تعد قضية تهجير مئات الآلاف من ابناء الشعب العراقي التي قام بها نظام صدام في أوائل الثمانينات، من القضايا المهمة على الصعيدين الاجتماعي والانساني، حيث تم تنفيذها بأبشع الطرق التي تُنافي الضمير الإنساني، وقد تم تهجير عوائل كاملة وأفرادا شردوا من ديارهم، وأُهدرَت كرامتهم وسُلبت اموالهم وممتلكاتهم، بعد ان مورس بحقهم شتى انواع التعذيب النفسي والجسدي، بما في ذلك التفريق بين افراد العائلة الواحدة، حيث تم الفريق بين الزوج وزوجته والطفل وابويه، وسفّرت قسماً من العائلة وتركوا القسم الاخر رهناً للاعتقال في سجون نظام البعث المظلمة، ومارسوا بحق المهجرين واقاربهم ومن يمتّ لهم بصلة قربى، ألواناً اخرى من التعذيب الجسدي كالضرب والاهانات والشتائم، والاعتداء على الاموال والاعراض والانفس، وفقد الآلاف من الشباب الذين فرقوا عن عوائلهم ولم يعثر آثار اكثرهم بعد اكثر من ثلاثين عاما، منتهكين بذلك جميع القوانين والاعراف الاسلامية والدولية .

وكانت لـ[شبكة النبأ المعلوماتية] هذه الجولة الحوارية مع عدد ممن تعرضوا للتسفير وذاقوا ويلاته:

اخوة بعمر الورد

- السيدة ( أ . جادري) واحدة من الذين تلقوا التعذيب النفسي اكثر من التعذيب الجسدي في قضية التسفير، حيث قالت في هذا الشأن: " نحن عراقيون بلا هوية "، ليست هذه رواية او قصة من نسج الخيال وإنما حوادث مرّت علينا وعشناها بكل مرارة . كان اول يوم للدوام المدرسي بعد عطلة نصف السنة وكنت متشوقة ومُتلهفة لرؤية صديقاتي وإستلام الشهادة المدرسية لامتحانات نصف السنة، حيث كنت في الصف الاول متوسط وانتظرت ذلك الصباح منذ 15 يوماً ولكن شاءت الاقدار ان يكون صباحاً رمادياً بلون الهم، لاستقبال موجة من الآلام والمُعاناة، كان ذلك في (الخامس عشر من شهر شباط لعام ١٩٨٢م) عام واحد بين سنين الظلم والعذاب التي مرت وولت وليتها لم تعد، لكنها تركت جراحاً من الوجع في قلوبنا، ستظل تنزف دمعاً ودماً الى آخر العمر. حُكِمَ علينا بالتسفير والتهجير بعد ان مرت سنتان على تاريخ اعتقال اخوتي حيث اعتقلوا عام (١٩٨٠م) [ماجد في المرحلة الثانية/ كلية الهندسة جامعة بغداد/ فرع نفط ومعادن، والثاني مازن في المرحلة الاولى/كلية الهندسة فرع كهرباء]، سنتين قضيناها بين الخيبة والامل ونحن نبحث عن خبر او ذكر لكليهما أو أحدهما، ولكن دون جدوى، وقد قضينا هاتين السنتين بالوحدة والغربة، حيث قاطعنا الغريب والصديق خوفاً على نفسه من السجن والتنكيل، وبينما نحن ننتظر الفرج جاءنا العقاب الصدامي بالخروج من البيت الذي (ملكناه بقلوبنا وذكرياتنا)، وجرى علينا ماجرى من الاهانات والمعاناة، حتى وصلنا الى بوابة السجن الكبيرة الذي كان مقره (وراء السدة) ويسمى بسجن التسفيرات، وهو عبارة عن ملعب كبير بجدران عالية محاط بأسوار شائكة، بمنطقة الشعب ويحوي ثلاث قاعات وساحة، وكان السقف من (الچينكو) ويبعد عن سطح الجدران بمترين او اكثر، وهذا مايزيد من برودة الجو ودخول المطر على المسجونين والارضية سوداء داكنة بسبب المياه الآسنة، وكانت فتحة صغيرة مربعة بقطر (١٢٠سم) مشبكة نطلب من خلالها ما نحتاجه، او عندما يوجهون لنا نداءً ما، في كل قاعة ٣ حمامات وكان كاشي الحمام محفّراً كلما نضع قدم يتطافر الماء من هنا وهناك، والماء بارد وضعيف.

وتضيف "جادري"، اما الاكل فكان وجبتين فقط، الافطار عبارة عن شوربة عدس رديئة للغاية، احياناً تكون نيئة واحياناً مالحة او بدون ملح نهائياً، لكل شخص مغرفة (چمچة) واحدة اذا كان عنده إناء او علبة يغترف فيها واذا لم يمتلكها فتُحذف وجبته، وتكون هذه الوجبة مع (صمونة) وشاي من النوع الرديء فاقد للطعم والرائحة ويباع بأعلى الاثمان، اما الغداء فيكون من الرز المخلوط بالماش، او بيض مسلوق او بطاطا مسلوقة، وكنا نقف في طابور واحد عدد المسفرين فيه حوالي (١٥٠٠ شخصا) وربما كان عدد النساء والاطفال (٧٠٠) فردا، الحقيقة لايمكن وصف المعاناة التي تعرضنا لها، وانا اتكلم معك تذكرت دمعة والدتي ولوعتها على اخوتي وهم بعمر الورد، وحتى الان لانعرف عنهم شيئاً ان كانوا مستشهدين او لا زالوا احياء، اتمنى ان يكونوا بخير إن كانوا احياءً وان كانوا شهداء فإنا لله وإنا اليه راجعون.

ماتت طفولتي

- السيدة (ف- ل) تحكي لنا قصتها بعد رجوعها للعراق فتقول: عراق .. واي عراق .. رجعت له بلهفة باحثة عن طفولتي وعن ذكرياتي وإن كانت أليمة، رجعت من بعد سنين وانا اتصور بأني سأرى النخيل كما تركته شامخا ومثمرا، لكنني وجدته ليس فقط خالي من الثمر، وانما اصبح حطاماً، أما الناس، فهم لا يشبهون الناس الذين تركتهم، حتى اقربائي وجيراني هم ايضاً اصبحوا اشباحا يتراؤون لي فقط اوقات المصالح وإلا فلا!، والخلاصة لم اجد ضالتي المنشودة، ولم اجد الوطن الذي طالما حلمت بأحضانه، ولطالما حكيت قصصاً طويلة لأولادي عن وطني..آه .. لقد انتهت ذكرياتي وماتت طفولتي التي كادت ان تولد، ولكنها اختنقت في المهجر، وكنت اداريها واداويها كالأطفال الخُدج .. ولكن لاحياة بلا وطن.. فماتت.. نعم ماتت طفولتي ودفنتها في طيات عمري الذي قضيته مابين الهجر والفراق والامل، فعراق اليوم ليس كما عهدته.

روحي في العراق

- السيد سلمان كان له هذا الحديث إذ قال: لا اتذكر ايام طفولتي التي عشتها في العراق، فقد خرجت منه وكان عمري (٧ اعوام)، خرجنا انا واخوتي ووالدي الى إيران، بقينا هناك فترة وبعدها عندما كبرت ذهبت الى هولندا، وبقيت هناك الى ان عملت في مجال العقارات، وامتلكت شركة للعقارات لتشييد البنايات وما شابه.. ولكن مع كل ذلك العز والرفاهية والامن والاستقرار الذي نتمتع به في هولندا، لكن بقي عقلي وقلبي وروحي في العراق، لأنني أحس بانجذاب نحوه، ولم يستقر او يرتاح بالي الى ان اتيت الى العراق وقررت العيش في بلدي الى آخر انفاسي. والحمد لله أنا الان مرتاح نفسياً وإحساسي لا يوصف .

وفي الختام نقول: ان هذه القضية ذات الآثار المؤلمة لاتزال موجودة في الواقع ومحفورة في الاذهان والنفوس، لاسيما أن نزيف الهجرة السابقة واللاحقة، تفرض علينا ان نستذكرها بجدية دائما، حتى لا نسمح بمثلها، ونعالج الاسباب التي قادتنا إليها، ونحاول بل يجب تأسيس دولة تحترم مواطنيها، بخصوصيتها التاريخية والدينية والعقائدية، وان نكون يدا بيد لبناء عراق ديمقراطي تعددي يحترم جميع مواطنيه.

اضف تعليق


التعليقات

جميلة ناجي العلي
البصرة
فعلا لا نزال نعيش هذا الجرح .. كرامة الانسان صفر في هذا البلد.. تحقيق مهم.. الله يجازيكم بالخير2015-03-15
محمد مصطفى
التحقيق جدا رائع و هو بحق عبارة عن معاناة مهجرين صدام وارجو ان الحكومة تتوجه لهولاء و ان يكون عبرة لهم و لا تكون نفس اللام لمهجرين حرب داعش الان2015-03-15