q
خدعة التدريس من خلال الإطراء هي التي لا ينبغي أبدًا أن تقوم بها، فلقد اعتاد الناس كثيرًا على النقد ولم يعتادوا على الإطراء والثناء، حيث إن الإطراء يصيبهم بالارتياب، كما أنهم يشمون رائحة الكذب بسرعة، وإذن فإنه من الأفضل كثيرًا، ونحو بذل مجهود أقل، أن تبحث ببساطة عن الأشياء المقنعة والحقيقية...

دخلت إلى الفصل في اليوم الأول وأنا أرتدي سترة البدلة القديمة الوحيدة التي كنت أمتلكها، وكان القسم حينها يتطلع إلى الفوز بمدرسين مساعدين جدد يتسمون بقدر من الحرفية، كانت سترة البدلة قديمة جدًّا، وقد ارتديتها وأنا شاب مراهق صغير في يوم زفاف أخي، ومرة أخرى أثناء حضوري إحدى الحفلات في الكلية، ثم لم أفكر في ارتدائها مرة ثانية بعد ذلك؛ لأنها كانت مثيرة للضحك بالفعل، كما أنها جعلتني أشعر بإحساس ثقيل طوال عَقد من الزمان (أوه، حسنًا، أذكر أن ذلك هو ما أحسست به أول مرة)، لكنني الآن لا أقوم بتثبيت الأزرار، وفور دخولي الفصل فإنني أسارع بخلع السترة، ثم أضعها فوق ظهر المقعد، وبعد ذلك أبدأ في النظر إلى طلبة الكلية.

كان البعض منهم شبابًا صغارًا، ولا تبدو عليهم المعاناة أو العمل في الفلاحة، حيث كانت الكلية تقع عند الحافة الشرقية لأجمل مزرعة. كان معظم الطلبة الأجانب من آسيا، وكان بعض الطلبة أكبر مني سنًّا، وكانوا جميعًا يجلسون أمامي في صفوف، كانت الصفوف تصيبني بالصداع وتشعرني بالورطة. كنت أتجول ببصري في أرجاء الحجرة فأرى سبورة النشرات المصنوعة من الفلين بجوار الباب، كانت السبورة مليئة بالإعلانات عن تأشيرات السفر وبطاقات الائتمان والإجازات الخاصة، فمشيت — ذات يوم — حتى وصلت إلى آخر الحجرة دون أن تتوقف أعين الطلبة عن ملاحقتي، وقلت فجأة: ليس هذا مكانًا للإعلانات.

سحبت الإعلان من فوق الحائط، وألقيت به داخل سلة القمامة، ثم تقدمت نحو الأمام وسط أعين الطلبة التي ما زالت تلاحقني، ابتسمت، وكان أول سؤال وجهه لي أحد الطلبة وهو يشير إلى بقية الإعلانات: ألَا يجب أن تلقي بكل ذلك في سلة المهملات؟

***

منذ سنوات مضت لم أكن دائمًا أشعر بارتياح في مواجهة الطلبة، وكان الخوف ينتابني في البداية، وعندما بلغت الثالثة والعشرين من عمري، وأوشكت على التخرج، وأصبح باستطاعتي مواصلة التقدم والحصول على عمل مناسب، حدث كسر في قدمي فلم أستطع العمل، أخبرني واحد من المدرسين بالجامعة الذين أعرفهم أنه يستطيع مساعدتي، وكان من المفترض أن أعمل مساعدًا له في تعليم فصلين من الطلبة في مرحلة ما قبل التخرج، ولكن قبل موافقتي وجدت نفسي أبحث في القاموس عن معنى كلمة ⋆sinecure (وتعني الوظيفة العاطلة أو المنصب الذي لا يقوم صاحبه بأي عمل، أو يقوم بعمل لا يتناسب مع راتبه الكبير)، والتي لم أكن قد سمعت بها من قبل.

عرفت أن الكلمة نفسها تعني أيضًا مكتبًا يربح بدون موظفين؛ أي مكتب أو منصب يقدم المكافآت دون أن يسألك القيام بأعمال كثيرة، ودون أن يكلفك بأقل المسئوليات، وعندئذٍ راقت لي الفكرة، والأفضل من ذلك أنني اكتشفت أن الكلمة هي وصف دقيق ومعقول لحالتي، كما أنها تناسب احتياجاتي.

كنت معتادًا على الجلوس في آخر الفصل لمراقبة ذلك المدرس وهو يتولى مهام التدريس، وحدث أنني توجهت مرتين إلى مقدمة الفصل، حيث لم أتردد في التحدث إلى الطلبة والتفاعل معهم، وكنت دائمًا ما أتبادل الأحاديث مع المدرس بعد انتهائه من الفصل المسائي لفترات طويلة، عرَفت من خلالها بأنه لم يكن سعيدًا مع زوجته، كما أنه لم يكن يبدي اهتمامًا كبيرًا بمناقشاتنا الفلسفية ما دام هو بعيدًا عن بيته، وكنت — أثناء تلك الأحاديث الممتدة — أتقدم أحيانًا ببعض الآراء النقدية.

كان الوصف المناسب لمحاضراتي هو أنها محاضرات كارثية، وكانت حدة الكارثة تزيد أو تقل قليلًا بين محاضرة وأخرى، حيث كنت أتمتم وأتلعثم في الكلام. وفي محاولة مني لاستعادة الأحداث الماضية، والسيئة منها بالتحديد، فإنني لا أستطيع أبدًا نسيان تلك الطريقة التقليدية في التدريس التي قمت بها كما تعلمتها من أساتذتي، والتي لا تتخذ من التفكير منهجًا، والتي بدا أن الطلبة قد تأثروا بها قليلًا كما تأثرت أنا بها من قبل، لكنني انفجرت غاضبًا — ذات مرة — وأخبرت الطلبة بعدم وجوب استخدام حروف الجر دائمًا عند نهاية كل جملة. وأذكر أنني تحدثت مرة أخرى عن تهجئة الحروف دون أن يثمر حديثي أي فائدة، فعرفت في النهاية أنك لا تستطيع أن تعطي شيئًا لا تملكه، وأن واجب المدرس الحقيقي والوحيد، وبخاصة المدرس الذي يقوم بتدريس الكتابة، هو مساعدة الطلبة على اكتشاف ذواتهم، أما فيما عدا ذلك فلا يتعدى كونه تسلية ولهوًا، أو نوعًا من أنواع الخبل، أو شيئًا شبيهًا بالنافذة المزينة في أحسن الأحوال.

قلت من قبل في كتابي The Language Older Than Words «اللغة أقدم من الكلمات»: إن كلمة «تعليم» هي اشتقاق من الكلمة اللاتينية e-ducere، والتي تعني التقدم للأمام أو الانطلاق، والكلمة نفسها تشير في الأصل إلى معنى القابلة التي تشرف على الولادة. وحين رحت أقارن بينها وبين جذور كلمة seduce بمعنى يغري أو يغوي، والتي هي أكثر قربًا من المعنى، ولكن مع اختلاف ملحوظ، وجدت أن كلمة educe تعني أن يستنبط الإنسان فكرة أو يستخرج معنًى من المعاني، وهي بذلك تعني التقدم للأمام. أما كلمة seduce بمعنى يغري أو يغوي فتعني التضليل. وكنت أرغب لو أنني تحدثت عن ذلك مع أولئك الطلبة منذ سنوات مضت، كما تمنيت لو اقترحت عليهم التفكير في ذلك الاختلاف في نهاية الأسبوع وهم يتحدثون مع أقرانهم من الجنس نفسه، ولربما عبر أحدهم عن رغبته في استنباط ما بداخل الآخر الذي يرد بدوره قائلًا: ابتعد عني.

رغبت أكثر لو أنني اقترحت (لو أننا أمناء مع أنفسنا بما يكفي) أن نسمي أقسام التعليم لدينا بأقسام الإغراء؛ لأن ذلك ما يفعلونه بالفعل، إنهم لا يعلموننا اكتشاف ذواتنا بقدر ما ينجحون في إبعادنا عن أنفسنا.

ومن ناحية أخرى قد يكون من الأفضل أنني لم أتحدث في ذلك الشأن، فلقد عانيت كثيرًا من المشاكل أثناء حديثي عن حروف الجر وعن التهجئة، فمن يعرف نوع المشاكل التي كنت سألاقيها إذا ما كنت قد بدأت الحديث عن العلاقة بين ما يحدث في حجرات الدرس وبين الإغراء.

***

إن أكثر أجزاء التكنولوجيا أهمية في أي فصل دراسي هي عقارب الساعة، إنهم يسعون — دون وعي منهم — في تعليم ملايين الطلبة الطريقة نفسها في التوسل وهم ينظرون إلى عقارب الساعة قائلين: «نبتهل إليك يا إلهي أن تجعل عقارب الساعة تتحرك بسرعة أكبر.»

***

أصبحت بعد سنوات قليلة من تخرجي مدرسًا خصوصيًّا ذائع الصيت في «كلية إيداهو الشمالية» North Idaho College؛ لأن الثقة بالنفس تلعب الدور الأهم في التقدم في العمل وفي إحراز الشهرة بطريقة تفوق ما يحدث في الألعاب الرياضية، وإذا لم تؤمن بقدرتك على التقدم في عملك فأنت في الغالب لا تريد، وإذا كنت مؤمنًا بتلك القدرة فسوف تتقدم حتمًا، وإذا كنت ما تزال راغبًا في عدم التقدم فعليك أن تعرف بأن وعيك الذاتي قد تلاشى. لقد اعتمد عملي بالتدريس تقريبًا على الإطراء والثناء، وهذا لا يعني أبدًا أنني لم أقدم النصيحة الفنية، ولا يعني أنني كنت مبدعًا وحسبُ في كيفية تقديم النصيحة، لكنني كنت حريصًا على التأكد من أن كل ما نتحدث عنه في الدرس كان يحمل الرسالة نفسها؛ وهي أنك متسلق بارع. وعلى سبيل المثال فإنني لم أقل أبدًا: «إن طريقة تفكيرك منافية للأخلاق أو الذوق أو المألوف.» في حين أنني كنت أقول مثلًا: «إن قوة قدمك مدهشة لأنك ترفعها بقوة في الهواء، وحالتك الجسدية والعقلية لا تساعدك، ولكن عندما تتناسب حالتك العقلية مع قوة قدمك فإن أحدًا لا يستطيع عندئذٍ أن يقهرك.»

لكنهم راحوا يركزون على قوة أقدامهم بدلًا من التركيز على ما يتمتعون به من عقل.

وأنا بالطبع لم أكذب أبدًا، إن خدعة التدريس من خلال الإطراء هي التي لا ينبغي أبدًا أن تقوم بها، فلقد اعتاد الناس كثيرًا على النقد ولم يعتادوا على الإطراء والثناء، حيث إن الإطراء يصيبهم بالارتياب، كما أنهم يشمون رائحة الكذب بسرعة، وإذن فإنه من الأفضل كثيرًا، ونحو بذل مجهود أقل، أن تبحث ببساطة عن الأشياء المقنعة والحقيقية، وتتبنى من خلالها دروسك بدلًا من المحاولات المضنية في إعادة بناء المصداقية التي تم فقدها أثناء عملية الإطراء والمديح الزائفة التي تحتاج إلى إثبات، بالإضافة إلى أن قول الحقيقة الإيجابية يساعد في التركيز على الأشياء المهمة التي تخص الطلبة ومهاراتهم، مما لا يحدث في حال نقص مصداقيتك.

لقد منعت طلبتي من الحديث عن أي شيء سلبي في أي مجال من المجالات، وكنت أقوم بإغرائهم بالسؤال مثلًا عن كيفية حبهم لحالة الطقس في أيام شهر مارس المليئة بالرذاذ، وعندما كانوا يقدمون الشكوى ويعترضون على منعي إياهم من الحديث عن الأشياء السلبية، كنت أسمح لهم بالتعبير عما يريدون، وكانوا يخبرونني عن الذي يحبونه في حالة الطقس.

كانوا يحتجون في البداية على زيف ذلك المنع الواضح مما جعلني أحاول تعليمهم مرة أخرى عدم البوح بشكواهم إلا حين نكون خارج قاعات الدرس، لكنني كنت أعرف أن ذلك الطقس البائس دائمًا ما أصابني بالصداع، ومثل كل زملائي حينئذٍ كنت أتذمر من البرد والرطوبة وعدم قدرتي على تثبيت أقدامي فوق الأرض، ومن الناحية الأخرى كان طلبة كلية إيداهو الشمالية يتحدثون عن المميزات التي يتمتعون بها أثناء ذلك الجو، كانوا يركزون على الجوانب الإيجابية.

كانوا يتقدمون أيضًا بشكل جيد، وكان كل طلبتي المنتخبين مؤهلين لتمثيل بلدهم، وأصبحوا جميعًا أمريكيين بامتياز أو أمريكيين محترمين، كما أصبح أحدهم بطلًا قوميًّا.

* مقتطف بتصرف من كتاب: (السير فوق الماء: القراءة والكتابة والثورة)، لمؤلفه: ديريك جنسن، ترجمة: سمير عبد ربه، الناشر: مؤسسة هنداوي

اضف تعليق