أحيا مسلمو البوسنة السبت ذكرى الإبادة التي شهدتها مدينة سريبرينيتسا قبل 25 عاما وكانت أسوأ مجزرة تقع على أرض أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، وبسبب إجراءات الحد من انتشار الوباء، ينتظر المنظمون حضورا أقل مما يجري عادة في هذه المناسبة التي يشارك فيها كل سنة عشرات الآلاف من الأشخاص...

أحيا البوسنيون الذكرى الخامسة والعشرين لمذبحة سريبرينتشا التي راح ضحيتها نحو 8000 رجل وصبي مسلم والتي صدمت العالم باعتبارها جريمة الإبادة الجماعية الوحيدة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. بحسب رويترز.

ووقفت العائلات المكلومة أمام نعوش ملفوفة باللون الأخضر لتسع ضحايا تم التعرف على رفاتهم حديثا وسيتم دفنها في مقبرة بالقرب من البلدة، حيث تشير شواهد القبور البيضاء الطويلة إلى مقابر 6643 ضحية أخرى، ولا يزال نحو 1000 من ضحايا المذبحة في عداد المفقودين بهذه البلدة التي شهدت واحدة من أفظع أحداث حرب البوسنة التي دارت رحاها بين عامي 1992 و1995.

وخاطب قادة العالم احتفالية رسمية بهذه الذكرى عبر رابط فيديو بعد أن منعهم تفشي وباء فيروس كورونا من الحضور. وبدلا من عشرات الألوف من الزوار الذين يحضرون عادة هذا الاحتفال السنوي، جاء بضعة آلاف فقط بعد أن حظر المنظمون الزيارات المنظمة.

وخلال المناسبة، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ”نشعر بالحزن مع العائلات التي تسعى بلا كلل لتحقيق العدالة لثمانية آلاف روح بريئة أُزهقت، بعد كل هذه السنوات“. وكانت واشنطن توسطت في اتفاق السلام البوسني بعد شهور من هذه المذبحة.

مسلمو البوسنة بعد ربع قرن على مجزرة سريبرينيتسا

وقالت سهاد حسانوفيتش (27 عاما) التي لم تمنعها إجراءات الحجر من القدوم إلى المركز، باكية "لدي ابنة في السنة الثانية من العمر، وهو سني عندما وقعت المجزرة. إنه امر صعب أن تسمع شخصا ينادي والده وأنت ليس لديك اب".

وأوضحت أن والدها سيمسو "ذهب إلى الغابة ولم يعد. لم يعثر سوى على بضع عظام له". ومثل شقيقه شفيق ووالده سيفكو، قتل سيمسو عندما دخلت قوات صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش إلى جيب سريبرينيتسا وقتلت فيه الرجال والفتية.

أما إيفيتا حسانوفيتش (48 عاما) فقالت "أزواج أخواتي الأربع قتلوا. شقيقي قتل وابنه أيضا. حماتي فقدت ابنا آخر وكذلك زوجها"، وسيدفن زوجها مع ثمانية أشخاص آخرين تم التعرف على رفاتهم منذ تموز/يوليو 2019 بعيد ظهر السبت في مقبرة مركز نصب الإبادة في قرية بوتوتشاري القريبة من سريبرينيتسا وكانت تضم خلال الحرب في البوسنة (1992-1995) قاعدة قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة.

وكانت قوات صرب البوسنة سيطرت على سريبرينيتسا التي أعلنتها الأمم المتحدة "منطقة آمنة" في 11 تموز/يوليو 1995 قبل خمسة أشهر من انتهاء الحرب، وقامت خلال أيام بقتل أكثر من ثمانية آلاف رجل وفتى من مسلمي البوسنة.

وحكم القضاء الدولي على القائدين السياسي والعسكري لصرب البوسنة حينذاك رادوفان كرادجيتش وراتكو ملاديتش، بالسجن مدى الحياة، خصوصا لمجرزة سريبرينيتسا وحصار ساراييفو، وحتى اليوم عثر على رفات نحو 6900 من ضحايا المجزرة في أكثر من ثمانين حفرة جماعية وتم التعرف على هوياتهم. ويرقد معظمهم في مركز النصب.

مكافحة الإنكار

ومجزرة سريبرينيتسا هي الفصل الوحيد في النزاع البوسني الذي قتل فيه مئة ألف شخص، الذي اعتبره القضاء الدولي إبادة. لكن القادة السياسيين لصرب البوسنة يقللون من خطورته، ويرفض العضو الصربي في الرئاسة الجماعية للبوسنة ميلوراد دوديك صفة "الإبادة" ويتحدث عن "أسطورة".

وقال العضو البوسني المسلم في الرئاسة البوسنية شفيق جافيروفيتش الجمعة "نصرّ بلا تهاون على الحقيقة، على العدالة وعلى ضرورة محاكمة كل الذين ارتكبوا هذه الجريمة"، وأضاف جافيروفيتش خلال حضوره صلاة جماعية في مركز النصب التذكاري "سنكافح كل الذين ينكرون الإبادة ويمجدون مرتكبيها".

أما رئيس بلدية سريبرينيتسا الصربي ملادن غريسيتش فقد أكد أن "هناك كل يوم أدلة جديدة تنفي العرض الحالي لما حدث" في المدينة، ونظرا لصعوبة استقبال حشود كبيرة في النصب في يوم واحد، دعا المنظمون الناس إلى زيارة المركز طوال تموز/يوليو.

وتنظم أيضا معارض عدة وخصوصا واحد لأعمال الرسام البوسني سافيت زيك التي كرسها للمجزرة، وهناك معرض آخر عنوانه "لماذا لست هنا؟" للفنانة الأميركية البوسنية الأصل عايدة سيهوفيتس ويضم ثمانية آلاف فنجان قهوة وهو عدد ضحايا المجزرة، وضعت على المرج الأخضر أمام المركز.

وقالت الفنانة لوكالة فرانس برس "حتى الآن لم نجب على السؤال: لماذا ليسوا هنا؟". وأضافت "كيف حدث ذلك في قلب أوروبا، في منطقة تحميها الأمم المتحدة، أن يقتل ناس بهذه الطريقة الرهيبة؟ هذا إذا لم نتحدث عن الإبادة التي ما زال يتم إنكارها".

معاناة أرامل سريبرينيتسا بعد ربع قرن على المجزرة

تتلو فاطمة مويتش أدعية مرات عدة كل يوم على أبنائها وزوجها الذين قتلوا في الإبادة في سريبرينيتسا بشرق البوسنة، لكنها تتردد في كل مرة وهي تفكر في رفيق، ابنها البكر الذي لم يعثر عليه بعد 25 عاما على المجزرة. بحسب فرانس برس.

تروي هذه الأرملة لوكالة فرانس برس "ما زلت أعتقد أنه حي في مكان ما. أعرف ما حدث لأبنائي الآخرين، لكن عندما أصلي من أجله ترتعش يداي ولا أعرف ماذا علي أن أفعل"، ودفن اثنان من أبنائها الثلاثة وزوجها بعدما عثر على رفاتهم في حفرة مشتركة بعد الحرب، في مقبرة عند نصب قريب من سريبرينيتسا يرقد فيه حتى اليوم 6643 من ضحايا المجزرة التي وقعت في تموز/يوليو 1995.

وقتلت قوات صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش الذي حكم عليه القضاء الدولي بالسجن مدى الحياة، حينذاك ثمانية آلاف رجل وفتى بوسني مسلم، وحدثت هذه المجزرة قبل خمسة أشهر من نزاع بين المجموعات أسفر عن سقوط مئة ألف قتيل بين 1992 و1995. وقد اعتبرها القضاء الدولي إبادة.

ودفن 237 من الضحايا الآخرين في مناطق مختلفة من البوسنة، بينما ما زال البحث جار عن ألف شخص، تقيم فاطمة مويتش (75 عاما) اليوم في لييسيفو، القرية القريبة من ساراييفو. وهي تؤكد أنها تريد "العيش من أجل الاتصال" الذي سيبلغها بالعثور على رفات رفيق. كان عمره 25 عاما وكان لديه ابنة في شهرها الثامن عشر وطفل في اليوم الأربعين من عمره، لكن اكتشفت آخر المقابر الجماعية ال84 الكبرى في 2010.

منذ تموز/يوليو 2019 "عثر على بقايا 13 ضحية فقط"، كما تقول إيمزا فضليتش الناطقة باسم معهد البحث عن المفقودين. وهي تدين "نقص المعلومات" التي يمكن أن تسمح بالعثور على رفات أشخاص مفقودين.

مع اقتراب الذكرى الخامسة والعشرين للمجزرة، تتذكر فاطمة "معركتها" أمام قاعدة قوات الأمم المتحدة في بوتوتشاري بالقرب من سريبرينيتسا حيث يقع النصب اليوم، من أجل إنقاذ ابنها نوفيك الذي كان في السادسة عشرة من عمره.

وكان آلاف من النساء والأطفال والمسنين تجمعوا هناك في الحادي عشر من تموز/يوليو 1995 على أمل أن يحميهم الجنود الهولنديون، وكان الجنود الصرب يفصلون الرجال والفتية عن الآخرين ويقتادونهم لإعدامهم.

وتروي فاطمة أن نوفيك "تمسك بي وقال لي +لا تتركيني يا أمي+. مسدت شعره الأشعث وقلت له +لن أتركك+. لكنهم أخذوه وتبعتهم. لا أعرف ما إذا كانوا قاموا بضربي، لم أعد أتذكر شيئا"، وأسر ابناها الآخران وزوجها بعدما فروا إلى التلال الحراجية.

قررت الأرملة ميرا ديوغاز (71 عاما) أن تمضي ما تبقى من أيامها في المكان "الذي توقفت فيه" حياتها قبل ربع قرن، وهي تسكن في بيت قريب من النصب. كل صباح تروي الورود في باحة المنزل وهي تنظر إلى الشواهد البيضاء. هناك، يرقد ابناها عمر ومنيب اللذان قتلا في المجزرة، وكانا يبلغان من العمر 19 و21 عاما على التوالي.

وتقول "لم يعد لدي سبب للعيش. أهتم بالورود حتى لا أغرق في الجنون، لكن ورودي مزروعة في أرض سوداء". أما ابنها الثالث زهدي وزوجها مصطفى فقد قتلا قبل ثلاثة أعوام على ذلك، خلال حصار سريبرينيتسا في 1992.

وتضيف "أولادي لم يؤذوا أحدا ولم يقطعوا الطريق على نملة. أتساءل فقط لماذا قتل أطفالي؟ كانوا جيرانا لنا"، في إشارة إلى العسكريين الصرب الذين كانوا يعيشون في قريتها، وتتساءل رامزة غورديتس (67 عاما) أيضا... "من هم هؤلاء الرجال الذين قاموا بقتل ابني الاثنين وزوجي.. هل لديهم أبناء؟ ماذا تشبه أرواحهم؟".

كان مهر الدين في السابعة عشرة من العمر ومصطفى في العشرين. وقد فرّا مع والدهما إلى الغابة. كان مصطفى يخشى الأسوأ. وتقول رامزة "كان الانفصال صعبا وكان البكر يضع في فمه سيكارة ويقوم بلف أخرى. قال لي +لن أراك بعد اليوم يا أمي+. أما الصغير فلم يقل شيئا"، عثر على رفاتهما، لكن "نصف مهر الدين فقط". وتقول إنها ما زالت تأمل في العثور على النصف الآخر، موضحة "لم تضعه أمه بلا رأس وبلا ذراعين. كان طفلا جميلا"، وهي تؤكد أنها "ليست حاقدة" على قتلته. وتضيف "ليعطهم الله ما يستحقونه (...) لا كراهية ولا خبث، لكن لا مصالحة أيضا".

اضف تعليق