السياسة الجغرافية مفهوم غامض تقليديا، وهو يشتمل على استخدامات بريئة وأخرى محفوفة بالمخاطر. هذا المفهوم يروج لـحِـس المصادفة الجغرافية. لكن آخرين يرون أنه يرقى إلى الحتمية الجغرافية، مما يعني ضمنا صراعا بلا نهاية حيث الفضاء أكثر أهمية من الأفكار، والخرائط أكثر أهمية من الرجال. يكمن الخطر المصاحب...
بقلم: هارولد جيمس

برينستون ــ من الواضح أن أي أمل في أن يُـفـضـي رحيل دونالد ترمب الفوضوي عن البيت الأبيض إلى إعادة قدر متواضع من الهدوء على الأقل إلى الـعالَـم أصبح الآن مستبعدا. فقد نشأ بالفعل تهديد دولي خطير جديد والذي يتمثل في عودة "الجيوبوليتيكا" (السياسة الجغرافية) في تشكيل الأمن الدولي.

لنتأمل هنا أحداث الأشهر الستة الأخيرة. في غضون أسابيع من تنصيب الرئيس جو بايدن، دخل وزير خارجيته أنطوني بلينكن في مشاحنة غير عادية مع نظيره الصيني في اجتماع ثنائي في ألاسكا. كما تصارعت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي بشأن خط أنابيب نورد ستريم 2، وهو خط الأنابيب الذي سينقل الغاز الطبيعي الروسي مباشرة إلى ألمانيا، متجاوزا أوكرانيا (مما يضعفها بالتالي). ومن جانبه، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات أشد صرامة على الصين، مستشهدا بسياساتها في إقليم شينجيانج، وهو ما ردت عليه الصين بفرض عقوبات من جانبها.

ثم في يونيو/حزيران، استحضرت خلافات بحرية ثانوية بين روسيا وبريطانيا في البحر الأسود أوجه تشابه مع حرب القرم في خمسينيات القرن التاسع عشر. ولم يُـسـفِـر اجتماع بين بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتن عن أي تقدم يُـذكَـر في ما يتصل بتخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا. وعندما يحين موعده، من غير المرجح أن يكون أول لقاء بين بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج أكثر دفئا. الواقع أن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى تعيد تسمية ذاتها على أنها "نادي الديمقراطيات الثرية" والتي ستضع "القواعد الأساسية للطريق" لبقية العالم. ولا يهم أن دولا قوية أخرى لا تبالي بقواعد يضعها لها طرف آخر.

"السياسة الجغرافية" هي الكلمة الأكثر استخداما لوصف هذه التطورات، التي يجري تأطير أغلبها على أنها تكرارات جديدة لقضايا قديمة. يُـقـال على سبيل المثال إن روسيا تواصل التقليد السوفييتي المتمثل في استخدام صادرات الطاقة لحمل آخرين على الاعتماد عليها. وعلى هذا فإن نورد ستريم 2 يعيد صياغة صراع خاضه الرئيس رونالد ريجان حول المشاركة الألمانية في بناء خط أنابيب سوفييتي قبل أربعة عقود من الزمن. ويسميه بلينكن "المشروع الجيوسياسي الروسي لتقسيم أوروبا".

الواقع أن السياسة الجغرافية مفهوم غامض تقليديا، وهو يشتمل على استخدامات بريئة وأخرى محفوفة بالمخاطر. يرى بعض المراقبين أن هذا المفهوم يروج لـحِـس المصادفة الجغرافية. لكن آخرين يرون أنه يرقى إلى الحتمية الجغرافية، مما يعني ضمنا صراعا بلا نهاية حيث الفضاء أكثر أهمية من الأفكار، والخرائط أكثر أهمية من الرجال. يكمن الخطر المصاحب لهذا المصطلح في عدميته المتأصلة: فهو يقودنا إلى افتراض مفاده أن لا أحد من الممكن أن يهتم حقا بالقيم، لأن المصلحة العالمية وهم لا وجود له.

بعد الحرب العالمية الأولى وفشل الرؤية الألمانية الطموحة بدرجة خطيرة لـ"السياسة العالمية" في عهد القيصر فيلهلم الثاني، نشأت الحاجة إلى مصطلح جديد. وقد زودنا به كارل هوشوفر، الضابط والـمُـنَـظِّـر الاستراتيجي في أكاديمية ميونيخ العسكرية، والذي كان متأثرا بشدة بفترة وجيزة نسبيا قضاها كملحق عسكري في طوكيو. صاغ السياسي السويدي يوهان رودولف كيلين مصطلح "السياسة الجغرافية" في عام 1900، وتبناه هوشوفر بكل ابتهاج وتلذذ.

كان هوشوفر أول من خَـلَـطَ الجغرافيا بالصراع الضروري، لتتحول بذلك كل السياسة الدولية إلى صراع مرير لكنه حتمي ومحصلته صِـفر بين من يملكون ومن لا يملكون. كان يتصور أن مهمته تتمثل في إنشاء عِـلم سياسي جديد ــ "علم هيئة الحياة السياسية في مساحة طبيعة للحياة". كانت السياسة الجغرافية عبارة عن عقيدة "الترابط الأرضي للعمليات السياسية"، ويجب في النهاية أن "تصبح ضمير الدولة".

ابتداء من عشرينيات القرن العشرين، اكتسب هوشوفر بسرعة المعجبين من العناصر المهمشة في النظام الدولي. ولعل أدولف هتلر تأثر بِـفِـكـرِه؛ فقد أملى كتابه "كفاحي" من خلال رودلف هِس، حواري هوشوفر. ومن المؤكد أن كارل راديك، سكرتير الكومنتيرن (منظمة عالمية أسست في موسكو لتوحيد المجموعات الشيوعية من مختلف أنحاء العالم)، انبهر به (وكان هناك حتى مجلة سوفييتية عن السياسة الجغرافية). ومنذ ذلك الحين، عاد الـفِـكر الجيوسياسي بقوة إلى السياسة الروسية، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي المهين. كما كان هوشوفر من الشخصيات التي تبنى فِـكرها بحماس ألكسندر دوجين، المحلل الاستراتيجي شبه الفاشي الذي يُـعـتَـقَـد على نطاق واسع أنه أثَّـرَ على نظرة بوتن للعالم.

لا يخلو هذا الأمر من نمط شائع: تميل السياسة الجغرافية إلى أن تكون المصطلح المفضل لدى الخاسرين تاريخيا الذين يريدون إضفاء لمسة هازئة على جهودهم الرامية إلى تفكيك مشروع فكري منتصر.

لم يكن هذا ما قصدته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في عام 2019، عندما أعلنت أنها ستقود "مفوضية جيوسياسية". كان المقصود من إعلانها تمييز المفوضية الجديدة عن المفوضية "السياسية" التي كانت لا تتورع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبدا المصطلح وكأنه يشير إلى أن أوروبا ستتعامل بشكل علني صريح مع الآخرين. وفي عالَـم تحكمه العولمة، تصور العديد من الأوروبيين أن أوروبا تحتاج بوضوح إلى صوت قوي، وكانوا متعاطفين مع حجة مفادها أن حتى البلدان الأعضاء الكبيرة مثل فرنسا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، من غير الممكن أن تكون مؤثرة بمفردها.

لكن في ظل الظروف الحالية، تبدو المواقف الجيوسياسية مرة أخرى أشبه بمحاولة للتعويض عن العجز. والآن تعود الأعراض السيئة المرتبطة بالسياسة الجغرافية القديمة إلى الظهور وتعيق الحلول لمشكلات عالمية مثل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، التي لن تنتهي قبل أن يشمل التطعيم الجميع.

إن استخدام مصطلح "السياسة الجغرافية" بطريقة مشوشة مختلطة لا يحقق أي شيء، لأن استحضار المصطلح ليس بديلا للمناقشات الموضوعية وبث التفسيرات المتضاربة. ولن يساعد التفكير في اشتباكات القوى العظمى، أو الجدال حول من يكون المنافق الأكبر، في حل الخلافات الدولية أو المشكلات المشتركة. الطريقة الوحيدة للقيام بهذا تتلخص في التركيز على ما يستلزمه حقا إنجاز الأهداف المشتركة.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك للكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق