إن واحدة من أهم ملامح التطور في الجانب الدبلوماسي هو ما أصبح يعرف بدبلوماسية المسار الثاني والتي تعد تطوراً مباشراً للدبلوماسية الشعبية، الذي برز بشكل واضح في الدراسات الدولية خلال الحرب العالمية الأولى، لتتعامل مع ماتفرزه الأوساط الشعبية من مواقف وسلوكيات تجاه القضايا والتحديات الدولية. وكذلك للمساهمة في دعم بيئة القرار الخارجي بكسب رضا الشعوب وإقناعهم بالمواقف الدبلوماسية الرسمية، ومن ثم أصبحت الدبلوماسية الشعبية محاولة لإقناع الرأي العام بمواقف دولهم أو لتسهيل الوصول إلى قرارات معينة تتصل بمصالح دولهم.

ولأن المصالح عادةً ماتبرز سياسات قد تتعارض مع الرأي العام أو المواقف الشعبية فإن التفكير بمقاربات جديدة لتحقيق الأهداف الحيوية للدولة أصبح واحداً من أهم سمات الدبلوماسية العامة كما يسميها الأتراك، أو دبلوماسية المسار الثاني كما تطلق عليها ذلك معظم الكتابات الدبلوماسية المتخصصة بهذا الجانب، إذ أن هذا النوع من المسارات الدبلوماسية قادر على تحقيق أنموذج متكامل من التأثير المستدام عبر توفير البيانات وتعزيز الروابط المشتركة من خلال الإقناع المتبادل. إذ أنه يساهم في إعادة تقييم الأولويات الإستراتيجية للدول من خلال برنامج مشترك يفسر الرغبة في التعاون ويحدد مايمكن القيام به من خيارات من خلال التواصل المشترك المدعوم من قبل الحكومات في كثير من الأحيان.

إنتقل هذا المفهوم إلى دوائر وزارة الخارجية بشكل واضح بعد أن أصبح من الصعب تأمين تحقيق الأهداف الحيوية بالوسائل العسكرية أو لتعذر تحقيقها بشكل رسمي من خلال دوائر وزارة الخارجية وسفاراتها، وعليه أصبح الحديث اليوم يدور حول الممكنات الشعبية أو غير الرسمية كمراكز الأبحاث والمؤسسات الإنسانية والتنموية القادرة على تحقيق الإقناع بشكل غير مباشر لصناع السياسة الخارجية.

متطلبات دبلوماسية المسار الثاني

تتطلب دبلوماسية المسار الثاني مقدرة عالية من قبل الدبلوماسيين على توظيف بعض المؤسسات لأداء دور دبلوماسي يمكن من خلالها دعم المهام الملقاة على البعثة الدبلوماسية أو توجهات صناع القرار في وزارة الخارجية، وهذا الأمر من الناحية التطبيقية يعد في غاية التعقيد فقد عملت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) التابعة لحكومة الولايات المتحدة الفيدرالية والمسؤولة في المقام الأول عن إدارة المساعدات الخارجية المقدمة للمدنيين في هذا الجانب، والتي تم إسنادها من قبل أساتذة في الإقتصاد والعلاقات الدولية ضمن البعثات الدبلوماسية من أجل تطوير عنصر التواصل والتفاهم بين الأداء السياسي الخارجي والرأي العام الشعبي في معظم مناطق العالم.

إلى جانب ذلك ساهمت مؤسسة تيكا التابعة إلى الحكومة التركية على تنفيذ برامج مهمة في العراق وسوريا هدفها بالدرجة الأولى تبريز الدور التركي الإيجابي في هذه المناطق، إذ عملت تيكا على دعم مركز القرار ببيانات مهمة حول أهم المناطق التي يمكن التعامل معها بغية تحقيق رأي عام أو قبول في الأوساط الشعبية، ولعلها قد حققت جزءاً كبيراً من ذلك لولا بعض التصريحات التي يقدمها بعض المسؤولين الأتراك للإعلام والتي تفقد من جاذبية الدور التركي في هذا الشأن.

إن مدى إستقلالية هذه التشكيلات عن وزارة الخارجية وإن كان في الجانب الفني يساهم في التمكن من تعزيز الدور الذي تقوم به، فدبلوماسية المسار الثاني بحاجة إلى وقت أكبر من حيث المقارنة مع الدبلوماسية الرسمية إلا أنها تستطيع تحقيق نتائج قد تعجز عنها الدبلوماسية الرسمية للدولة الأمر الذي يجعلها أكثر تعقيداً وصعوبة.

دبلوماسية المسار الثاني.. الأدوار والنتائج

إن من أهم نتائج دبلوماسية المسار الثاني هو بلوغ الأهداف الحيوية التي تعجز الدبلوماسية الرسمية عن تحقيقها بالوسائل المعروفة في وزارة الخارجية، وهذا مايزيد من أهميتها وتكوين المقاربات المختلفة من أجل صياغتها بشكل ينسجم مع المبادئ الإستراتيجية للدولة، فهو لا يتعارض مع العقيدة الإستراتيجية للدولة إن تم صياغة دورها بشكل واضح وتم تعيين متخصصين في العلاقات الدولية وإدارة الأزمات لإدارة الملفات الرئيسة فيها.

ترتبط الآليات التي تعتمدها دبلوماسية المسار الثاني بطريقة التوظيف الممكنة للدولة والجهة التي يتم التعامل معها، فالولايات المتحدة الأمريكية تعتمد جماعات الضغط وشركات الرأي العام ومراكز الأبحاث للتأثير بإتجاهين مختلفين أحدهما تجاه الحكومة والآخر تجاه القضايا التي تتطلب تأمين مسار دبلوماسي معين في هذا الشأن. وكذلك الحال بالنسبة إلى بعض المؤسسات التنموية والبحثية في إيران والتي تعمل على تعزيز التوجه الفكري لإيران تجاه مناطق النفوذ المستهدفة.

إن فاعلية دبلوماسية المسار الثاني هي التي يمكن من خلالها تأمين تنفيذ أهداف السياسة الخارجية بشكل يوفر مرونة أكبر على تحقيق الأهداف مع الإحتفاظ بديمومتها، بعكس ماتفرزه الدبلوماسية الرسمية والتي قد تتأثر بأي تحول في السلوك السياسي الخارجي. وعليه فإن ضمان الإستمرارية والنتائج المقصودة يرتبط إلى حد كبير بهذا الأنموذج من التفاعل مع العالم الخارجي.

ويبقى جميع ذلك مرتهن بما يمكن تحقيقه من تنسيق في الأهداف والبرامج بين الدور الرسمي وغير الرسمي، إذ يجب أن تلتقي هذه الأدوار في إستراتيجية تنسيقية قادرة على تأمين الإنسجام بينهما.

إن الإستفادة من هذه التجارب يمكن من خلالها تجاوز التحديات المفروضة على الأمن الوطني العراقي مع الجوار الإقليمي، فعملية نقل التأثير بإتجاه مراكز الأبحاث والمؤسسات التنموية والتجارية سيكون لها تأثير كبير على الكيفية التي يتم التعامل بها مع العراق خصوصاً في ظل عدم وجود مؤسسات إعلامية قادرة على التأثير بطريقة تعكس المصالح الوطنية والمصالح المشتركة في هذا المجال. وعليه ستكون دبلوماسية المسار الثاني هي الأكثر قرباً في تحقيق الأهداف المشتركة وتقييد السلوك العدواني في هذا الجانب.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق