مرتضــى معــاش      

[email protected]

القدرة على فهم الأحداث وتحليلها

عناصر تجديد الفكر واصلاحه

التفكير الاجتماعي العام

أزمات فكرية أخرى

أزمــــــات الفكــــــــر

الفكر هو التاريخ الذي سجله الإنسان في أخاديد الأرض وحفره على صفحات الحياة حتى اصبح هو الأداة التي تؤشر على مجريات الحياة ومسيرة البشر، لان الانطباعات الإنسانية وتفاعلها مع العالم الخارجي تصنع أحداثا كبيرة وتجر معها تطورات متسلسلة تقود إلى تحولات إيجابية في حياة الناس أو إلى مفاجآت سلبية تفجر مآسي عندما ينحرف الفكر عن قراءته السليمة والموضوعية للعالم الخارجي.

 واكثر الأحداث الدرامية التي عاشتها الإنسانية هي نتيجة فعلية للتصورات الفكرية التي خامرها البشر في تعاملهم مع تطورات التاريخ.

فالإنسان كائن مفكر يعتمد على حركته من خلال فهمه لما يجري في الخارج وهو بتفاعله الحسي والحدسي يبني انطباعات مختلفة في داخله تؤثر بشكل مباشر على سلوكه وردود أفعاله مع الآخرين، فالفكر يمكن تشبيهه بالمرايا التي تعكس صورا إلى الذهن حيث تؤثر نوعية المرآة في انطباع صورة معينة في الذهن، حيث يتشبع الذهن بالصور الخارجية من خلال مرآة الفكر، فقد تكون المرآة مستوية فتعطي انطباعا سليما وقد تكون محدبة أو مقعرة أو مرايا منحرفة تعطي اشكالا عجيبة لتفرز واقعا وهميا ينطبع في داخله ليتصرف بصورة غير سليمة مع العالم الخارجي، واكثر اخطاء الفكر تنبع من تلك الادران والاهواء والمصالح الانانية التي تغلف الفكر وتشوش رؤيته الحقيقية، وهذا يعني ان حركة الحياة عند الإنسان تجري وكأنه محاط بمرايا تعكس لكل واحد حسب نظرته وتعكس للبعض حقائق مشوهة لأنها تتلون بالمصالح الخاصة فينظر من خلالها عبر زاويته الحادة ليعكس عالما ترتئيه اهواؤه ورغباته. فالقدرة على رؤية الخارج تتحقق من خلال مستوى نقاء المرآة، يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): فكر المرء مرآة تريه حسن عمله من قبحه.

ومن هنا فان اغلب الأزمات التي يمر بها المجتمع أو الفرد هي ازمات في ذاتها فكرية لعدم وجود القدرة على إدراك الواقع الخارجي ادراكا سليما؛ مما يؤدي إلى الوقوع في أخطاء كبيرة ومهلكة في بعض الأحيان، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): من ضعفت فكرته قويت غرته.

لذلك فان عملية تجديد الذات واصلاح الأمة لايمكن ان يتم إلا من خلال عملية الاصلاح الفكري وتنقية الفكر من الشوائب التي تعيق وجود النظرة السليمة للحياة. فلا يمكن تأسيس حركة انسانية واجتماعية متطورة ومتقدمة ما لم توجد بنية فكرية سليمة في أساس بناء الأمة وهيكليتها. ذلك ان مشكلة الأمة الاساسية هو انفصالها عن حركة التاريخ وتخلفها عن تطور الحياة وتقدم الزمن اذ ان قراءتها الفكرية المشوشة اضعفت استجاباتها للتحديات والمتغيرات الخارجية، مما اوجد اختلالا واضحا في بنائها وازمات كبيرة على مستوى معقد يصعب التوصل لفهم جوهره دون وجود تحليل معمق لاسبابه.

إن هذا الاختلال الكبير قد يرجع في اساسه إلى عدم وجود التوازن بين الداخل والخارج، فالداخل عندما تتشوه رؤيته يعجز عن رؤية الحقيقة الخارجية ويضعف عن فهم حركة الاحداث وتطورات الزمان. وهذا يعني ضرورة ايجاد جهد فعال وكبير لاعادة التوازن بين الداخل الفكري والعالم الخارجي حتى نوجد الترابط المنطقي في حركتنا ونستطيع قراءة تسلسل الحياة ومعاصرته بحيث لانتخلف عنه وحتى يمكن ان نسبقه عندما يتطور فكرنا بشكل ناضج لقراءة المستقبل والتنبوء بمجرياته والاستعداد لمجيئه دون حصول مفاجآت مفجعة.

وبتتبع متسلسل للحركة الفكرية الحديثة في امتنا يمكن ان نرى ذلك الانفصال المتزايد بين الداخل والخارج بتعقد الأزمات التي تزيد وقعها وضرباتها على كيان الأمة. فالحركة الفكرية الحديثة هي بشكل اكبر نتاج فورة عاطفية خلقت استجابات حماسية مفرطة ادت إلى ردود أفعال سريعة وعنيفة خلقت واقعا تصادميا ومنهجا فكريا لم يستطع ان يرى حركة الواقع الخارجي بصورته الحقيقية.

ان العاطفة هي شعور ايجابي لازم لتحقيق الحماس في ذات الانسان من اجل تحريكه لتحقيق طموحاته والاستجابة لتحدياته ولكن ان يطغى هذا الشعور على الفكر فيحجبه بانفعالاته عن الرؤية السليمة للواقع الخارجي فان هذا الأمر يخل بالتوازن ويؤدي إلى وجود رؤية انفعالية غير موضوعية وايجاد صور متوهمة لخارج لم يكن موجودا اصلا. واحد أسباب انتشار العنف والتطرف ومن ثم تحقق الاحباط واليأس هي هذه الرؤية العاطفية المحضة. وهذا يفسر كيف ان البعض يتمسك تارة بشكل مغالي ببعض التجارب الحديثة واخرى يتخلى عنها بصورة مطلقة وبسهولة. وعلى سبيل المثال فان احد أسباب فشل الأمة في إدارة الصراع الصهيوني – العربي هو التعامل العاطفي الحماسي مع هذه الازمة وعدم رؤية التطورات بشكل واضح فاما حرب مطلقة أو سلام مطلق.

أزمــــــات الفكــــــــر

إن التأمل بالواقع الفكري الذي نعيشه ومقدار الانفصام عن العالم الخارجي يساعدنا على فهم حقيقة الازمة الفكرية التي نعيشها، هذه الازمة تجسدت عبر مجموعة من الظواهر المتفاوتة بحيث شكلت نتاجا ملحوظا لعدم القدرة على ايجاد الترابط المتوازن بين الداخل والخارج، لذلك يمكن من خلال استعراض اشكال الازمة الفكرية ان نحدد ونصل إلى جوهر الانفصام ومن ثم ايجاد البدائل اللازمة لتجديد البنية الفكرية والخروج من دائرة التشوش للوصول إلى بعد اوضح في فهم الحياة وارتباط اكثر صوابية مع العالم الخارجي.

ان الازمة الفكرية يمكن ان نحللها عبر مجموعة ازمات فكرية تحللت إلى انماط سلوكية حفرت نفسها وتجذرت في خنادق محصنة أصبحت عبئا ثقيلا يصعب اختراقه أو تجديده، ولكن المعرفة بالامر وتحليل دوافع سلوكنا وتصرفاتنا يمكن ان يعطينا دفعات تدريجية من الوعي الناضج للخروج من هذه الأزمات المتخندقة.

أزمة التحجر: عندما يفقد الفكر مبرراته التطورية والتقدمية يصبح خارج دائرة الزمن حيث يتحصن في داخله رافضا الخروج من دائرة الماضي والانسجام مع حلقات الحاضر والمستقبل المتسلسلة. حينئذ يصبح التحجر والجمود هو من اساسات بنائه ووجوده، والفكر عندما يفقد مبرراته التطورية يفقد غاياته اساسا ويتجرد من تسميته الحقيقية إلى وجود جامد لا يستطيع ان يلاحظ خارجه. انه ساكن في اجتهاداته قامع لها ورافض لمتغيراته، فيحارب كل متغير يسري في داخله ليقدس كل مقتنياته ويحدد كل انتاجاته، فيحتكر كل الحقيقة وينبذ كل النقد، ويصبح العناد المطلق جوهر تفكيره المنغلق على عوالمه الخاصة. قد يكون السبب هو عدم الثقة بالعالم الخارجي والاحساس بالضعف وفقدان القدرة المنطقية على الاستدلال ولكنه في النتيجة يخسر كل شيء عندما خاف ان يخسر البعض.

لايمكن ان تكون المحافظة على القديم مبررا للتحجر والجمود بل على العكس من ذلك فان عدم التجديد يقضي على غايات وجودها ويقودها نحو العدم، لان التحجر لايعني كغاية وهدف التمسك بالاصول والثوابت بل يعني بشكل اكبر تحجير المبادئ ورفض الانسجام مع تحديات التغيير التي تحتمها معطيات الكون المتحرك والمتغير.

ان مفاهيم الدين الإسلامي تحض على الاستجابة الفعالة مع العالم الخارجي وتطوير الفكر الإنساني باستمرار لتحقيق الحرية والاقتناع والابداع والتطور التي هي من اساسات تحرك الإنسان وتصاعده نحو الكمال، والملاحظ للكثير من التصريفات في الافعال المستخدمة في القرآن تدل على حركة الفكر وعدم جمودها مثل: (التدبر..التفكر..).

ازمة التحجر ازمة حقيقية لان اصحابها يرفضون الحوار والتغيير ويقدسون افكارهم بشكل مطلق ويحاربون الرأي الآخر. وهي تنطبق على اتجاهات فكرية متنوعة لأنها تشكل ازمة اجتماعية عامة تنبع من البنيان الثقافي العام للامة.

ازمة الذوبان: وهي أزمة تشكل نمطا آخراً من التفكير الذي يفقد مبرراته الحقيقية حينما يفقد تفاعله الحيوي مع العالم الخارجي ويتمرد بشكل مطلق على تجاربه السابقة ويضع اللوم كل اللوم على تراثه واصوله ليقع في معضلة فقدان الهوية وبالتالي لايجد إلا افكار الغالبين ليذوب بكامله في الآخرين متنصلا من تاريخه وماضيه ومنصهرا في حاضر منقطع لا أسس له. ليست المشكلة في ان يثور الإنسان لتغيير وتجديد حاضره بل هو الأمر الذي يمكن ان يجدد الافكار ويحيي المبادئ، ولكن ان يتطرف في ذلك عبر الغاء كل الماضي والتاريخ فهو الأمر الذي سوف يزيد انفصامه عن العالم الخارجي ويضعه في متاهات لا يستطيع ان يخرج منها. واذا حاول الغرب منذ قرون عديدة ولحد الآن ان يتنصل من الكثير من الاخلاقيات والمبادئ ويلغيها بدعوى التقدم العلمي والوجود العقلي المحض ويضع التجارب الحضارية الماضية خلف ظهره بدعوى الحرية الفردية المطلقة، فانه اليوم يعاني كثيرا من فقدان الهوية الإنسانية ويواجه عواصف وأزمات أخلاقية وروحية كبيرة ولذلك يتمرد اليوم كثير من مفكريهم على ليبراليتهم ويدعون نحو ايجاد الاعتدال بين التحديث والتأصيل والتمسك بالاسس الاخلاقية والدينية التي قامت عليها دعوات الأنبياء والمصلحين.

ان التنصل من الماضي بدعوى التحديث يؤدي بالنتيجة إلى التبعية إلى الآخرين وفقدان خصائص حضارتنا الاصيلة ونسيان تجاربه المتألقة والتي يمكن ان تعطينا دروسا كبيرة في عملية التجديد والتغيير مع الحاضر والمستقبل.

أزمة الدونية: الشعور بالدونية تجاه الفكر الآخر وفقدان الثقة بفكر الذات ُيلجئ بعض المفكرين إلى التمسك والتمحور حول مناهج فكرية أخرى والتمسك بها دون وجود اقتناع حقيقي وشعوري بها، إلا ان التجارب السيئة التي مروا بها ادت إلى سريان الاحباط في أرواحهم وأفقدتهم الثقة بالذات. فبدلا من السعي إلى تجديد الفكر ومحاولة علاج الازمة بمراجعة نقدية هادئة سعوا إلى التنصل من الثوابت والمرتكزات في محاولة لملء الفراغ الفكري والروحي الذي افقر دوافعهم الذاتية، ويمكن ان نرى ذلك في الانبهار- المتدافع نحو الحضارة الغربية والاقتداء بقيمها - مهما كانت دون النظر إلى سلبياتها أو إيجابياتها والتعبد بها، وهو تعبد لا يعتمد على الموضوعية والدراسة النقدية بقدر ما يعبر عن فقدان القدرة والشعور بالعجز أمام خصم قوي بمظاهره وشعور نفسي بالإحباط واللاجدوائية من احداث لم تعط صورة آمنة للمثقف يستدر منها الغائية والهدفية في حياته. وهذا الاتجاه والاحساس بالدونية امام القوي أو الالتجاء للآخرين طلبا للاستقرار والامان الفكري لا يؤدي إلى تجاوز الازمة الفكرية ان لم يؤد إلى تفاقمها، لانه في الواقع التجاء نفسي يفتقد في بعض جوانبه النقدية المتعددة والموضوعية الحكيمة. وقد ادى ذلك إلى نشوء اتجاهات فكرية تعتمد على الاقتباس المطلق في ظرف عدم وجود حقيقي لاستقلاليتها وروحها الابداعية ودون ان تحكم قدراتها النقدية والبحثية وهي بذلك تحاول ان تصنع لها وجودا ثابتا على هامش تلك الوجودات الأخرى. وبالطبع فان الدونية هي تبعية خطرة تجعل الفرد أو النخبة في متناول سلطات الآخرين وتحكمهم وبالتالي يكون فاقدا لعناصره الذاتية المستقلة في الابداع والاجتهاد والنقد. وقد يسمي البعض هذه الدونية بالتغرب نسبة إلى الانبهار الاعمى بالغرب ولكن هذا النوع من الازمة هو عام لايشمل الغرب فقط بل يشمل كل شعور بالضعف وفقدان الثقة تجاه الآخرين. ومن هنا يجب الحذر من الوقوع في مطب هذا النوع من الأزمات بشكل غير شعوري حتى لا نصبح مجرد احياء نفكر على هامش ما ينتجه الاخرون من افكار.

أزمة التقليد: وهي ازمة تنشأ من رحم الشعور بالدونية والضعف أمام ابداع الآخرين فنبدأ بتقليد أفكارهم بشكل حرفي ونسوق قيمهم ونجتر تجاربهم، وبذلك تبدأ ملكاتنا الفكرية من الابداع والنقد والابتكار في الاضمحلال والاندثار. ومشكلة التقليد هي مشكلة تعيش في جذور المجتمع البنيوية عبر تقاليد ثقافية جامدة تفرض على الفرد الطاعة المطلقة للسلطات الفردية المستبدة لتعيش حالة التبعية والذيلية فاقدة لقدرتها الشخصية في التفكير المستقل والابداع المتحرر والابتكار الخلاق. فالفرد ينشأ منذ نعومة اظفاره مقلدا، وبعد ان يكبر يبقى مقلدا ولكن بشكل اخطر عندما يخرج من مجتمعه إلى عالم جديد يعجز فيه عن تجديد طاقاته وتحفيز ملكاته الفكرية.

أزمة التعصب: من اخطر الأزمات التي يمكن ان تعصف بالفكر الاجتماعي فتقوده نحو نتائج عنيفة تؤدي في النهاية إلى التصادم والتحارب، لان المتعصب يقدس افكاره بشكل مطلق ويحتكر الحقيقة لنفسه ويُخطئ الآخرين دوما دون الرجوع إلى احتكام الحوار والنقد، وهذه الازمة هي تجسيد شبيه بمنطلقات ازمة الدونية ولكنها تقود إلى اتجاه معاكس تماما، وهو الانغلاق على الافكار دون السماح لجريان نسائم الافكار الأخرى من خلالها. وهذا دليل الضعف الذي يعانيه الفكر المتعصب، وهو يفقد القدرة على الاستدلال والحوار مع الافكار الأخرى، ولانه يخاف على نفسه من الانهيار يحصن نفسه بتقييد فكره واعطاءه صفة القدسية المطلقة، ومن منا لم يشعر بشيء من التعصب عندما يتعرض لموقف نقدي يبين ضعفه ويكشف عجزه فيكابر اعتقادا منه انه يدافع عن ذاته. وعندما نستعرض واقع التعصب في ازمات امتنا نجد ان التعصب قد استشرى في مختلف الاتجاهات حتى اصبح الاحتراب والتصادم هو سمة التعامل اليومي بينها مستخدمة اشد الوسائل القمعية لتدميرها حسب مستوى امتلاكها للقدرة والقوة. وتساعد وسائل الاعلام كثيرا في انتشار التعصب عبر ضربها للآخرين أو تجاهلها المطلق للحقائق التي لا تتماشى مع منطلقاتها الفكرية، لذلك فان السلاح الاقوى اليوم في تمزيق الأمة هو التعصب المطلق والاعمى الذي يتمظهر بأشكال مختلفة مثل التعصب الديني والطائفي والعنصري والقبلي والعلماني والتحزبي.

ان المتعصب هو فرد في اغلب الاحيان منعزل عن العالم الخارجي وغير قادر على قراءته لانه لايراه إلا من خلال نافذة ضيقة جدا تعكس له اعتقاده المطلق بافكاره، لذلك فهو لايرى عالم الآخرين وافكارهم بل يرى فقط نفسه لنفسه بنفسه.

أزمة الخوف من التجديد: قد توجد رغبة في تجديد الفكر وادواته ولكن قد يكون الخوف والرهبة من التجديد عنصراً أساسياً في إيقاف مسيرة التجديد، لان التجديد سوف ينتج عنه مصاعب وتطورات يمكن ان تطيح بالكثير من المصالح والثوابت والمبادئ التي قام عليها، وبطبيعة الحال فان معظم الناس يفضلون البقاء محافظين على ما يمتلكون دون المخاطرة في مستقبل قد يسلب أمنهم واستقرارهم وخصوصا عندما تمر عليهم تجارب مؤلمة كان فيها التجديد باهض التكاليف. ولكن الاشكالية الاساسية التي تواجه هذا النوع من التفكير هو ان البقاء والمحافظة من التجديد والتمسك بالحاضر الذي يتحول إلى ماض سوف يقود حتما إلى انقلاب الوضع بشكل مفاجئ يسلبهم فيه كل شيء، باعتبار ان حركة الحياة لاتتوقف وان التغيير والتجديد أمر حتمي، فعندما يرفض البعض التجديد يعرض واقعه الاجتماعي والفكري لثورة عنيفة تعصف به خصوصا عندما تجد التيارات الشابة نفسها منفصلة عن التيار الفكري القديم فتنتفض دون حكمة مدمرة كل شيء. ولكن الخوف من التجديد يمكن ان يرتفع عندما تقدم التيارات الفكرية على إيجاد نهضة إصلاحية هادئة تعتمد على التدرج في التحديث مع التمسك بالثوابت والمرتكزات والحفاظ على الأسس المبدئية، وبهذا فأنها تساير التطور الزمني وتنسجم مع العالم الخارجي.

أزمات فكرية أخرى

يمكن أن نلاحظ كثيراً من الاشكال الفكرية المتأزمة في حركة الفكر في مجتمعاتنا تتداخل فيما بينها مشكلة انفصاما حقيقيا عن معادلة العالم الخارجي واختلالا واضحا في التوازن الحركي لمسألة الفكر، مثل:

أزمة الانغلاق: حيث ينغلق الفكر على ذاته مفضلا عدم الانفتاح على الآخرين خوفا أو ضعفا أو تهربا من المسؤولية، هذا الانغلاق سوف يقود إلى وجود سوء فهم كبير من تيارات مختلفة وابتعاد عن الحياة.

أزمة الفكر العنيف: حيث يتحول من اداة للحوار إلى اداة قوة لفرض التغيير السريع على الآخرين مستخدمة اسلوب القفز الفوري دون مراعاة الخطوات العلمية والمنطقية لمسيرة التطور الفكري التدريجي، اذ ان الفكر بطبيعته يستلزم الانضاج الهادئ والاقناع الصبور والاستقامة بنفس طويل.

أزمة الازدواجية: وهي ازمة تقود الفكر المحبط إلى ازدواجية متلونة بافكار متناقضة يتعامل معها حسب اندفاعاته النفسية والمصلحية لا حسب موضوعيتها، ونرى ذلك كثيرا في المجتمعات المخنوقة والمكبوتة حيث يعجز المثقف من أن يعبر عن رأية بحرية وجرأة، وهذا الأمر سوف يقود الفكر إلى أزمة في التناول الغائي معه عنما يصبح مجرد وسيلة.

عناصر تجديد الفكر واصلاحه

كل واحد منا يدرك بفطرته وعقله وشعوره أن هناك غائية في هذا الوجود والنظام، فالفكر يحاول أن يرتب سلسلة افكاره للوصول إلى نتيجة وعلة وسبب يفسر هذا الوجود، فالنظام الفكري في حياتنا كلها قائم على وجود الغاية والعلة في هذا الكون والا فان العبثية لاتعني إلا انتهاء المبررات الجوهرية للكون والخلق. وغائية الوجود تعني وتؤكد ان الإنسان في حركة دائبة ومستمرة لتحقيقها بصورة تصاعدية للوصول إلى الكمال الوجودي للبشر. والحركة الدائبة والسعي المستمر يعني بالضرورة وجود تجديد مستمر وتطور محتوم في حياة الفرد والا فان عدم التجديد يعني بالضرورة انتفاء المبرر الغائي اذ لايستفيد الإنسان من تكرار حياته اليومية إلا العبثية وانطفاء شعلة الحياة فيه وسريان الاحباط في داخله. فمع الحركة والتجديد ينبعث الامل والطموح في داخل كل واحد منا ليتحول إلى سعي يومي من اجل سد الفراغ الكمالي في اعماقنا والوصول إلى الغايات المحتومة، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

إن تجديد الفكر واصلاحه هو احد حتميات التطور الحركي المستمر اذ ان الفكر الجامد والساكن لا يستطيع ان يؤقلم نفسه مع التطور المستمر بتطويره الاستمراري لقراءاته الفكرية للعالم الخارجي واستخراج رؤى جديدة تساعده على الانسجام وحل مشاكله وقضاء حاجاته اليومية، وما التطور البشري المستمر لحد هذا اليوم إلا تلبية لهذه المقتضيات. ذلك ان تطور ظروف الحياة والتغييرات الدائمة في هذا الكون المتحرك تفرض على الإنسان باستمرار ان يعيد تشكيل نظامه الفكري حتى يستطيع ان يتكيف مع التطور الحتمي الحاصل، ومعظم الازمات التي تعيشها المجتمعات ويخوضها الأفراد هي نتاج واضح لعدم وجود التكيف مع تطور الحياة لذا يصاب المجتمع بنكسة حضارية تقوده لرد فعل عنيف أو تقضي عليه باليأس والذهول.

لذلك لابد من توفير عناصر التجديد والتأمل فيها بشكل جيد حتى لا نخضع للصدمات الحضارية المؤلمة التي تعصف بنا في المستقبل كما هو حاصل اليوم.

القدرة على فهم الأحداث وتحليلها

من عناصر التجديد هو وجود القدرة على فهم الاحداث وهضمها وتحليلها في نظامنا الفكري من اجل الوصول إلى إدراك الترابط القائم بينها والحصول على نتيجة واضحة ومفهومة لما يجري في الخارج. فعندما لانفهم ما يجري في الخارج ونعجز عن إدراك الترابط تصبح الصدمة علينا قوية وغير قادرين على التكيف معها، ولعل ما حصل في حرب الخليج الثانية والتطورات الكبيرة التي افرزتها لازالت تفرض صدماتها علينا بحيث سلبت قدرتنا على التصرف وحل ازماتنا.

وعندما نفقد الروح التجديدية في حركة افكارنا نصبح عاجزين عن حل أزماتنا ونسير في حلقات مكررة ومفرغة تعيدنا إلى اول الطريق دائما مسببة لنا آلام ومآسي اكبر، لذلك فان رؤيتنا الحكيمة المتجددة تساعدنا كثيرا في استخراج انفسنا من هذا الواقع.

إن أحد عوامل ركود الفكر واضمحلاله هو تلك الاحادية التي تغلف افكارنا وتعزلنا عن الوجود الآخر في المجتمع وتقسمنا إلى فرق متناحرة ومتحاربة دون التفكير ولو قليلا بمصالحنا المشتركة، ولكن التفكير التجديدي يخرج من الدوائر المغلقة ويفتح عيوننا على الخارج ويعطينا رؤية حكيمة في فهم العوامل المتغيرة وان حياتنا السليمة لايمكن ان تتحقق إلا عبر الالمام باهدافنا المشتركة وانها يمكن ان تتلاقى لانتشال انفسنا من الازمة.

التفكير الاجتماعي العام

لايمكن تحقيق التجديد الفكري عبر تأملات مجموعة من المثقفين تبقى محصورة في قنوات عقولهم الخاصة، التجديد الفكري يتحقق عندما يتحول إلى فلسفة اجتماعية عامة تستثير نهضة فكرية شاملة تؤدي إلى اقناع المجتمع بشكل ما بهذه الافكار المتنورة. فما نحتاج إليه هو تطوير فلسفة اجتماعية عامة تقود إلى الاتفاق الجمعي على الطرق المشتركة والاهداف العامة للوصول إلى ايجاد نظام شامل يحقق التكيف والانسجام مع حركة الزمن. ولايمكن تحقيق الفلسفة العامة إلا بعد وجود الحوار الموضوعي والفعال بين النخب المفكرة لتحقيق الوعي الشامل. فلايمكن استبعاد الناس من دائرة التجديد بدعوى عدم وجود الكفاءة الفكرية وهذا يدل على ان النخبة تفكر بانعزالية وبخطاب متعالي لايفهمه الناس، وبالتالي فانها تساهم في تعقيد ازمة الفكر عندما تفصل المجتمع عن الاشتراك والوعي المشترك في تجديد الفكر، فالناس هم أدوات مؤثرة وهم جزء من السبب المشترك في تحقيق التعاون العام، والتفكير الخاص هو جزء من التفكير الاجتماعي العام وهو جزء يتشكل منه. فالتعصب الفكري الذي يستبد بالبعض ويجعله محتكرا للحقيقة لايؤدي بنا للسير في الطريق الصحيح، إلا إذا ادركنا ان كل واحد منا هو جزء من ذلك العام المشترك وان كل له وجهة نظر محدودة لا تستطيع ان تحقق التكامل والتكافل إلا بالآخرين، وان قراءاتنا الخاصة تبقى قراءات متجزئة للعالم الخارجي إذا كانت بمعزل وانغلاق عن الآخرين وخصوصا إذا كانت متحيزة لمصالحها الخاصة فقط ، فالتجديد الفعال هو الذي يجمع الكل في تصور مشترك عام لمشاكل وحاجات واهداف مشتركة.

ومن عناصر التجديد:

الاعتدال الفكري: اذ به يمكن تحقيق التوازن والقدرة على الاختيار الواعي للمعلومات الواردة وهضمها بشكل سليم، فالافراط والتفريط فيه دلالة على عدم وجود بناء فكري متماسك قادر على احداث التجديد الفعال. فالتفريط هو تلك الاستهانة الجاهلة بدور الفكر وقدرته على قيادة الإنسان والمجتمع وبالتالي تضييعه في مقابل التركيز على المال اوالسلطة أو اللا مبالاة. والافراط هو التركيز الافراطي على الجوانب النظرية والفلسفية مع عدم وجود ارتباط متجانس مع الواقع الخارجي وبالتالي الوقوع في احلام واماني المدينة الفاضلة والنظريات الترفية والأفكار الخالية من الاهداف الحيوية الحقيقية. فالاعتدال يسير بالتجديد في الطريق السليم بايجاد التوازن بين الداخل الفكري للفرد والعالم الخارجي.

الطموح الفكري: احد أسباب توقف الفكر عن التجديد هو ذلك الاقتناع المطلق بالفكر الخاص لفرد أو جماعة أو اتجاه وهذا يقود إلى غلق الابواب الفكرية ومنع التفكير وسد الاجتهاد ومنع التجديد. فالفرد إذا شعر بالاكتفاء وعدم حاجته للتكامل يتوقف طموحه الفكري ويبدأ بالتراجع والتخلف، وهذ هو مبدأ انهيار الحضارات وانحلالها.

التجديد هو طموح فكري مستمر بسعي لايكل للوصول إلى مستوى ارفع واعلى وهو يعني ان الفرد لابد ان ينتزع من داخله ذلك الشعور المغلف بقداسة افكاره وصحتها المطلقة، ذلك الشعور يخالف ادنى نواميس الطبيعة وهو ان الإنسان خلق ضعيفا ناقصا غير قادر على الكمال المطلق. وعندما يشعر الإنسان في ذاته انه لم يصل بعد إلى مستوى يعطيه الاكتفاء المطلق يتحرك بسعي دائب وطموح ايجابي لتطوير افكاره وعلومه ومعارفه. ان التواضع على العكس من ذلك فهو الاعتراف بالجهل والنقص وعدم الكمال، والطموح دليل على تواضع الإنسان بامكانياته وانه بحاجة مستمرة للتطوير والتجديد، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): كفى بالمرء فضيلة ان ينقص نفسه. ويقول احد المفكرين: نحن اليوم مصابون بتواضع في غير محله فالتواضع قديما حمل الإنسان على ان يرتاب في جهوده الأمر الذي قد يدفعه إلى ان يعمل بجهد اكبر لكن التواضع اليوم يجعل المرء يشك باهدافه فيحمله إلى وقف العمل بالمرة.

وهناك الكثير من عناصر التجديد التي يمكن ان تساهم في تحريك الموجود الفكري لدينا من اجل تجديده وتطويره مثل تحقيق حالات الانفتاح الإيجابي على الآخرين وترسيخ روح النقد والانتقاد البناء في النفس ونشر مبدأ الحوار بين مختلف الأفكار من اجل مزيد من النضج والنمو والابداع، ولاشك بأن مبدأ الحوار هو مبدأ أساسي وأصيل في الإسلام وعلى ذلك قامت دعوة القرآن الكريم ودارت مباحث النقاش والمحاججة مع الآخرين وهو مبدأ يدل على عظمة الإسلام ومدى تقديره للإقناع الفكري الحر والانفتاح المتبادل مع الآخرين للوصول إلى مشترك متفق عليه.

وسنفرد بحثا منفصلا عن أهمية الحوار والتواصل الفكري ودوره في التجديد والإصلاح في القريب العاجل إنشاء الله تعالى.