في أبسط أشكالها، ستكون العملة الرقمية للبنك المركزي عبارة عن التزام إيداع قابل للتحقق قائم على الحساب الرقمي للبنك المركزي. من الممكن إدارة العملة من خلال قاعدة بيانات تقليدية خاضعة للرقابة المركزية، ويظل من الممكن إدارة حسابات التجزئة الخاصة بالأفراد من قبل البنوك الحالية وخدمات الدفع والوسطاء المعتمدين...
بقلم: ويليم إتش بويتر

نيويورك ـ في أحدث التوقعات الاقتصادية العالمية، يقدم صندوق النقد الدولي حجة منطقية مفادها أنه بمجرد تخلص الأنظمة من التضخم، ستعود أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة (وفي العديد من الأسواق الناشئة) إلى مستوياتها المنخفضة للغاية التي كانت عليها قبل الجائحة. وهذا يتماشى مع الاتجاه التنازلي في أسعار الفائدة الحقيقية الطبيعية منذ أوائل الثمانينيات، والذي كان في حد ذاته نتيجة للشيخوخة السكانية والنمو الإجمالي المخيب للآمال في إنتاجية عوامل الإنتاج.

ويعكس سعر الفائدة الحقيقي الطبيعي التوازن بين المدخرات المخطط لها وتكوين رأس المال في ظل الظروف النظرية للعمالة الكاملة والتضخم المستهدف. صحيح أنه لا شيء مؤكد في العالم الحقيقي. وكلما زاد عجز الميزانية الحكومية، كلما ارتفعت الضغوط التصاعدية على المعدل الطبيعي. وفي حين تميل المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة السكانية إلى الادخار أكثر وتوفير المزيد، فإن المجتمعات القديمة حقًا تدخر أقل. كما يتعين على المرء أيضًا النظر في تأثيرات "التفكك " الكبير المحتمل للاقتصاد العالمي وصعود التكتلات المتمركزة حول الولايات المتحدة والتي تتمحور حول الصين. قد يؤدي ذلك إلى الحد من تدفقات رأس المال إلى الاقتصادات المتقدمة، مما سيُعزز أسعارها الطبيعية.

ومع ذلك، بشكل عام، من المعقول أن نفترض أنه في غضون عامين أو ثلاثة أعوام، سنعود إلى عالم تكون فيه أسعار الفائدة الاسمية للبنوك المركزية في الاقتصاد المتقدم مقيدة بانتظام بالحد الأدنى الفعال (ELB). يحدد معدل الفائدة الاسمي الصفري على العملة (النقدية) حدًا أدنى قريب من الصفر بموجب سعر فائدة البنك المركزي. إن معدل الفائدة الحقيقي الطبيعي المنخفض للغاية ومعدلات التضخم المنخفضة يجعلان من المحتمل أن يكون الحد الأدنى الفعال قيدًا ملزمًا.

وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الفائدة الاسمية بشكل كبير منذ عام 2020، مع بلوغ معدل الفائدة لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الآن 4.75-5٪، لا تزال معدلات الفائدة الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) قصيرة الأجل بالكاد إيجابية في الولايات المتحدة، وتظل سلبية ماديًا في معظم الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ووفقًا لبنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، كان سعر الفائدة الحقيقي في الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات يبلغ حوالي 2٪ فقط، وكان ذلك أعلى مستوى له منذ الأزمة المالية لعام 2008.

إذا واجه بنك الاحتياطي الفيدرالي مرة أخرى موقفًا حيث يخضع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية لقيود يفرضها الحد الأدنى الفعال، فإنه بذلك يكون قد فقد الأداة الأكثر فعالية لتوفير الحوافز اللازمة لمواجهة التضخم دون المستوى المستهدف أو البطالة المفرطة. وبدون القدرة على خفض أسعار الفائدة إلى مستويات أدنى، ستكون أدواته الوحيدة المتبقية هي التيسير الكمي (شراء أصول عالية الجودة)، والتيسير النوعي (شراء مطالبات مالية منخفضة المستوى)، والتحكم في منحنى العائد (شراء سندات ذات مدة استحقاق معينة على أي نطاق مطلوب للحفاظ على عائداتها ضمن نطاق معين)، والتوجيهات المستقبلية.

يكمن النبأ السيئ في أن هذه الخيارات ليست فعالة مثل تخفيضات أسعار الفائدة في تحفيز الطلب الكلي. والأسوأ من ذلك أن التسهيل الكمي والنوعي يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الاستقرار المالي، كما لم يقم بنك الاحتياطي الفيدرالي قط بالتحكم في منحنى العائد.

يتمثل الخبر السار في أن بنك الاحتياطي الفيدرالي (والبنوك المركزية الأخرى) لديها خيار آخر واعد: التخلص من الحد الأدنى الفعال تمامًا عن طريق إلغاء النقد وإدخال عملة رقمية جيدة التصميم للبيع بالجملة والتجزئة متاحة على نطاق واسع لعامة الناس. وفي ظل استخدام العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي، قد يكون تحديد معدل الفائدة عند نسبة -5٪ مثل تحديده عند نسبة 5٪.

في أبسط أشكالها، ستكون العملة الرقمية للبنك المركزي عبارة عن التزام إيداع قابل للتحقق قائم على الحساب الرقمي للبنك المركزي. من الممكن إدارة العملة من خلال قاعدة بيانات تقليدية خاضعة للرقابة المركزية، ويظل من الممكن إدارة حسابات التجزئة الخاصة بالأفراد من قبل البنوك الحالية وخدمات الدفع والوسطاء المعتمدين الآخرين. وبدلاً من ذلك، يمكن للعملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي استخدام تقنية دفتر المُوزع مثل "البلوك تشين".

وأيًا كان التصميم المُفضل، فإن مفتاح القضاء على الحد الأدنى الفعال يتمثل في القدرة على دفع فائدة، بأي سعر سلبي أو إيجابي، على الأرصدة المُستحقة، مما يعني ضمنًا أن المُصدر (البنك المركزي) يجب أن يكون قادرًا على تحديد المحفظة الرقمية الفريدة التي تحتوي على كل وحدة من وحدات العملة الرقمية للبنك المركزي في أي وقت. وعلى الرغم من أن هذا يعني أن العملة الرقمية للبنك المركزي لا يمكن أن تكون أداة خاصة بحاملها مثل النقد، إلا أن هذا لا يعني أن البنك المركزي يحتاج إلى معلومات حول المالكين المنتفعين من تلك المحافظ. لا يمكن أن تكون حسابات العملة الرقمية للبنك المركزي مجهولة المصدر، ولكن مثل حافظات بيتكوين الحالية، يمكن أن تكون ذات اسم مُستعار. وكما هو الحال مع عملة البيتكوين، سيكون سجل المعاملات الكامل للعملات الرقمية للبنك المركزي القائم على تقنية "بلوك تشين" على نطاق عام، مما قد يُمكّن البنك المركزي (أو أي طرف ثالث آخر مهتم) من استنتاج الملكية النفعية لأي محفظة.

إنه ببساطة أمر لا مفر منه أن توفر العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي المُدرة للفوائد خصوصية أقل من النقد، بغض النظر عما إذا كان يتم تنفيذها باستخدام نظام مركزي قائم على الحسابات أو نظام مرخص مستند إلى تقنية دفتر الأستاذ الموزع. وبالنسبة لليبراليين الذين يعتبرون كل الحكومات متطفلة أو طاغية أو شريرة، ستكون هذه سمة سلبية. ولكن بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالقلق إزاء التهرب الضريبي وغسيل الأموال وغير ذلك من السلوكيات غير القانونية، فإن عدم الكشف المطلق عن الهوية يُعد خبرًا سارًا.

إذا كانت العملة الرقمية للبنك المركزي مُتاحة على نطاق واسع وسهلة الاستخدام، فيجب أن يتمكن حتى الأشخاص الأكثر تحديًا من الناحية التكنولوجية من التعامل معها بسهولة، عبر شبكات الإنترنت وخارجها، مما يعني أن الاستبعاد المالي لن يكون مشكلة. صحيح أن نجاح وفعالية العملة الرقمية للبنك المركزي (CBDC) من المرجح أن يتسبب في الاستغناء عن الوساطة من جانب النظام المصرفي، حيث تستبدل الأسر والشركات حيازات العملة الرقمية للبنك المركزي بالودائع المصرفية. ولكن إذا كان البنك المركزي قلقًا بشأن ذلك، فيمكنه إقراض عائدات إصدار العملة الرقمية الخاصة به إلى القطاع المصرفي.

يُعد بنك الاحتياطي الفيدرالي خلف المنحنى. فقد أظهر متتبع العملة الرقمية للبنك المركزي التابعة للمجلس الأطلسي والذي يضم 119 دولة أو اتحاد عملات أن 11 دولة قد أطلقت بالفعل بشكل كامل العملات الرقمية الصادرة عن البنك المركزي (جامايكا وجزر الباهاما وثمانية دول في اتحاد عملة شرق الكاريبي ونيجيريا)، بينما دخلت 18 دولة أخرى المرحلة التجريبية (بما في ذلك الصين والهند وروسيا وأستراليا وتايلاند وكوريا الجنوبية). من المرجح أن يبدأ البنك المركزي الأوروبي في تجربة عملة رقمية هذا العام.

ومن ناحية أخرى، "لم يتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي أي قرار" بشأن هذه المسألة. إنه "ملتزم بضمان استمرار سلامة وتوافر النقد" وينظر إلى "العملة الرقمية للبنك المركزي باعتبارها وسيلة لتوسيع خيارات الدفع الآمنة، وليس لتقليلها أو استبدالها".

لن يساعد ذلك في المرة القادمة التي يمنع فيها الحد الأدنى الفعال صُناع السياسة من توفير الحافز اللازم. يحتاج بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى الاستيقاظ والوصول إلى المقدمة.

* ويليم إتش بويتر، كبير الاقتصاديين السابق في سيتي بنك والعضو السابق في لجنة السياسة النقدية لبنك إنجلترا، هو مستشار اقتصادي مستقل.
https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق