q
بنك الاحتياطي الفيدرالي يشعر بالانزعاج الشديد إزاء أسعار الفائدة التي تتجاوز كثيرا ما يعتقد بكل ثقة أنه سعر الفائدة المحايد، وخاصة الآن بعد أن أصبح التضخم قريبا للغاية من الهدف المحدد بنسبة 2%. لكنه لن يجرؤ على التحول من الاتجاه إلى الخلف إلى أي سرعة أخرى...
بقلم: برادفورد ديلونغ

بيركلي ــ في الولايات المتحدة، يشكل سعر الفائدة الحقيقي الآمن الطويل الأجل ــ العائد المعدل تبعا للتضخم على الاستثمارات المنخفضة المخاطر مثل سندات الخزانة ــ بالإضافة إلى "الظروف المالية"، الآلية الرئيسية التي تؤثر على حوافز البناء وتوازن صافي الصادرات (نظرا لتأثيره على سعر الصرف).

منذ أوائل مارس/آذار وحتى منتصف مايو/أيار 2022، قفز هذا المقياس بأكثر من نقطة مئوية واحدة، حيث أدركت سوق السندات أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سيخفف قريبا جهوده الرامية إلى تعزيز التعافي السريع في تشغيل العمالة في أعقاب الجائحة. ثم، في الفترة من أواخر أغسطس/آب إلى أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2022، قفزت مرة أخرى، وهذه المرة بنحو 1.5 نقطة مئوية على أساس سنوي، حيث توقع تجار السندات أن يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى إحكام السياسة النقدية لتجنب التضخم المستمر في اقتصاد عاد إلى التشغيل الكامل للعمالة. كان هذان الارتفاعان هما اللذان خلقا التكوين الحالي لأسعار الفائدة.

 والمعدلات اليوم أعلى كثيرا ــ بنحو نقطتين مئويتين ــ عن المستوى الذي كان أي شخص ليقدره للمعدل "المحايد" قبل خمس سنوات (قبل الجائحة). المعدل المحايد، كما يوضح جون ماينارد كينز في كتابه "النظرية العامة لتشغيل العمالة والفائدة والمال"، هو المستوى الضروري "لإحداث التعديل بين الميل إلى الاستهلاك والحافز للاستثمار". وعلى هذا فإن سعر الفائدة الذي يعتبره الجميع أعلى من المستوى المحايد يعكس ثقة الأسواق في أن حلول الركود ــ أو على الأقل التباطؤ الكبير ــ ليس سوى مسألة وقت. وعندما يأتي ذلك الوقت، سوف يتوقف كل شيء على ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي ليدرك الضعف المتزايد الاقتراب في الوقت المناسب لخفض أسعار الفائدة وتحقيق "الهبوط الناعم". وقد صمد تكوين سعر الفائدة هذا لمدة سبعة أشهر الآن.

 بطبيعة الحال، لم يكن الوضع ساكنا بشكل كامل. فقد حدث ارتفاع آخر بمقدار نقطة واحدة بين يونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2023. لكن تلك الموجة سرعان ما انحسرت مع تحول التكهنات إلى أسئلة حول متى يبدأ الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة ومدى سرعة هذا الخفض. وبالتالي، عاد سعر الفائدة على سندات الخزانة لأجل 30 عاما إلى ما كان عليه في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2022. كان الهبوط سلسا بالفعل. لكن الطيار لم يجرؤ على تحويل ناقل الحركة من الاتجاه إلى الخلف إلى فك التعشيق على الترس المحايد.

 من الواضح أن الاحتياطي الفيدرالي يخشى أن يستمر ارتفاع الأجور في الوظائف غير الزراعية. على أساس معدل موسميا، كان عدد الوظائف في فبراير/شباط أكبر بنحو 275 ألف وظيفة مقارنة بشهر يناير/كانون الثاني، وهذا أعلى قليلا فقط من المتوسط الذي كان 250 ألف وظيفة خلال الأشهر الستة الأخيرة. وأظن أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يشعر بالانزعاج الشديد إزاء أسعار الفائدة التي تتجاوز كثيرا ما يعتقد بكل ثقة أنه سعر الفائدة المحايد، وخاصة الآن بعد أن أصبح التضخم قريبا للغاية من الهدف المحدد بنسبة 2%. لكنه لن يجرؤ على التحول من الاتجاه إلى الخلف إلى أي سرعة أخرى قبل أن يرى علامات تؤكد تباطؤ نمو الوظائف.

ثلاثة تفسيرات من الممكن أن توضح الوضع الحالي. فربما يستند الاستنتاج بأن أسعار الفائدة تتجاوز المعدل المحايد إلى تحليل خاطئ. أو ربما حدث خطأ في كيفية قياسنا لحالة الاقتصاد. أو ثالثا، ربما ارتكب بنك الاحتياطي الفيدرالي خطأ على غرار أخطاء ذئب البراري Wile E في الرسوم المتحركة الشهيرة.

لو أخذنا هذه التفسيرات بترتيب عكسي، إذا كان الضعف الاقتصادي قادما بالفعل، فسوف يتمنى الاحتياطي الفيدرالي قريبا لو بدأ خفض أسعار الفائدة في يناير/كانون الثاني 2024. ولنتذكر هنا أن قرارات القطاع الخاص بتقليص الإنفاق على البناء، وإعادة تأمين المشتريات لموردين خارجيين، أوقِفت مؤقتا في عام 2022 وأُخِّـرَت حتى عام 2023 حيث كان الناس ينتظرون لمعرفة مدى إحكام السياسات من جانب الاحتياطي الفيدرالي. ولو كانت الشركات تابعت آنذاك تنفيذ تلك القرارات المؤجلة خلال الفترة من مايو/أيار إلى أكتوبر/تشرين الأول 2023 ــ مع ارتفاع عائد سندات الخزانة لعشر سنوات مؤقتا من 3.53% إلى 4.93% ــ فإن التأثير على أنماط التوظيف يجب أن يبدأ في ضرب الاقتصاد في وقتنا هذا تقريبا.

 في سعيه وراء عَدّاء الطريق (roadrunner)، يركض ذئب البراري Wile E (شخصية كلاسيكية في مسلسل الرسوم المتحركة الشهير Looney Tunes) دائما حتى يوشك أن يسقط من حافة الجرف لكنه لا يكاد يبدأ السقوط حتى ينظر إلى الأسفل ويدرك أنه يركض في الهواء. كنت واثقا بدرجة كبيرة أن هذا هو الموضع الذي كان يقف عنده الاحتياطي الفيدرالي قبل ستة أشهر. ولكن مع مرور الوقت دون أن يحدث أي شيء، أصبحت أقل يقينا. ماذا لو كانت القياسات خاطئة؟ كان الإجماع يؤكد لفترة طويلة أن دراسات مسح الرواتب في الولايات المتحدة تتفوق على دراسات مسح الأسر. ولكن في الأعوام القليلة الأخيرة، ظهرت فجوة بين هاتين الدراستين. فبينما يسجل مسح الرواتب 2.7 مليون وظيفة أكثر من عام مضى، فإن مسح الأسر يسجل زيادة قدرها 700 ألف شخص فقط في عدد العاملين في تلك الوظائف مقارنة بعام مضى. إذا كانت سوق العمل ضعيفة كما تشير دراسات مسح الأسر، فإن هذا الضعف كان لابد وأن يظهر بالفعل في الإنفاق الاستهلاكي. لكنه لم يظهر. وهذا يترك لنا احتمال التحليل الخاطئ. كان شبه الإجماع منذ اندلاع الجائحة يؤكد أن عوامل أساسية قوية تبقي على سعر الفائدة المحايد عند مستوى منخفض للغاية، وأنه لم تحدث تغيرات كبرى في تلك الأساسيات. وعلى هذا فإن المعدل المحايد لابد أن يظل شديد الانخفاض، وهو ما يعني ضمنا أن سعر الفائدة المرتفع غير مناسب لاقتصاد عند مستوى التشغيل الكامل للعمالة مع اقتراب التضخم من المستوى المستهدف له. 

ولكن إذا كنت تعلمت درسا واحدا خلال أكثر من أربعين عاما من محاولتي فهم دورة الأعمال، فهو أنه لا يوجد انتظام تجريبي في الاقتصاد الكلي يوحي بالثقة في قدرته على الصمود وعدم الانهيار تحت أقدامنا في وقت قصير بدرجة غير عادية.

* جيه. برادفورد ديلونغ، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، ومؤلف كتاب التراخي نحو المدينة الفاضلة: تاريخ اقتصادي للقرن العشرين

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق