احترام الهويات الفرعية والثقافات المتنوعة من شأنه إثراء الحياة على هذا الكوكب وانه بتضافر هذه الثقافات تزدهر الحضارات ويتم تأكيد الخصوصية بما يسمح للفرد بالابتكار والتجدد ويعزز التعايش السلمي وتحد من اللجوء إلى العنف، بل ستقوض الأسباب التي تحدو بالبعض إلى حمل السلاح أو التنازع لتأكيد الهوية...

تؤكد طبيعة الحياة على كوكب الأرض ان التنوع سنة من سنن الله في الخلق، ولن يخرج الإنسان عن هذه القاعدة إذ يفترض فيه التنوع وهذا ما أثبته القرآن الكريم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فالتعدد الثقافي والتنوع أمر طبيعي فهنالك الثقافات الشرقية والغربية وعلى المستوى المحلي تكاد لا تخلو دولة من الدول من وجود الأقليات العرقية والأثنية واللغوية حيث تحمل كل منها ثقافة تمتاز عما سواها وتحرص على تنشئة الأجيال على هداها بما يحقق الترابط بين الحاضر والماضي ويوثق صلة الأبناء بما خطه الأجداد المؤسسون، وتأكيدا لما تقدم مضت الأمم المتحدة في وضع القواعد القانونية المؤكدة للحق في التنوع سواء في الصفات المكتسبة أو الوراثية إذ صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في دورتها المتتالية العديد من الاتفاقيات والإعلانات الخاصة بالتنوع الثقافي وصيانة نذكر منها.

الاتفاقيات:

1- 2005 - اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التنوع الثقافي.

2- 2003 - اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي.

3- 2001 - اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه.

4- 1972 - اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي.

5- 1970 - اتفاقية بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر و منع استيراد و تصدير و نقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة.

6- 1954 - اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح.

7- 1952 - الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف.

8- 1950 - اتفاق بشأن استيراد المواد التربوية و العلمية و الثقافية ("اتفاق فلورنسا") وبروتوكول نيروبي الملحق به في عام 1976.

الإعلانات:

1- 2001 - إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي.

2- 1978 - إعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري.

3- 1966 - إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي.

وصدر إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفق ميثاق الأمم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة الذي يحمل الرقم (2625 في 24 تشرين الأول 1970) حيث أجب على الدول بمختلف أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضرورة تعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية على نحو من المساواة بين الجميع في المستوى الوطني والدولي على حد سواء وأهمية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري والتعصب الديني، بعدها تم اعتماد برنامج عالمي للحوار بين الحضارات بموجب القرار رقم (56/6 في 9 تشرين الثاني 2001)، وصولاً إلى المؤتمر العالمي الخاص بمناهضة العنصرية والتمييز وكراهية الأجانب المنعقد في مدينة ديربان في جنوب أفريقيا 2001، ومؤتمر استعراض ديربان المنعقد في جنييف 2009، وما تقدم نستطيع ان نستشف منه المبادئ الآتية:

1- إن جميع حقوق الإنسان فطرية وذات طابع عالمي.

2- إن الحقوق والحريات متشابكة ومترابطة ولا تقبل الانفكاك أو التجزئة والتبعيض.

3- يقع واجبا على الدولة والمجتمع الدولي عامة بالتعامل مع الحقوق والحريات على نحو من المساواة التامة بين الجميع والأنصاف والتكافؤ.

4- أهمية مراعاة الخصوصية لبعض الفئات العرقية أو الأثنية أو اللغوية والإقرار لها بذلك بما يمكن أفرادها من تلقي التعليم الخاص بثقافتهم وتعزيزها.

5- إن التعدد الثقافي واحترام كل الثقافات وصونها وإقامة حوار حضاري بينها يسهم في إثراء البشرية وتحقق السلام الدائم.

6- إن التعدد الثقافي يعد نقطة قوة للدولة ويسهم في تحقيق مقاصد التنمية البشرية الشاملة على جميع الأصعدة.

7- إن العولمة التي يعيشها العالم منذ القرن الماضي ينبغي ان ترشد وتبنى على أسس إنسانية بحتة لمنع الاعتداء على الثقافات والهويات الفرعية ومحاولة التأثير فيها سلبا أو طمس معالمها بأي شكل من الأشكال.

فمما لاشك فيه ان احترام الهويات الفرعية والثقافات المتنوعة في داخل الدولة وعلى صعيد الدول جميعاً من شأنه إثراء الحياة على هذا الكوكب وانه بتضافر هذه الثقافات تزدهر الحضارات ويتم تأكيد الخصوصية بما يسمح للفرد بالابتكار والتجدد ويعزز التعايش السلمي وتحد من اللجوء إلى العنف، بل هي ستقوض الأسباب التي تحدو بالبعض إلى حمل السلاح أو التنازع لتأكيد الهوية، وان التمييز على مستوى الأديان والمذاهب سلوك ولا شك غير إنساني ومضر بما يفرزه من نتائج غاية بالخطورة لهذا لابد من التركيز على المشتركات بين جميع الثقافات والأديان والمذاهب والعمل على التقريب وتنشئة الأجيال القادمة وفق ثقافة التعايش مع الآخر المختلف، وتجدر الإشارة إلى ان الشعوب الأصلية في بعض البلدان لها خصوصيتها الثقافية لذا لابد من السماح لها بحق تقرير المصير الثقافي والذي يعني قدرتها على إنتاج الثقافة الخاصة بها واستمرار ثقافتها الموروثة وبهذا يقع واجباً على الدولة ان تسمح لها بتأسيس مدارس خاصة لتعليم الأطفال والاحتفاء بتراثها الثقافي في أيام محددة من السنة كالتأسيس ليوم للاحتفال بالزي التقليدي أو الأعراف التقليدية أو الفلكلور التقليدي وما شاكل ذلك على ان يكون احتفاءً عاماً بصيغة الكرنفالات والاحتفالات العامة.

ويتفرع عما تقدم ان نبين بعض تطبيقات الحق في تقرير المصير الثقافي ووسائل ذلك:

أولاً: أهم وسيلة لتقرير المصير الثقافي هي الاستفتاء العام والذي يعرف بأنه وسيلة قانونية من خلالها يتم تقصي إرادة الناخبين بشأن معين قد يكون سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو قانونياً كالاستفتاء على الدستور أو على الانفصال من الدولة وتأسيس دولة مستقلة وما شاكل ذلك وقد عرف الدستور العراقي للعام 2005 أحد صور الاستفتاء الثقافي بما ورد في المادة الرابعة التي أشارت إلى ان "اللغة العربية والكردية لغتان رسميتان... رابعاً: اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية، خامساً لكل إقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى، لغة رسمية إضافية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك في استفتاء عام" ويبدو لي ان النص الدستوري المتقدم غير كافٍ فكان الأولى الإقرار بالحقوق الثقافية جميعاً بنص دستوري واضح وشامل يمنح الأقليات الحق بتنظيم استفتاءات محلية في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها أغلبية لاختيار تسمية المدن والشوارع والاحياء السكنية وتحديد الحدود الإدارية وطريقة وأيام ممارستهم لحرياتهم الدينية والاجتماعية.

فمن المعلوم ان بعض الطوائف تختار يوم الأحد لأداء صلواتها وعباداتها وممارسة شعائرها الدينية ما يتطلب تفريغ الموظفين منهم من العمل في الدوائر الرسمية والمعامل وغيرها لذلك اليوم مثلاً وبالتالي يمكن ان يكون عمل الدوائر الرسمية وغير الرسمية مختلف من محافظة إلى أخرى أو من مدينة لأخرى تقديساً للحق في الخصوصية الثقافية، لاسيما ان علمنا ان المادة الثانية عشر من الدستور أشارت إلى "صدور قانون ينظم أيام العطل الرسمية والمناسبات الدينية والوطنية والتقويم الهجري والميلادي" والنص المتقدم يحمل إيجابية تتمثل بالتنوع الممكن إقراره كمناسبات وطنية ودينية إلا أنها تستصعب على الإحصاء فلابد من منح الأقليات العراقية الحق في الاستفتاء على المناسبات الخاصة بها بيد ان من الواجب ان تمنح هذه الأقليات الحق بإقرار تقويم خاص بها فمن المعروف ان البعض لديه خصوصية اعتبار التقويم الشمسي أو القمري وما شاكل.

ثانياً: تأسيس مؤسسات رسمية وأخرى غير حكومية لتسهم في إغناء الثقافات وتأكيد خصوصيتها فقد أورد الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة الخامسة والثلاثون ما نصه "ترعى الدولة النشاطات والمؤسسات الثقافية بما يتناسب مع تاريخ العراق الحضاري والثقافي وتحرص على اعتماد توجهات ثقافية عراقية أصيلة" والنص بغاية الوضوح فهو يلقي على كاهل الدولة واجب عام برعاية الأنشطة الثقافية والمؤسسات القائمة بها إلا ان الواقع يقول ان الكثير من المواسم الثقافية مهملة حكومياً والعديد من الثقافات العراقية مهددة بالانقراض فأصالة الثقافة العراقية بكل تنوعاتها تمثل فسيفساء جميلة، وأضافت المادة الخامسة والعشرون بعد المائة انه "يضمن هذا الدستور الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان والكلدان والاشوريين وسائر المكونات الأخرى، وينظم ذلك بقانون" وبهذا نجد التأسيس الرسمي لمؤسسات ثقافية تمثل ثقافات فرعية عراقية تتميز بالأصالة ومن واجب الدولة صيانتها والمحافظة عليها وإدامة تواصل أبناءها مع القيم الروحية والمعنوية التي تربوا عليها.

ثالثاً: الحماية الرسمية للحق بالتنوع الثقافي، إذ تنص المادة السابعة والثلاثون في البند ثالثاً "تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني" وتضيف المادة (41) أنه "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون" وأضافت المادة الـ(43) أن "اتباع كل دين أو مذهب أحرار في: أ- ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية. ب- إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون،...".

والنصوص المتقدمة بغاية الوضوح إذ إنها تلزم الدولة بضرورة احترام التنوع الديني والذي يعد نمط من أنماط التعدد الثقافي، ومنع كل سلوك على المستوى الفردي أو الجمعي يناهض التعددية المقصودة أو يصادر الحق في التنوع الثقافي كالأحزاب القائمة على أيدلوجيات عنصرية أو الجماعات المسلحة الأيدلوجية وغيرها، وعلى الدولة ان لا تكتفي بحظر هذه الجماعات والأفكار فحسب بل يقع واجباً عليها منع الأفكار السلبية بكل الوسائل والأعمال المخالفة للمبدأ المتقدم ان وقعت، والذاكرة العراقية تحدثنا عما فعلته العصابات المجرمة بحق الثقافات في شمال العراق من تدمير للمواقع الثقافية والتراثية والعبادية ومن مصادرة للحق في الحياة الحرة.

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق