحتكم في الزّمان البخيل


* باحث وأستاذ جامعي عراقي يعيش الغربة المكانية والزمانية منذ أكثر من ستة عشر عاماً، وما يُكسر في وطنه يرن بداخله، فيهز روحه الرّاجفة بين جناحيه، والمحلّقة في الأفق البعيد.

[email protected]

1- انظر، محمد عبدالرضا شياع:دعوة للإبحار الوحشي والسّفر الجميل في مراكب الشّعر (حوار مع الشّاعر اللبناني محمد علي شمس الدّين)، الملحق الثقافي للميثاق الوطني، المغرب، الأحد7 الاثنين8 يوليوز1996،ص:4.

2- انظر، جهاد فاضل:أسئلة الشّعر: حوارات مع الشّعراء العرب، الدّار العربية للكتاب، طرابلس- تونس، بدون تاريخ، ص:249.

3- المرجع نفسه، ص:248.

4- ريكان إبراهيم:نقد الشّعر في المنظور النّفسي، دار الشّؤون الثّقافية العامة، بغداد، 1989، ص:128.

5- المرجع نفسه، ص:129.

6- جهاد فاضل:أسئلة الشّعر، م. س، ص:248.

7- محمد علي شمس الدّين: الأعمال الكاملة، ديوان الشّعر العربي المعاصر، دار سعاد الصّباح، القاهرة، 1993، ص-ص:141-146.

8- جهاد فاضل:أسئلة الشّعر، م. س، ص:250.

9- خليل أحمد خليل: التّمثل الرّمزي في شعر محمد علي شمس الدّين، مجلة دراسات عربية، العدد الرّابع عشر، السّنة الثّامنة عشرة، شباط 1982، ص:137.

10- محمد علي شمس الدّين:الأعمال الكاملة، م. س، ص-ص:29-31.

11- المصدر نفسه، مقدمة، صص:12-13.

12- المصدر نفسه، ص:13.

13- المصدر نفسه، ص:17.

14- ريكان إبراهيم:نقد الشّعر في المنظور النّفسي، م. س، ص:87.

15- المرجع نفسه،الصّفحة نفسها.

16- محمد عبدالرضا شياع: دعوة للإبحار الوحشي والسّفر الجميل في مراكب الشّعر (حوار مع الشّاعر اللبناني محمد علي شمس الدّين)، م. س، ص:4.

17- المصدر نفسه،الصّفحة نفسها.

18- محمد علي شمس الدّين:حلقات العزلة، دار الجديد، بيروت، 1993، ص:56، والتّشديد من عندي.

19- محمد عبدالرضا شياع:دعوة للإبحار الوحشي والسّفر الجميل في مراكب الشّعر (حوار مع الشّاعر اللبناني محمد علي شمس الدّين)، م. س، ص:5

20- أدونيس:زمن الشّعر، دار العودة، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1983، ص:154

21- محمد علي شمس الدّين:حلقات العزلة، م. س، صص:201-202

22- أنطونيو ماشادو:مختارات شعرية، اختيار وترجمة وتقديم محمود صبح، منشورات وزارة الثّقافة والفنون، الجمهورية العراقية، 1979، ص:11

23- محمد علي شمس الدّين: تحولات الغابة الأندلسية، جريدة الفينيق، ع:15، 10-10-1996، ص:8

24- محمد علي شمس الدّين:الأعمال الكاملة، م. س، صص:293-294، والتّشديد من عندي.

المصادر والمراجع:

1- أدونيس:زمن الشّعر، دار العودة، بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1983.

2- أنطونيو ماشادو:مختارات شعرية، اختيار وترجمة وتقديم محمود صبح، منشورات وزارة الثّقافة والفنون، الجمهورية العراقية، 1979.

3- جهاد فاضل:أسئلة الشعر- حوارات مع الشّعراء العرب، الدّار العربية للكتاب، طرابلس- تونس، بدون تاريخ.

4- خليل أحمد خليل:التّمثل الرّمزي في شعر محمد علي شمس الدّين، مجلة دراسات عربية، العدد الرّابع عشر، السّنة الثّامنة عشرة، شباط 1982.

5- ريكان إبراهيم:نقد الشّعر في المنظور النّفسي، دار الشّؤون الثّقافية العامة، بغداد، 1989.

6- محمد عبدالرضا شياع: دعوة للإبحار الوحشي والسّفر الجميل في مراكب الشّعر (حوار مع الشّاعر اللبناني محمد علي شمس الدّين)، الملحق الثّقافي للميثاق الوطني، المغرب، الأحد7 الاثنين8 يوليوز1996.

7- محمد علي شمس الدّين:الأعمال الكاملة، ديوان الشّعر العربي المعاصر، دار سعاد الصّباح، القاهرة، 1993.

8- محمد علي شمس الدّين:تحولات الغابة الأندلسية، جريدة الفينيق، ع:15، 10-10-1996.

9- محمد علي شمس الدّين:حلقات العزلة، دار الجديد، بيروت، 1993.

الاولى

جريمة تدمير ضريحي الإمامين

الاساءة ملة واحدة

رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز

إطلالة على سامراء التاريخية

لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع)

قطاف الكلام

التنوير العراقي بين جدلية الدولة

الإصلاح المنقوص

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

التسامح الديني في الإسلام

لغة الارقام

غرانيق في سماء الاستشراق

حوار مع الاستاذ زكي الميلاد

حرب قصف العقول وكسب القلوب

إشكالية الديمقراطية

المجتمع المدني الكوكبي

واحة الحياة

الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية

واقعة كربلاء.. سفر الخلود

عاشوراء في الذاكرة

سيادة الحق والعدل الاجتماعي

علوم وتقنية

الوعي والثقافة القانونية

اثر السنة والشخصية

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

شعر اقباسك طاهرة

مذكرات من جنوب العراق

إذا قام الإسلام في العراق للإمام الشيرازي

اصدارات

متابعات

الاخيرة  

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا