إسلاميات - القرآن الكريم

التعصب للأحزاب والحكام سبب دمار البلاد

ان الانسان لفي خسر (7)

فليس الفاعل للظلم ظالماً فقط، وليس المعين عليه ظالماً فقط، وليس الراضي بفعله ظالماً فقط بل فوق ذلك فان الساخط عليه أيضاً ظالم فيما إذا لم ينهَ عن المنكر بقوله وفعله، وبذلك نجد ان الظلم قد اتصف به جميع أفراد المجتمعات التي يهلكها الله تعالى بالاستغراق...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(1).

وفي هذه الآية الكريمة بصائر هامة مفتاحية كثيرة:

هل الإهلاك الإلهي وليد ظلم الأكثرية أو ظلم الجميع؟

ومن البصائر: انه يحتمل في الآية الكريمة وجهان:

الأول: ان القرون والأمم قد أهلكت بأجمعها لما ظلموا جميعاً.

الثاني: ان القرون والأمم قد أهلكت بأجمعها لـمّا ظلموا مجموعاً.

والفرق بين الوجهين دقيق ورائع إذ يراد بـ(الجميع) في الوجه الأول الاستغراق أي حيث ان جميع أفراد تلك الأمم وكل واحد واحد من آحادهم، قد ظلم وشارك في الظلم لذلك أهلكناهم بأجمعهم، بينما يراد بــ(المجموع) في الوجه الثاني انه حيث ان أكثر (وليس جميع) أفراد تلك الأمم ظلم لذلك أهلكناهم جميعاً، بعبارة أخرى: حيث ان المجموع إجمالاً، أي من حيث الطابع العام لهم قد ظلم لذلك أهلكناهم جميعاً. فما هو الأرجح من الاحتمالين؟.

إذا ظلم الجميع حلّت سُنَّة الإهلاك

ويؤيد الوجه الأول: أمران:

الأول: ان الأصل في الجموع وفي الضمائر العائدة إليها هو الاستغراق وإرادة الجميع، فإذا قلت: أكرم العلماء أو جاء الضيوف أو ذهبت أيام الشباب، أو قلت: جاء العلماء فأكرمتُهم أو جاء الضيوف فآويتُهم، كان الأصل كل واحد واحد منهم على سبيل الاستغراق الشامل، لا الأكثر أو المجموع إجمالاً.

الثاني: الاعتبار وما قد يقال من انه مقتضى قاعدة العدل، لأن مقتضى العدل ان يجازَى كلٌّ بعمله هو لا بعمل غيره.

وعليه يكون حاصل المعنى: انه تعالى أهلكهم بأجمعهم لأنهم بأجمعهم كانوا ظلمة.

أو: إذا ظلم الأكثر، أهلك الله تعالى الجميع؟

بينما يؤيد الوجه الثاني: شهادة الواقع الخارجي بان الكل ليس بظالم بل قد تظلم الحكومات ومعها جمع قليل أو كثير من الناس، بينما يبقى أكثر الناس مظلومين، أو قسم كبير منها.

ويمكن الجواب عن السرّ في إهلاك الجميع حينئذٍ (على الوجه الثاني) مع ان القليل أو الكثير أو حتى الأكثر منهم قد ظلموا لا الجميع، بوجوه:

منها: ان ذلك هو مقتضى قاعدة سنّ القانون وباب التزاحم بعد الكسر والانكسار.

ومنها: التعويض، حيث ان الله تعالى يعوّض المظلوم الذي هلك بسبب أفعال غيره، في الآخرة بـ((مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ‏))(2) وبأنواع الألطاف والعطايا والهدايا الإلهية المادية والمعنوية حتى انه يتمنى ان لو كان البلاء قد نزل عليه أضعافاً مضاعفة كثيرة إلى ما شاء الله تعالى، وقد ورد في الحديث ((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا لَهُ فِي الْمَصَائِبِ مِنَ الْأَجْرِ لَتَمَنَّى أَنْ يُقْرَضَ بِالْمَقَارِيضِ))(3).

ولكن، ورغم صحة الوجه الثاني فإن الوجه الأول يبدو أرجح، ويمكن الدفاع عنه والجواب عن الاستدلال بشهادة الواقع الخارجي، بان نقول: ان الأمر على العكس فإن الواقع الخارجي يؤيد الوجه الأول وهو ان الكل أي الجميع بلا استغراق كانوا ظالمين لذا أهلكهم الله تعالى جميعاً، وذلك عندما نتصفح الأحاديث الشريفة المفسرة للظلم:

الراضي بالظلم ظالم!

فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ وَالْمُعِينُ لَهُ وَالرَّاضِي بِهِ شُرَكَاءُ ثَلَاثَتُهُمْ))(4) فها نحن نجد ان دائرة الظلمة، حسب الحديث الشريف، قد توسّعت كثيراً إلى أبعد الحدود، فقد يكون الظلمة من حكام ومسؤولين بالعشرات مثلاً، وقد يكون أعوانهم (بما فيه الجيش والشرطة) بمآت الألوف أو أكثر، ولكن الراضين بفعلهم قد يكونون بالملايين وقد يشكّلون عامة الشعب، لذا فانهم شركاء في الظلم فلذلك يعمهم البلاء جميعاً.

وقد يناقش ذلك بانه يبقى، رغم ذلك، الكثير من الناس غير راضين بأفعال الظلمة، فنقول ان الحديث الآتي يوضح لنا توسّع دائرة الظلمة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير:

الذي لا يواجه الظلمة، ظالم!

فقد ورد عن الإمام الحسين صلوات الله عليه قوله: ((أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلًّا لِحُرُمِ اللَّهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ))(5) فليس الفاعل للظلم ظالماً فقط، وليس المعين عليه ظالماً فقط، وليس الراضي بفعله ظالماً فقط بل فوق ذلك فان الساخط عليه أيضاً ظالم (ولو تنزيلاً؛ لذا يُدخله الله تعالى مدخله) فيما إذا لم ينهَ عن المنكر بقوله وفعله، وبذلك نجد ان الظلم قد اتصف به جميع أفراد المجتمعات التي يهلكها الله تعالى بالاستغراق وانه لا يخرج منهم إلا الأندر من النادر، الذي قد ينقذه الله تعالى كما انقذ لوطاً وأهله إلا امرأته أو نوحاً وأصحاب سفينته، وربما لا ينقذه لحكمة، فيندرج هذا النادر جداً، وقد يكونون بعدد الأصابع فقط، في دائرة الجواب الأول في معادلة التعويض.

وهنالك قرائن أخرى في الآية الشريفة يمكن ان يستفاد منها ان الكل قد شارك في الظلم بشكل أو آخر، لذلك أهلكهم الله تعالى جميعاً، وسيأتي لاحقاً الكلام عنها بإذنه سبحانه.

العراق في مواجهة خطر سنَّة الإهلاك الإلهي

ولنستعرض انموذجاً معبراً، بعد هذا التمهيد العام الذي استفدناه من الآية الكريمة التي منحتنا كما سبق قاعدة من أهم قواعد علم المستقبل إضافة إلى إطلالة على الماضي وفلسفة التاريخ الذي يدور في احد مفاصله الرئيسة على قاعدة إهلاك القرون، من جماعات وشعوب، إذا اتخذوا الظلم منهجاً وديدناً، وذلك الأنموذج هو العراق الذي سنلقي الضوء على جزء بسيط، مؤلم بالطبع، من مأساته، إجمالاً، كحالة تعبّر عن المنهج الذي تسير عليه، بشكل أو آخر، جميع الدول المتخلفة والتي ستجتلب لا سمح الله غضب الله تعالى والدمار الشامل، لو لم نتدارك جميعاً الأمر قبل فوات الأوان.

عدد المصانع المعطلة في العراق 80%!!

فلنتوقف قليلاً عند لغة الأرقام وحسب ما يقوله بعض المسؤولين وأعضاء مجلس الأمة والخبراء فقد (شرح مسؤول عراقي في وزارة الصناعة أن عدد المعامل والمصانع الحكومية العاملة في العراق لا يتعدى العشرين في المائة من مجموع المصانع الإنتاجية البالغة أكثر من ألف معمل ومصنع في مختلف القطاعات التي خرجت غالبيتها من الخدمة منذ الاحتلال الأميركي للبلاد)(6).

وهي تغطي أنواعاً مختلفة من أهم أنواع المعامل والمصانع مثل معامل الأدوية، والغزل والنسيج والألبسة، والأسمدة والفوسفات، ومصانع السكر، ومصانع الإسمنت والحديد الصلب، والصناعات الدقيقة، وأخرى للمواد الغذائية والألبان.

ولقد كانت هذه المصانع (قد حققت الاكتفاء الذاتي، لكنها اليوم باتت عالة على الدولة التي تدفع مرتبات الآلاف من موظفيها والعاملين فيها من دون أن يقوموا بأي عمل.

وأضاف المسؤول السابق: أن دفع مرتبات موظفي المصانع والمعامل ما زال وفقاً لنظام السلف، بمعنى أن الحكومة تُسلّف وزارة الصناعة على أمل أن تسدد من الإنتاج لاحقاً، لكن عملياً منذ عام 2019 آلاف المصانع وقطاعات الإنتاج العراقية متوقفة، وبالتالي فإن هذه المدفوعات لن تُسترجع).

(وقد شرح المنسق العام لشبكة الاقتصاديين العراقيين، الدكتور بارق شُبَّر، أن المصانع العراقية تكلف خزينة الدولة أكثر من 500 مليون دولار سنوياً، ولا توجد دولة في العالم، مهما كان نظامها الاقتصادي، رأسمالياً كان أو اشتراكياً، تدفع رواتب لموظفين أو عمال لا يعملون)!.

وبذلك وغيره فقد ارتفعت البطالة المقنعة في العراق وقد (شرح بعض الباحثين في الشأن الاقتصادي العراقي أن 80 في المائة من المخصصات السنوية للموازنة التشغيلية تُنفق على الرواتب ومستحقات الموظفين، فيما كان من المفترض أن تتجه هذه المبالغ للاستثمار في إعادة تأهيل المصانع وتحديثها).

والحلول عملية وسهلة:

ومع ان عدداً من كبار الاقتصاديين وغيرهم طرحوا حلولاً عملية سهلة لمشكلة المصانع المعطلة ومن أسهلها وأهمها الحل الذي قدمه (المستشار الاقتصادي والمالي في الحكومة العراقية، مظهر محمد صالح، في مارس/ آذار الماضي، إذ اقترح تأسيس لجنة ثابتة للشراكة الانتاجية بين القطاعين العام والخاص، ولفت في تصريح نقلته وكالة الأنباء العراقية، إلى أنّ “من بين النشاطات التي اقترحها لفتحها أمام الشراكة، الاستثمار بالزراعة والخدمات الرقمية وتشغيل المصانع، لتكون قادرة على توليد الملايين من فرص العمل”) ولكن لم يجد هذا الحل ولا غيره آذاناً صاغية!.

ومن الحلول: الحل الذي أشار إليه (الخبير الاقتصادي بشير الجواهري، الذي لفت إلى أن “العراق يحتاج في السنوات المقبلة إلى مدن صناعية كاملة، وليس فقط إلى معامل ومصانع، وذلك بسبب كثرة الخريجين سنوياً، إضافة إلى الحاجة إلى مزيدٍ من المنتجات والمواد الغذائية”، موضحاً أن “فتح المصانع العراقية يحتاج إلى إرادة سياسية جامعة قوية وحازمة تجاه إنقاذ الوطن، ومن دون ذلك، فإن جميع التحركات السياسية أو البرلمانية لن تصل إلى نتائج”)(7).

ومن الحلول المفتاحية ما أشار إليه (الباحث الاقتصادي الحردان الذي اقترح أن تعمل الحكومة العراقية على طرح هذه المصانع للاستثمار وفسح المجال أمام القطاع الخاص ليأخذ دوره في تطوير القطاع الصناعي، والتخفيف عن كاهل الموازنات السنوية هذا الكم الهائل من الموظفين غير المنتجين.

وبيّن أن هذه الخطوة ستوفر عملية تحول في الإنتاج الصناعي العراقي، إذ يعتبر القطاع الخاص أكثر حرصاً على ديمومة الإنتاج لأنه يرتبط بمعدلات الربح والنمو).

ولكن هناك إرادة سياسية وجهات تعيش على سرقة العراق

ولكن، لماذا لا تقوم الحكومة بهذا الحل السهل – الحيوي المفتاحي؟

والجواب هو ما يفتح لنا الباب على فهم تطبيقي للآية الشريفة السابقة وعلى خطورة حلول الغضب الإلهي الشامل بنا، كما حلَّ بغيرنا من الأمم السابقة الهالكة، وهو: (ما أكده النائب في البرلمان ياسر وتوت: إن “هناك أجندات حزبية وإرادة سياسية وأخرى اقتصادية لمتنفذين تمنع إعادة تشغيل المعامل العراقية، أو تطوير المعامل التي تعمل حالياً لإنتاج مواد غذائية أو أدوات احتياطية وإنشائية متأخرة مقارنة بما تصنعه دول العالم”.

وشدد على ضرورة “استبعاد شركات الاستيراد التابعة لأحزاب وسياسيين في المرحلة المقبلة، ولا سيما أن العراق يمر بأزمة مالية كبيرة، وأن هناك مخاطر اقتصادية محتملة للسنوات المقبلة قد تؤدي بالتعيينات الحكومية إلى التوقف التام بسبب التضخم في أعداد الموظفين، وهو ما سيؤدي إلى نسب بطالة أعلى من جراء تزايد أعداد الخريجين من الكليات”) وأكد على ذلك نائب آخر فقد (تابع النائب هادي السلامي حديثه بالتشديد على “وجود إرادة سياسية وشركات كبيرة لا تريد للعراق أن يستقر، أو أن يصل إلى حالة جيدة اقتصادياً، لأنها جهات تعتاش على الأزمات، وهي تريد أن يكون العراق تابعاً بكل الأشكال إلى دول الجوار”).

ومن الشواهد البيّنة على ذلك ان الكهرباء لا تزال تشكل المعضلة العظمى في العراق فان الابتلاء بها لعامة الناس خاصة المستضعفين منهم شديد شديد، مع ان حل معضلة الكهرباء من أسهل ما يكون على الحكومة، وحسب دراسة قدمت لمجلس الوزراء قبل سنين فان بناء منظومة كهربائية تغطي كافة احتياجات العراق لا تكلف إلا ستمائة مليون دولار! مع ان الحكومات العراقية المتعاقبة أنفقت طوال هذه العشرين سنة مليارات الدولارات على استيراد الكهرباء من دول الجوار التي تعيش على أزمات العراق وعلى تصدير أبسط ما يمكن للعراق ان يوفره لنفسه!.

فهل نتعصب، بعد ذلك كله، لهذه الحكومة أو تلك أو تلك الجارة أو الأخرى، ونبقي الشعب يذوق مرارة الذل والهوان فيما تُسرق خيراتُه جهاراً عياناً، أو نعود إلى رشدنا كي يعود الله علينا بلطفه؟

فما هو الحل؟

ولسنا الآن في دائرة استعراض كل المآسي التي لا تزال تحل بهذا البلد العريق، بدءاً من ازدياد نسبة البطالة، والتضخم، وصولاً إلى تضاعف حالات الفقر وتزايد أعداد الأيتام والأرامل إلى حد مذهل والذين يعيش الكثير جداً منهم إن لم يكن أغلبهم في حالة مزرية جداً، وانتهاءً بأزمات الكهرباء والماء والتصحر والغبار حيث قدر بعض الخبراء ان أزمة التصحر والغبار تكلف العراق في السنة الواحدة 13 مليار دولاراً، نعم لسنا الآن في صدد استعراض هذه المآسي والمصائب والويلات، بل اننا في صدد الإشارة إلى الطرق التي لو لم نسلكها لأصبحنا كالأمم السابقة الهالكة، خاصةً وان نُذُر الهلاك والدمار قد بدأت تلوح في الأفق أكثر فأكثر..

أول خطوة في طريق الحل رفض العصبية الجاهلية!

والحلول متعددة، ومتنوعة وأساسية، لكننا سنبدأ اليوم بالخطوة الأولى التي لا يمكن من دونها أن نتقدم نحو أي حل، والخطوة بسيطة جداً بقدر ما هي صعبة جداً وهي ان نترك جميعاً (التعصب)! نعم التعصب فانه البلاء الأعظم والداء الأكبر الذي يمنع من تغيير ما بالأنفس من أدواء حتى يغير الله تعالى ما بنا من شقاء وبلاء.. التعصب بكافة ألوانه وأشكاله: للحزب، للعشيرة، للتيار، للخط، للقائد أو المدير أو المسؤول..

والمأساة ان كثيراً ممن ينتمون إلى هذه الجهة أو تلك يرون الخطأ في قياداتهم ويرون الفجائع التي تحل بالعراق نتيجة قرارات ومواقف وأعمال يقوم بها هذا المسؤول وذاك عن عمد أو عن خطأ أو عن مزيج منهما، ولكنهم يصرون مع ذلك على التعصب لصاحبهم وحزبهم وخطهم.. فهذا هو أول الداء بل هو أعظم الداء إذ كيف يمكن إصلاح البلاد والكثير أو الأكثر يتعصب لكبراء قومه رغم عجائب صنعه وفدائح جرمه!.

الإنذارات الإلهية

وتكفينا الأحاديث التالية كأعظم نذير، ويكفي التدبر فيها ولو لدقائق، ولكن بإيمان وإذعان، لكي نترك التعصب إلا للحق ولكي لا ندافع إلا عن المظلوم.

إذا تعصبّتَ لأحد خرجت من دائرة الإيمان!

1- فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ))(8).

والرِبقة بكسر الراء هي الحبل الطويل الذي يتضمن عقداً كثيرة توضع هذه العقد في أعناق صغار الانعام كالغنم وشبهها فيمسك الراعي بطرف الحبل ويوجهها كي لا تتفرق وتضيع في البيداء، فمن تعصب، فانه بحسب الرواية يخلع ربقة الإيمان من عنقه فيخرج من قيادة الرسول وأهل بيته حتى يضيع في صحاري الباطل وتيه الضلال.

والغريب ان الرواية تصرح بـ((مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ)) فليس المتعصب فقط هو الخارج عن دائرة الإيمان بل قائده أيضاً إذا علم ان تابعه قد تعصب له، ولم يردعه ردعاً أكيداً شديداً فانه خارج عن رِبقة الإيمان كذلك..

والرواية التالية أعظم وأشد فقد ورد:

وحُشِرتَ مع أعراب الجاهلية!

2- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ))(9).

فليس انه ليس بمؤمن فحسب بل هو فوق ذلك من أعراب الجاهلية وقد قال تعالى: (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَليمٌ حَكيمٌ)(10).

وهذا هو تعريف العصبية

3- عن الزهري قال: ((سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الْعَصَبِيَّةِ فَقَالَ: الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ))(11).

وهذا الحديث الثالث يمنحنا مقياساً واضحاً لمعنى العصبية المرفوضة فليست العصبية المرفوضة ان تحب قومك وأهلك وأصدقائك بل العصبية هي أولاً: ان ترى شرار قومك خيراً من خيار قوم آخرين، وهي ثانياً: (ان تعين قومك على الظلم).

والغريب ان الناس في المقياس الأول على صنفين:

فصنف: يعلم بان شرار قومه شرار وخيار قوم آخرين خيار، لكنه ينزّل شرار قومه منزلة الخيار بل يرفعهم فوق منزلة خيار قوم آخرين، فهؤلاء المتعصبون هم كأولئك الذين قال عنهم تعالى: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(12) وهم لا يجهلون واقع حالهم إذ (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقى‏ مَعاذيرَهُ)(13).

وصنف: يبلغ به الايحاء الذاتي والتلقين إلى درجة ان يتوهم السراب حقيقة حتى يرى شرار قومه خياراً بالفعل ويزيد على ذلك انه يراهم خيراً من خيار قوم آخرين.. وهنا الداهية العظمى والجهل المركب الفظيع وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله): ((كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ وَ فَسَقَ شَبَابُكُمْ وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ!! فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ!! فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً))(14).

العصبية الأخلاقية: تعصب للحق ولمكارم الأخلاق!

والحديثان الرابع والخامس الآتيان يفرغان العصبية من محتواها البغيض السلبي الباطل ويأمران الإنسان بان يجعل حشوها الخير والبركة: فإن كنت لا بد متعصباً فتعصب للحق وتعصب لإغاثة الملهوف لا للظالم أو للباطل.. وما أصعب ذلك كله.

والحديثان هما:

4- وقال الشريف الرضي: من خطبة له (لأمير المؤمنين (عليه السلام)) تسمى القاصعة: وهي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره وتركه السجود لآدم (عليه السلام) وانّه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقه: ((...فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَمَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَالْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَالْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ))(15).

5- وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إن كُنتُم لا مَحالَةَ مُتَعَصِّبينَ فتَعَصَّبوا لِنُصرَةِ الحَقِّ وإغاثَةِ المَلهوفِ))(16).

فهذه هي الخطوة الأولى الصحيحة في تقويم المسار والابتعاد عن طريق الظلمة والخروج من دائرتهم، ثم تليها خطوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والضغط السلمي والأدبي والقانوني والاجتماعي والدبلوماسي والشعبي المستمر على كل ظالم وغاشم وجائر، كي يرعوي عن باطله وينقلع عن ظلمه ويرتدع عن إثمه وعدوانه.. وللحديث صلة إن شاء الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.............................................
(1) سورة يونس: الآية 13-14.
(2) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج1 ص295.
(3) الحسن بن أبي الحسن الديلمي، أعلام الدين، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ص432.
(4) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص333.
(5) بحار الأنوار: ج44 ص381.
(6) https://www.alaraby.co.uk/economy
(7) وكالة نون الخبرية 14/5/2022 كما وسيجد القارئ الكريم الاقتباسات اللاحقة في هذا المصدر.
(8) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص307.
(9) المصدر: ص308.
(10) سورة التوبة: الآية 97.
(11) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص308.
(12) سورة النمل: الآية 14.
(13) سورة القيامة: الآية 14-15.
(14) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص59.
(15) نهج البلاغة: الخطبة 192.
(16) عبد الواحد بن محمد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم: ص69.

اضف تعليق