مجلة النبأ - العدد 41 - شوال 1420 - كانون الثاني 2000

اكتب لنا

اعداد سابقة

الكتّاب

الموضوعات

العدد41

الصفحة الرئيسية

السيادة الوطنية..   تحديات الوصاية ومشروعية التدخلات

  [email protected]

علي عبد الرضا

نظرة متأنية على مفهوم السيادة قديما وحديثا، وعرض موجز لرأي الإسلام في مسألة التدخل والخطوات الحائلة دون حصول انتهاكات جديدة لحقوق الانسان.

الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت عدة قرارات ما بين الأعوام 1988 ـ 1991  بقصد اعتماد (نظام عالمي إنساني جديد يهدف إلى تقديم المساعدات للاقليات المضطهدة)، وقد تبع ذلك قرارات عدة لمجلس الأمن، منها قرار رقم 751، 770، 797، بإرسال قوات إلى بعض المناطق الساخنة لحفظ السلام والقيام بمهمات إنسانية.

ولكن الذي صدر فيما بعد من مجلس الأمن وتحديدا القرار رقم 1264 تاريخ 15/9/99 والذي سمح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بدخول إقليم (تيمور الشرقية) بهدف وقف انتهاكات حقوق الإنسان، لم يكن قراراً عاديا كغيره من القرارات السابقة التي لا يتعدى مفعولها ظلال مجلس الأمن أو مباني الجمعية العامة، وانما يعد اعظم القرارات خطراً حيث سيترتب عليه أثار عديدة لابد أن تترك بصماتها على العلاقات الدولية العامة.

فالقرار وإن جاء متأخرا بعض الشيء إلا أن الحقيقة تنبئ عن وجود خطة معدة سلفا من قبل بعض الأطراف حيكت منذ عقدين من الزمن تدعو لإيجاد غطاء قانوني (شرعي) يسمح لها بالتدخل في بعض الدول (انتقائيا) لحماية بعض الرعايا وجيوب الاقليات واقامة دويلات وكانتونات مواليه لها.

البعض يرى فيه (القرار) بادرة خير لرفع الحيف والظلم عن الشعوب المضطهدة، وان حمل معه نوايا سلبية ومصالح ذاتية، إلا انه يبقى الأمل الأنسب وربما الأخير للتخلص من ربقة الذل والعبودية لذا جاء القرار وهو يحمل معه آثــــارا مختلفة لردود الأفعال والمواقف المتباينة، فمنهم من قال انه ينال من السيادات القومية للدول وانتهاك للحرمات الخاصة، ومجال رحب لقوى العولمة لفعل ما يناسبها، ومنهم من يرى فيه نهاية للدكتاتوريات المطلقة وعبور لشاطئ الديمقراطية والحريات، وبعض آخر لا يرى فيه غير تهديد يحمل نسبة عالية من الردع لاجبار البعض على احترام الإنسان ومراعاة حقوقه المهضومة.

السيادة.. نظرة إلى الوراء

اختلفت آراء رجال القانون والحقوق في تحديد مفهوم السيادة فذهب بعضهم إلى أنها الملك، وقال آخر الشعب، وآخر البرلمان..

فارسطو يرى أنها (السلطة العليا) في الدولة، والمفكر الفرنسي جان بودان يفسرها بأنها السلطة العليا المعترف بها والمسيطرة على المواطنين والرعايا دون تقييد قانوني، ما عدا القيود التي تفرضها القوانين الطبيعية والشرائع السماوية.

أما المفكر الإنكليزي هوبز فيقول: بأن الإنسان مصلحي وذاتي التفكير ولا يحافظ على عهوده وعقوده ولا يطيع قوانين المجتمع إذا لم ينسجم ذلك مع مصالحه، ومن هنا فالصدام بين الفئات الاجتماعية ليس صدفة بل هو تهديد قائم الاحتمال باستمرار، وبالتالي فقد نشأت الحاجة إلى سلطة عليا تستطيع أن تفرض النظام والسلم الاجتماعي على مجموعات قد لا تتجه نحو العيش بسلام وانسجام مع بعضها البعض، وبالتالي فان سلطة الدولة وسيادتها ضرورية للبقاء، ولا يمكن نقض العقد الاجتماعي الأصيل الذي تضمن التنازل عن الحقوق الطبيعيـــــة لصالح الدولة، ولان الحاجة لمثل هذا التنازل ضرورة مستمرة لضمان السلم الاجتماعي والحياة الجيدة.

أما جون أوستن فقد انطلق من ضرورة وجود السيادة، وبالتالي وجود جهة معينة تمتلكها غير مجزأة وغير مقيدة قانونيا لأنها مخولة بتشريع القوانين.

وخلاصة هذا الرأي أن السلطة المطلقة قدمت للحاكم على طبق من ذهب ليكون محور السيادة والكيان العام، وكل تعدي على هذه السيادة تعدي على هيبة الحاكم وقدسيته، أما الشعب فلا يعدو كونه خادما ومطيعا للحاكم ولجميع قراراته وان خالفت المجموع العام.

ولا يستبعد أن يكون هذا الرأي، الأساس الذي ابتنيت عليه مواثيق منظمة الأمم المتحدة حيث نصت الفقرة السابعة من المادة الثانية على ما يلي (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرفوا مثل هذه المسائل لان تحل بحكم هذا الميثاق).

أما الرأي الآخر الذي يدعو إلى سيادة (الشعب) ويحّمل الحكام مسؤولية أي انتهاك للحقوق، ويسمح للشعب بمقاومة حكامه عند ظهور بوادر انحراف واضطهاد، فقام على أكتاف جان جاك روسو واضع اصطلاح (السيادة الشعبية) الذي يدعو إلى توزيع السيادة بين جميع أفراد الشعب، على أساس المساواة بدون تفريق أو استثناء، إلا ما يكون ناجما عن صغر السن أو فقدان الأهلية أو من جراء الأمراض العقلية أو الأحكام القضائية، بحيث تصبح السيادة في هذه الحالة، سيادة مجزأة بين العدد الأكبر، وبعبارة أخرى فان السيادة برأي روسو واتباعه، جمع أصوات المواطنين كافة، لاستخراج الأكثرية منها، وإعطاء الأرجحية، ويقدم روسو مثالا عن هذا النوع من السيادة فيقول: إننا إذا افترضنا أن شعب الدولة مؤلف من عشرة آلاف مواطن، فلا يكون في هذه الحالة لكل مواطن، سوى جزء واحد من عشرة آلاف جزء، التي تتألف منها السلطة السيدة، وهذا الاعتبار لا يعني بنظر روسو، أن السيادة مجزأة، إذ يقول: (بأنه لا يمكن النظر إلى السيد إلا بشكله الجماعي الجسمي، والسيد هنا هو الشعب). بل يرى أن الذين يتولون ممارسة سيادة هذا السيد ـ أي الشعب ـ إنما يتجزأون، في حق كل منهم بممارسة هذه السيادة. وعن هذا الراي انبثقت نظرية سيادة العمال والفلاحين (البروليتارية).  

أنان والمفهوم الجديد للسيادة

ما ذكرناه سلفا يشم بقوة من المشروع الذي طرحه كوفي انان على الجمعية العامة في دورتها 54 وملخص ذلك يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد، وليس حماية الذين ينتهكونها، ويوضح أن المطلوب الآن هو الوصول إلى إجماع ليس على إدانة انتهاكات حقوق الإنسان، باعتبار أنه متحقق نظريا، ولكنه إجماع على الوسائل التي تحدد أي الأعمال ضرورية، ومتى، ومن يقوم بها؟

وبهذا الطريق يكون انان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعــــمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.

وعلى ضوء ما تقدم يكون انان قد أعطى مفهوما جديداً للسيادة وهو (الحفاظ على حقوق الأفراد في السيطرة على مصيرهم)، أما الدولة فمهمتها فقط وفقط (حراسة حقوق الأفراد)، وبهذا التعريف انسحب البساط عن الحكم والحكومة ونزعت منها كافة القيم المرجعية والأخلاقية، أعطيت للفرد.

وقبل انان بعقدين من الزمن تقريبا قام (ميرفن فروست) أحد أهم منظري موضوعة القيم في العلاقات الدولية بتأسيس مبدأ جديد للتدخل الإنساني يقوم على فكرة التفريق بين الحقوق (المدنية) و (المواطنية) وحدد لذلك معايير وقيما ثابتة، على ضوءها تتحدد مهمة التدخل أو عدم التدخل فيقول (الفرد هو مواطن في المجتمع السيادي القومي، وهو مدني في المجتمع المعولم، له حزمتا حقوق: واحدة منسوبة إلى صفته كمواطن تابع قانونيا لدولة، وأخرى منسوبة لصفته كمدني معولم غير معروف بهويته القومية. حزمة حقوقه كمواطن تتضمن امتيازاته القانونية التي ينص عليها دستور الدولة التابع لها، ومن ضمن ذلك حقه في المساواة مع سائر المواطنين، وحقه في التصويت والانتخاب، وحقه في الوصول إلى المعلومات، وهذه الحقوق جميعاً تقع في دائرة التسيّس والسياسة، أما حزمة حقوقه كمدني فتتضمن ما يعرف بـ(الجيل الأول) من حقوق الإنسان، ومن ذلك حقه في العيش وعدم التعرض للقتل أو الإبادة، وحقه في الحرية، وحقه في أن لا يتعرض للتمييز بسبب لونه أو عرقه أو دينه، وهذه الحقوق يجب أن لا تقع في دائرة التسيّس بل هي غير مسيّسة إن لم تكن فوق السياسة أصلا. وان مسؤولية المجتمع المدني المعولم تكمن في الحفاظ على حزمة الحقوق المدنية وضمان عدم انتهاكها في أي مكان في العالم. وان انتهاك هذه الحقوق هو بوصلة التدخل الإنساني ومعياره. أما انتهاك حزمة حقوق الفرد كمواطن فلا تستوجب تدخلا إنسانيا خارجياً، أي أن التدخل مسموح به، بل هو واجب، إذا تعرض أفراد أية دولة إلى إبادة عنصرية أو دينية أو حملات تمييز عنصري واسعة. أما إذا حرموا من حق التصويت أو الانتخاب، أو تعرضوا لنظام استبداد سياسي فان ذلك لا يبرر تماما التدخل الإنساني، لان ذلك يدخل في نطاق سيادة الدولة على مواطنيها).

سيادات.. ولكن ناقصة

لا يمكن الإنكار بأن السيادة الكاملة والمحترمة التي تتحصن خلفها بعض الدول لا تتمتع بها الغالبية العظمى المنضوية تحت منظمة الأمم المتحدة، وكل عبارات انتهاك السيادة، والتعدي على حرمة الحدود القومية ما هي الا كلمة حق يراد بها باطل للتغطية على الجرائم المستمرة لحقوق الإنسان.

فهناك حالات يتمتع بها الكيان السياسي لبعض الدول بسيادة خارجية دون سيادة داخلية كما هو الحال بالنسبة لعدم تبعية مباني السفارات لسياسة الدولة المضيفة، وفي حالات أخرى تتمتع بعض المحميات بالسيادة الداخلية دون السيادة الخارجية، وهناك حالات يكون فيها الاستقلال مفقوداً كلياً أو جزئياً كالدول المستعمرة أو تلك التي تعتمد على المساعدات الاقتصادية الخارجية أو على الحماية العسكرية أو ما شابه من أوجه.

وهناك كيانات سياداتها ناقصة نتيجة لموافقتها على القوانين الدولية والمعاهدات العالمية حيث نظمت لبعضها قيوداً صارمة ورقابة دقيقة تحاسب كل من يخالف أو يخل بتعهداته أمثال تلك التي وقعت للمحافظة على البيئة أو الحد من الزيادات السكانية، فالحرية المطلقة التي عهدناها عند بعض الدول في ممارسة كل شيء بدون وازع أو رادع باتت مفقودة، وما كان مباحاً بالأمس، اصبح اغلبه محرماً اليوم، فهناك لجان وهيئات تعمل ليل نهار لمراقبة ومحاسبة كل من يتطاول على الحقوق المدنية والقضايا الإنسانية، وكل ذلك يحسب على السيادة شئنا أم أبينا.

وما دام العالم يشكل (قرية كونية واحدة) فان خريطة الحدود القومية باتت عديمة الفائدة ومخترقة من جميع اتجاهاتها وكذلك ما تقوم به وسائل الإعلام المرئية من تعدي سافر على الثقافات والتقاليد والأعراف القومية يكشف عمق التحدي الذي ستواجهه الدول الصغيرة.

أما الذي يدور خلف كواليس المؤتمرات الدولية لإزالة الموانع والحواجز أمام تبادل البضائع وإيجاد نظام تجاري عالمي تتحكم فيه الشركات المتعددة الجنسيات وصناديق النقد الدولي والبنك الدولي لهو الآخر انتهاك ومقدمة مفضوحة لرفع ما تبقى من شبح السيادة، إن كان هناك حقا أثر لسيادة!

بين الوطني والمستعمر

أثيرت أخيرا وفي اكثر من منتدى سياسي وفكري مسألة إرجاع مبدأ (الوصاية) على بعض الدول لحماية شعوبها من اضطهاد حكامها، أو تخليصها من أتون الحروب الأهلية والصراعات العرقية، وقد ذهب البعض إلى الدعوة لعودة الاستعمار على ما يحمل من سلبيات، لانه يبقى اقل شراً مما يحصل في بعض هذه الدول من انتهاك مستمر للحقوق المدنية والسياسة، ولعل ما يحدث في الصومال وأفغانستان ورواندا خيرا ما يسند الفكرة ويؤيدها، فالضحايا في صراع الأطراف الداخلية في أفغانستان فاق أرقام سنوات الغزو السوفياتي لهذه الدولة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الشعوب لم تع بعد مفهوم الحرية ولا قيمة الاستقلال ولا بد له من (وصي) يدير شؤونها ويسيّر أعمالها وان كان هذا القيّم لا يحمل جنسية هذا البلد.

وباسم (السيادة الوطنية) التي يحتمي خلف ستارها عالم غريب الأطوار ارتكبت جرائم بشعة، ففي العالم الثالث تحولت معظم دول حركة التحرر الوطني نحو الاستبداد السياسي والديكتاتورية العسكرية، والأحادية الحزبية، وقمعت قوى المعارضة قمعاً عنيفا، ومورست أشكال متطرفة من الاستهتار بحقوق الإنسان، من اضطهاد الاقليات الدينية والاثنية ومن التصفية العرقية التي آخذت في بعض الحالات شكل إبادة حقيقية للجنس البشري، ألـــيس من حق أصحاب هذا الرأي أن يترحموا على المستعمر القديم وأيام الانتداب؟!

أما الذي ذهب إلى عكس هذا الاتجاه فهو وان سلّم بما طرح من أرقام ومعلومات إلا أن حسه القومي وشعوره الوطني يمنعه من التسليم بسهولة لاصحاب استجداء (الوصي) و (المستعمر) فهولاء يفضلون ابن البلد وان كان مستبداً طاغياً.

وإبطال هذه الآراء لا يحتاج إلى جهد أو عناية خاصة، لان المعايير والأسس التي قامت عليها آراء الطرفين واهية وعقيمة، في حين كان المفروض منهم التركيز على محيط آخر غير ما هم فيه ليوجدوا خيارات أخرى مناسبة تعيد صياغة الأوضاع وترفع الظلم عن الشعوب وتمنحها الحرية المنشودة.

ومن أولويات تلك المعايير، إيجاد ثقافة التعددية التي تحافظ على حقوق كل الأطراف وتراعي مصالح مختلف الفصائل.. ومنها تشكيل المجالس البرلمانية والاستشارية الحرة واحترام كافة المؤسسات الدستورية والحقوقية التي تراقب وتحاسب المذنب والمقصر.. ومنها تزريق الأمة بثقافة واعية تستطيع خلالها معرفة مالها وما عليها من حقوق وواجبات.. ومنها بناء اقتصاد سليم وقوي يحول دون وقوف الدولة على اعتبار البنوك الدولية لطلب القروض المشروطة أو استجداء المعونات الغذائية من قوى اقتصادية لا تعطي بدون مقابل.

والمقام قد يطول أن أردنا درج كل المعايير التي تضفي على الدولة طابع الاحترام وتقدم لها درجة الامتياز في حفظ السيادة ورعاية حقوق الإنسان. غير إننا نقول للذين يحلمون بالعودة الظاهرية (للوصاية) أو (الاستعمار) إن الذي يجري علينا وما نحن فيه لا يخرج عن كونه أحد مخلفات الاستعمار القديم. أما الذين يرفعون شعار الوطنية والسيادة الإقليمية فنقول لهم إن العناصر الوطنية أو الأحزاب القومية والتحررية التي توالت على حكم الكيانات السياسية لم تعمل على تنمية بلادها واحترام حقوق أبناءها، كان همها رفع أرقام حساباتها في البنوك الخارجية، حتى أن بعضها كان منفذ لا غير لأوامر قادمة إليه من خارج الحدود.

مَن ينفذ ؟

الانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان على الرغم من وجود مشروع ملموس نوعا ما لإيقافها، إلا أنها ما زالت مستمرة بكل تداعياتها المأساوية ولا من مغيث يكبح جماحها، وان وجد فانه يخضع لحسابات الربح والخسارة ومعادلات العداوة والموالاة، فالكثير من عمليات التدخل الإنساني واسبابها تحركها مصالح الدول الكبرى في هذه البقعة أو تلك وبعضها جاءت لحمايــــة بعض الكانتونات الموالية وجيوب الاقليات المحسوبة، فلا وجود لمعايير إنسانية بقدر ما هو عمل (انتقائي) يحفظ امتيازات القوى العالمية.

تقول أحد مواد ميثاق الأمم المتحدة (يجب أن لا تستعمل القوات المسلحة إلا لحماية المصالح المشتركة)، والمصالح المشتركة على رأي ميرفن فروست والتي حددها في كتابه الآنف الذكر بأنها (الحقوق المدنية) المشتركة بين بني البشر بدون النظر إلى تمايز الألوان وتباعد الأوطان.

وانتهاك الحقوق المدنية للأفراد يوجب على العالم التدخل لحمايتها، ولكن السؤال هنا من يقوم بهذا الواجب، ومن الذي يناط به تنفيذ واجبات المجتمع المعولم والدفاع عن مدنيته؟

إذا قلنا أن الأمم المتحدة ووفق حقها باعتبار أن سيادة الدولة تخضع لقواعد القانون الدولي والمعاهدات العالمية هي المخولة بإصدار مثل هذه القرارات، يأتي السؤال هنا وهو الادق والأصعب في جميع مراحل الإجراءات النظرية والعملية، هل تملك هذه المنظمة وسائل الضغط أو مادتها لكي تمارس دورها الحقيقي والمهام الموكلة بها؟ أم أن المهمة توكل أو تفوض إلى دولة أو دول عدة تملك وسائل الضغط الفاعلة؟ أو تناط إلى منظمات غير حكومية لا تملك غير إصدار البيانات ووسائل التنديد؟

لا خيار أمام منظمة الأمم إلا تحويل المهمة إلى قوى العولمة ومن بيدها سلطة الفعل!

وكما بينا سلفا نكون مخطئين أن حصدنا خيراً من دول لا تعرف من الإنسانية إلا لفظها، وان هي أجهدت نفسها بشيء فلا يتعدى غير ملء جيوبها من ثروات الآخرين. 

بعض سلبيات التدخل

لا شك بأن عمليات التدخل لتقديم المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين لا تخلو من إيجابيات أن سارت ضمن قواعد وضوابط متفق عليها ـ وهذا ما سنعالجه لاحقا ـ غير أن مسألة التدخل في ظل الوضع الحالي للسياسات الدولية يثقل كفة السلبيات وربما يدفعها نحو التطرف والرجوع إلى من دعى إليها وبشر بها، وذلك لعدة أمور أهمها:

1 ـ إذا كانت السيادة لم تعد خاصة بالدول الإقليمية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة: فكيف سيكون تعامل الأمم المتحدة مع الدول؟ وكيف ستنظر إلى رموزها؟

وإذا اعتبرنا السيادة الالتزام والتقيد باحترام حقوق الأفراد، ودعوة كل فرد للسيطرة على مصيره، فمن ينوب عن الأفراد؟ وإذا قلنا بإناطة المهمة إلى فرد أو جهة بعد تحصيل توكيل مسبق من المجموع، فهل يعقل أن يتفق المجموع على طرف دون وجود معارض؟ ماذا نعمل مع المعارض، نتدخل لحمايته!! أم ماذا؟!

2 ـ كيف ننظر إلى المعارضة الإيجابية الهادفة والمصلِحة، هل نشكل لها حكومة خاصة بها؟ وكيف ننظر إلى التجمعات والأحزاب الواقعية ذات الاتجاهات والآراء المتباينة، هل نساعد الحمائم على حساب الصقور، أو العكس، أم نفرق بينهما إلى أن تصل الحالة إلى تفريق أفراد الأسرة الواحدة لوجود تذمر عند أحد أفرادها؟!

3 ـ سياسات قوى العولمة تعمل جاهدة على محو الخرائط الـــجغرافية للدول الإقليمية، وعمليات التدخل تقف حائلا دون الإسراع بعمليات العولمة حيث يخلق التدخل حالات شاذة من التجزئة والكيانات الصغيرة، مما يجعل مهمة الأمم المتحدة شاقه وعسيرة فهي تتسع يوميا لعشرات الدول المستقلة حديثاً، وعلى هذا المنوال سيتحول العالم إلى دويلات صغير يصعب السيطرة عليها أو إدارتها، فهل ستحكم الأمم المتحدة على نفسها بالإعدام وهي لا تعلم؟ أم هناك غايات أخرى في نفس البعض أراد تحقيقها ولو على حساب المنظمة الدولية؟

4 ـ الطابع الغالب على دول العالم أنها قائمة على تعدد ديني وقومي وطائفي، وإذا أريد لهذا التعدد والتنوع الاستقرار والتماسك، يلزم إيجاد صيغ مقبولة من مختلف الأطراف ويرضاها الجميع، وقد تكون قاعدة (الرضاء الناقص) الأرضية الصلبة التي تحفظ حقوق الصالح العام. وإلا لو أرادت كل مجموعة الحصول على حقوقها كاملة فسيؤول التجمع إلى فرقة والوحدة إلى شقاق، وتحقيق الرغبات أما أن يكون على حساب الآخرين فتقع الإثارة، أو لا يكون فيحرك رغبات البقية للمطالبة والحصول على اكبر قدر من المكاسب، ويكفي أن نعرف أنه ما من تركيبة داخلية اثنيه إلا وهي قابلة للتصدع والانفجار في ظروف محدده أو مهيئة لتحريض من قوى داخلية أو خارجية معينة، خصوصاً إذا كانت بعض الفئات تحمل في داخلها عناصر التذمر وعدم الرضا والمظلومية أو تغذيها من الخارج وعود دعم وإسناد مادي ومعنوي.

ولا نستبعد أن نسمع قريباً عن إنشاء كانتونات محمية للاقليات المسيحية في قلب كل دولة إسلامية، استكمالا لمخطط اختراق العالم الإسلامي والسيطرة عليه عبر هذه الجيوب المحمية.

5 ـ نكاد نجزم بأن قانون الغاب سيحكم العلاقات الدولية إن بقيت بعض الدول على سياساتها القديمة تكيل بمكيالين وتنتقي ما يناسبها، فالمنظمة الدولية لم توجد بعد ولن توجد ضابطا معياريا صارما، ولا حتى جهة عالمية متفق على حياديتها تقوم بالتقاط الحالات الداعية للتدخل الإنساني، وتصدر بحقها تفويضا يتمتع بإجماع عالمي يبرر القيام بذلك التدخل.

إن التركيبة الحالية للعلاقات الدولية خاضعة لسلطة واحدة مطلقة (القطب الأوحد) وإذا أريد الإفلات من عالم (أحادي القطب) فلا مفر إلا الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب أو ثنائي على الأقل، يمنع تفرد القطب الأوحد وهيمنته على العالم. وفي ظل الوضع الحالي وما يعيشه العالم من تنافس سلبي كبير فلا أمل يلوح في الأفق يشير إلى نهاية الاحتكار المطلق للساحة من قبل لاعب واحد، ولا وجود لملامح تشكيل تكتل عملاق منافس للقطب الأوحد، ولـــعل ما أصاب دول جنوب شرق آسيا أخيرا أو ما يحدث بين دول السوق الأوروبية المشتركة من خلافات يشير إلى ما أردنا قوله.

وعلى هذا سيكون استغلال هذا المفهوم أو المبدأ الجديد من قبل الكبار وتسخيره جيداً في عمليات الاحتلال المغلفة هي الصفة الغالبة على السنوات القادمة.

الطرح الأسلم

ربما يسأل البعض، هل توفق الأمم المتحدة وتجمع بين من يدعو لاعلاء مبادئ حقوق الإنسان وحماية حقوق أفراده المدنية، وبين من يطالب بالمحافظة على السيادات القومية للدول وعدم التدخل في الشؤون الخاصة لكل دولة؟

والجواب.. موجود في مواثيق الأمم المتحدة ولعله اسلم الحلول والطروح لإيجاد الصيغة التوافقية، فقد نصت المادة الثالثة من القانون الذي وضعه (سبرويولوس) سنة 1950 تحت رقم (488)، أن (تصرف الشخص باعتباره رئيساً للدولة أو حاكما لا يعفيه من المسؤولية عن ارتكاب أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في التقنين) والمادة الأولى من هذا القانون توضح (إن الجرائم ضد سلام وأمن البشر تعد جرائم دولية يجب معاقبة الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عنها).

وهذا القانون واضح صريح يدعو إلى محاكمة ومراقبة كل من يتجنى ويتطاول على حقوق الأفراد المدنية وسلامة وأمن البشرية، وهو لا يكلف الأمم المتحدة عناء التحضيرات المسبقة والمخصصات الباهضة لعمليات التدخل المباشر وغير المباشر، ولا يتطلب منها إلا إيجاد (محكمة دولية مستقلة) يحترمها الجميع، مسموعة الكلمة، نافذة الفعل، تحاسب كل من ينتهك حقوق الإنسان ولا تأخذها في ذلك لومة لائم.

وإذا قلنا بأن شريعة المجتمع الدولي إلزامية في العلاقات الدولية كذلك يلزم علينا أن نجعلها ملزمة أيضا في داخل الدول الإقليمية، فثمة قواعد دولية وقوانين إنسانية يجب أن تحترم، وثمة منظمات حقوقية ـ كمحكمة لاهاي مثلا ـ لابد أن تنصاع إلى قراراتها وتقبل أحكامها جميع الدول القومية.  

النظرة الإسلامية للتدخل

لا نغالي إذا قلنا بأن الدين الإسلامي هو الرائد في مضمار احترام الإنسان وحقوقه، فالإسلام لم يأت الا لرفع القيود والأغلال عن جميع البشر ­(يضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (لا إكراه في الدين) وهو الدين الوحيد الذي شرع مختلف القوانين لحفظ هذا الكيان الإنساني المحترم.. وهو الوحيد الذي صدع ودعا الآخرين للاحتذاء به في مجال حقوق الإنسان.. فالإنسان خلق مكرم (ولقد كرمنا بني آدم).. واصل ترتكز عليه مختلف القوانين والتشريعات، لهذا كانت العناية به استثنائية وفوق التصور، والإمام الصادق? يعتبر (المؤمن اعظم حرمة من الكعبة) الخصال، ص27. وذلك، يقول رسول الله? (لان الله حرّم منك ـ الكعبة ـ واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله ودمه وان يظن به ظن السوء). عيون أخبار الرضا ج2 ص33.

ربما يشكل بأن هذه منزلة المؤمن ومن حقكم أن تعظموه وتحترموه.. ولكن هل ينجر هذا إلى غير المسلم؟

يجيب الإمام الشيرازي دام ظله على هذا الإشكال فيقول: (إن الاطلاقات تشمل نهي المستكبر وكفّ يده ـ إن أمكن ـ عن المستضعف من غير فرق بين الأقسام الأربعة من كون كل من الطرفين: الظالم والمظلوم مسلمين، أو كافرين، أو مختلفين، فإذا ظلم المسلم أو الكفار مسلماً أو كافراً في نفسه أو في عرضه، أو في ماله، أو ظلمه بتقييد حرياته المشروعة وجب الدفاع عن المظلوم) الفقه القانون ص348.

والإسلام يذهب إلى ابعد من ذلك فيدعو المسلمين إلى القتال من اجل المستضعفين (ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين)النساء: 75، فإذا وجب القتال في سبيل إنقاذهم وجب ما دون القتال.

والنظرة الإنسانية التي يوليها الإسلام لغير المسلمين تظهر باجلى صورها في كلام أمير المؤمنين? عندما يقول متأثراً لما جرى من قتل ونهب وسلب لغير المسلمات، اثر هجوم جيش معاوية على مدينة الانبار (فلو أن امرءاً مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان به عندي جديرا).

(وعلى هذا فلو رأينا غير مسلم ـ ليس محارباً ـ يموت جوعاً و عطشاً أو لاجل نقص الدواء، أو النزف، أو مبتلى تحت وطأة ظالم أو سبع أو في حالة حرق أو غرق أو خسف أو ما أشبه، وجب إنقاذه والصرف عنه) الفقه القانون ص350.

ومما سبق نستخلص أن الإسلام يدعو إلى التدخل للدفاع عن المستضعفين والمضطهدين ولكن ضمن ضوابط ومعايير إنسانية صرفه لا تفرق بين شخص وآخر أو بين مكان ومكان، الكل أمام القانون سواء وفي الإنسانية شركاء ولا فرق أن يكون أخا لك في الدين أو نظيرا لك في الخلق، هذا تنصره إن كان على حق وذاك تدافع عنه إن ظلم أو وقع في مخمصة.

وقبل هذا كله الإسلام شرّع القوانين وحدد الحقوق ووزع المسؤوليات لكي لا يحدث التنازع بين الرعية أو بين الراعي والرعية، فالجذور ثابتة، والفروع واضحة، ولا تحتاج إلا لتصفية القلوب وتهذيب النفوس وتطهير الأرواح لكي لا يقع التعدي وتحترم الحقوق الخاصة والعام.

والملاحظة اللازمة في هذا المضمار، أن التفريق الذي دعى إليه (ميرفن فروست) بين الحقوق (المدنية) والحقوق (المواطنية) غير واضح المعالم وفيه تنقيص من قيمة الفرد. فالإسلام لا يفرق بين من يقتل نفسا واحدة أو مجموعة من الأنفس، لان الذي يقتل واحداً  يقتل المجموع (ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) المائدة: 32.

خطوات لابد منها

العالم  مقبل على تغيير جذري في علاقاته الدولية، وقوى العولمة جادة في خطواتها لتكريس هيمنتها على دول العالم الثالث والنامي ولا مفر من وقوع تعديات ـ تدخل إنساني!! ـ على كيانات معينة، وإذا أريد للعالم الإسلامي أن يكون بعيداً عن منأى ضغوط الدول العظمى، ينبغي الإسراع باتخاذ مجموعة من الخطوات الأساسية:

أ ـ السعي الجاد لإغلاق كافة السبل التي تساعد على فسح المجال لقوى العولمة لتنفيذ خططها وممارسة ضغوطها، أو اللعب على التناقضات الداخلية، وذلك من خلال الاستجابة المبكرة لرفع المظلومية والتميز عن الاقليات أو الطوائف المضطهدة، وإشاعة أجواء من المشاركة والتعددية والحرية والمساواة و...

ب ـ العمل على إيجاد عالم متعدد الأقطاب أو ثنائي يستطيع أن يحافظ على توازن القوى، ويمنع تفرد القطب الأوحد باتخاذ القرارات أو ممارسة الضغوط للحصول على الامتيازات.

ج ـ التخطيط بجد لاخراج منظمة العالم الإسلامي من دور التهميش إلى واقع الفعل والتفعيل وإيجاد صيغ إسلامية عامة تقبلها كل الأطراف لمراقبة حقوق الإنسان في هذه الدولة ومحاسبة المقصر.

د ـ على بعض الدول الإسلامية النظر بجد إلى واقع حقوق الإنسان المسلم وان تطلب ذلك إجراء إصلاحات جذرية  في تشريعاتها أو هياكلها السياسية.

هـ ـ الاتفاق على سياسة موحدة تمنح الاعتراف بالانقلابات العسكرية وممارسة مختلف الضغوط لمنع بقاءها في الحكم، أو إدانتها عند حصول أدنى انتهاك لحقوق الإنسان.

و ـ واخيراً الإقرار الفوري بحقوق المعارضة، واحترام الرأي الآخر، وتقبل النقد، وإشاعة روح الألفة والمحبة والتعاون بين أبناء البلد الواحد.

الحرية

ولاية الفقيه

التعددية

السيادة

الاقناع

النشوء الحضاري

الكتابة

الثقافة

الامام الصادق

العقوبة

الهولوكوست

التجديد

الاعلام

الفكر الاقتصادي

اعلام الشيعة

السجود

عودة الى محتويات العدد41

عودة الى الصفحة الرئيسية