هل يتعين على العالم وربما نكون منهم أن يتجشم عناء مكافحة الآثار السلبية للثقافة الجنسية الخاطئة، بدءاً بالامراض الجنسية، ومروراً بأمراض الكآبة والمشاكل النفسية، من عقد ومشاعر ضياع وضِعة، وليس انتهاءً بالتحرش الجنسي والاجهاض ومختلف الجرائم الجنسية، لتضاف الى سائر الازمات والمشاكل التي يعاني منها العالم؟...

اقترنت الاكتشافات العلمية بالجرأة والإقدام وتحدي مختلف ألوان الصعاب والضغوطات في عالم المادة والتجربة، ولم تصلنا المنجزات العلمية المؤثرة في حياتنا –وما تزال- لولا شجاعة العلماء في تحدي العقبات بما عجز عنه الآخرون.

ومن روح الاكتشاف والابتكار الى روح الاطلاع، او ربما نسميه بـ "الترف العلمي" انطلقت دعوات في الغرب للحثّ على الاطلاع وكسب المعلومات عن كل شيء في الحياة، وكل ما يتعلق بالانسان والطبيعية والكون تأسيساً على مبدأ فلسفي يبحث عن العلّة والسبب، ويدعو الى التساؤل عن "ما هذا"؟، ثم؛ "لماذا"؟ بعيداً عن أية أحكام مسبقة، وهو ما أكسب الثقافة الغربية قدراً كبيراً من المعرفة افادت الأجيال.

لذا نجد الحرص على تعليم الاطفال هناك كيفية التعامل مع أشياء خارج محيطهم العائلي والاجتماعي الضيّق، كأن يقترب من الحيوانات المفترسة، فضلاً عن العيش مع الحيوانات الأليفة، والقيام برحلات مدرسية الى الغابات والجبال، والمسطحات المائية للقاء مختلف اشكال الطيور والحشرات والحيوانات، الى جانب التعرّف على النباتات والتضاريس الطبيعية ومصادر المياه وغيرها، وتبيين دور وتأثير كل مكونات الطبيعة هذه على حياة الانسان.

كثير من العلماء والمفكرين لدينا، أذعنوا الى حقيقة أن هذا النمط من التثقيف جعل الطفل والشاب في الغرب، وربما في العالم المتقدم بشكل عام، أقرب الى مدارج النمو والتطور في عالم المادة، ليبقى الطفل والشاب في العالم الاسلامي –تحديداً- يراوح مكانه في عالم المعنويات، يصدق عليهم قول أمير المؤمنين، عليهم السلام: "الناس أعداء ما جهلوا".

وفي خطوة أخرى أكثر جرأة في طريق الاستكشاف والاطلاع، راحت الدعوات في الغرب ترحب باقتحام مجالات لا دخل لها بحياة الانسان بشكل مباشر، مثل؛ الصراع حتى الموت من اجل البقاء، كما السائد في الغابات وأعماق البحار، فراحت الاقلام تسرد القصص الخيالية لابطال همّهم السيطرة على الآخرين والانتصار بعد قتل الخصوم.

حتى وصل الأمر الى الرسوم المتحركة ومن ثمّ الالعاب الالكترونية، ونفس الأمر يصدق على عالم الجنس الذي يُروج له بشدّة منذ فترة طويلة، بدعوى الاطلاع على كل شيء، وأن لا تبقى زاوية مظلمة في معارف الانسان! فكما ينبغي على الطفل تعلّم القراءة والكتابة، عليه التعرّف ايضاً على تفاصيل جسم الرجل والمرأة، ووظائفهما، وربما يدافع دعاة هذا اللون من التثقيف بأن هذا الطفل الصغير سيكون رجل الغد، ولا يجب ان يكو جاهلاً، وكذا الحال بالنسبة للبنت، فلا داعي للخجل.

علماً أن هذه النغمة مسموعة في اوساطنا، كما جرى في اجتماع أولياء الأمور في إحدى المدارس الاعدادية للبنات في العراق، عندما طلبت المديرة من الأمهات توصية بناتهنّ المتزوجات بعدم فتح احاديث تتعلق بالحياة الزوجية مع البنات الأخريات، فكانت المفاجأة من إحدى الأمهات، بأن قالت: "وما الضير في ذلك...؟! سيتزوجْن يوماً ما".

ولو أن هذه القضية ما تزال في طور الترويج، ولم تبتّ بها المجتمعات الغربية، كون الثقافة المحافظة ما تزال تعمّ شريحة كبيرة من المجتمعات في العالم، ومنها المجتمعات الغربية، بيد أن العمل جارٍ وبقوة في هذا الاتجاه، ليس نظرياً، وفي المحاضرات والمؤلفات، وإنما اجراءات وفعاليات على الارض، مثل المتحف الاول من نوعه تحت عنوان "متحف المهبل" تكون بريطانيا على موعد لافتتاحه في السادس عشر من شهر تشرين الاول الجاري، بمبادرة من المخرجة التلفزيونية، فلورنس شيشتر.

وقد جاء هذا الموعد بعد جهد بذلته هذه المرأة البريطانية منذ عام 2017 لتكون اليوم فكرتها على ارض الواقع، فنشرت الاعلانات، وأقنعت شريحة من المجتمع بفوائد المتحف على أنه "أول متحف في العالم ينشأ ويجهز خصيصا لتشريح أمراض النساء"، وخلال حملة تبرع قامت بها تمكنت من جمع حوالي 50الف جنيه استرليني، ربما يساعدها على إقامة المتحف وإنجاح هذه التجربة الغريبة، كونه سيتضمن "معارض فنية، ومسرحيات، وافلام، ورش عمل فضلا عن تنظيم عروض كوميدية تتمحور حول المهبل"، كما جاء في تقرير "بي بي سي".

أما الغاية الاساس من المتحف فقد افصحت عنه بانه من اجل "محو وصمة العار حول الجسم وتشريح أمراض النساء"، وحسب فلورنس فان المتحف سيعد برامج "صديقة للأطفال" للأُسر والمدارس، ثم تحدثت عن الأطفال والاحتمال الوارد بشعورهم بالخجل من هذا الأمر قالت: "عندما يخجلون من أجسادهم، يصبح من الصعب عليهم التحدث عنها. يتعلق الأمر بمحو العار عن هذا الجزء من أجسامهم، ومعرفة وظيفته وما يفعله".

وبالرغم من تفاؤل القائمين على هذا المشروع المثير والجديد من نوعه في بريطانيا والعالم، وأن ثمة تفاعل واستجابة من كثيرين في المجتمع البريطاني، وايضاً تفاعل الكلية الملكية لأطباء التوليد وأمراض النساء، بيد إن الغاية من المتحف على المحك حتى الآن في بريطانيا على الأقل، في وجود منظمات ومؤسسات معنية بالشأن الثقافي، وما اذا كانت تنظر بايجابية الى عواقب الثقافة الجنسية بهذه الصورة على الاطفال الذين جاء ذكرهم على لسان صاحبة المتحف، وربما ستنظم رحلات مدرسية لهذا الغرض حيث اعلنت فلورنس أن المتحف مفتوح مجاناً للزائرين.

{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

في النظام التربوي للإسلام ثمة اهتمام بالغ بالجانب النفسي للطفل تحديداً، وحرصٌ شديد من المؤثرات السلبية الخارجية؛ المسموع منه، والمرأي، وهنالك تأكيدات وافرة من القرآن الكريم ومن السنّة الشريفة بعدم التهاون في هذا الجانب من العملية التربوية، وأن كل شيء مباح، بل واحياناً يكون محببا ومفيدا للغاية، مثل نظر الولد في وجه الأب، اضافة ما له من الأجر والثواب؛ و انعكاسات ايجابية عميقة في نفس الولد، تبقى أمور جزئية وقليلة لا تأثير لها على حياة الطفل إن لم يطلع عليها، وإن كان الإصرار عليها ربما تفضي الى نتائج سلبية على نفسيته وسلوكه.

هذه القاعدة التربوية يبينها القرآن الكريم على الصعيد الاجتماعي العام في الآية الكريمة التي اخترناها للعنوان الفرعي، فقد كان المسلمون في صدر الإسلام يطرحون اسئلة مختلفة ربما يكون بعضها عبثاً او لا صلة لها بحياتهم اليومية، فنزل الوحي على النبي بالآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، (سورة المائدة، 101) فاذا كانت هذه الأشياء مفيدة هل كان القرآن الكريم ينهى عنها ويبعد الانسان عن معرفتها؟

ولكن! يبدو ان ثمة مقاصد ونوايا لدى البعض لإشاعة المسائل الجنسية لجميع الافراد بمن فيهم الاطفال، والحديث عن ضرورة تحطيم حدود الحياء والخجل على أنها ممنوعات تحد من معارفهم، ولعل منها استسهال رؤية الاطفال الآباء او الأمهات عراة، كما تصر بعض الدول الغربية على إدراج الجنس في المنهج الدراسي، وهذا ايضاً – وإن هو يعود لسنوات بعيدة- لا يعد من الأمور المحسومة ثقافياً في البلاد الغربية، إذ لا يبرح علماء ومفكرون ينتقدون بشدة هذا التوجه ويؤكدون على ضرورة إبعاد الطفل عن المثيرات الجنسية، كونها مسألة غريزية مودعة في كل انسان منذ الصغر، وأن الافضل الانتظار حتى سن الشباب حيث يكون مقبلاً على الزواج، و تكون هذه المسائل ضرورية له، وهو ما أشار اليه الشيخ باقر شريف القرشي في "النظام التربوي في الاسلام" نقلاً عن العالم في التربية الجنسية، سيريل بيسي".

عالم المجانين!

ليس في مسائل الجنس فقط، بل وفي مسائل الاقتصاد والقانون والصحة، تدفع البلاد الغربية أموالاً طائلة لتفادي أخطاء فادحة ما تزال ترتكبها في هذه الميادين وبشكل غريب، ليس أقلّها قوانين الضرائب والاجهاض والمواد الغذائية المصنعة، ومن ثمّ الاحتباس الحراري الناتج عن مشاريع انتاجية ضخمة لا تحتمل بعض الدول التخلّي عنها مهما كانت العواقب ومنها الولايات المتحدة، ولعل المرض فقدان المناعة المكتسب "ايدز"، وهو آخر الامراض الجنسية التي ابتليت بها البشرية، يكون أبرز الأدلة على ما يمكن وصفه بالوضع الجنوني بين الترويج لحالة معينة ثم العمل على معالجتها.

وربما يكون المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- أول من أطلق هذه الصفة في كتابه "الصياغة الجديدة"، في مطلع الثمانينات، عندما تحدث عن "عالم المجانين"، ويقول: "نلاحظ أمراً غريباً في عالم العقلاء، حيث تشيّد المستشفيات الفخمة، وتجهز بأحدث المعدات الطبية، والمختبرات المتطورة، بل ويعكف العلماء والنوابغ لانتاج الادوية لامراض عديدة، بل ويشيدون الجامعات وكليات الطب ومراكز البحث والدراسة، لتخريج أطباء وعلماء اخصائيين، ولكن؛ لا نلبث أن نشهد أعمال تؤدي الى الموت والدمار الذي يعمّ الملايين من البشر".

ولا أجدني بحاجة الى الحديث عن الاضرار الصحية البالغة للأطعمة المصنعة، وحتى الوجبات السريعة التي تتسابق عليها شركات كبرى في العالم للاستحواذ على اكبر مساحة من الزبائن حول العالم، وما يستدعي من حاجة هؤلاء الزبائن الى مزيد من العقاقير الطبية الخاصة بالسمنة والفشل الكلوي والتهاب الكبد وأمراض الجهاز الهضمي وغيرها كثير.

فهل يتعين على العالم –وربما نكون منهم- أن يتجشم عناء مكافحة الآثار السلبية للثقافة الجنسية الخاطئة، بدءاً بالامراض الجنسية، ومروراً بأمراض الكآبة والمشاكل النفسية، من عقد ومشاعر ضياع وضِعة، وليس انتهاءً بالتحرش الجنسي والاجهاض ومختلف الجرائم الجنسية، لتضاف الى سائر الازمات والمشاكل التي يعاني منها العالم؟

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
النموذج الغربي يقود البشرية الى المنطقة الكارثية
الغرب يزوج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة في مخالفةكبيرة للفطرة الإنسانية
وقد امتدت هذه الأمور الكارثية الى تركيا وهي دولة عضو في المنظمة الإسلامية
وكثيرا ماحاولت هذه الحركات الهدامة بصورة أو بأخرى الظهور على الأراضي المصرية
ويجب أن نفيق قبل فوات الأوان اذا كنا نريد أن ننجوا من هذه المصائب الكارثية كأمة عربية
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة2019-10-01