ومن شأن كل هذه التطورات، كل واحدة على حدة، أن تسبب قدرًا كبيرًا من عدم اليقين من تلقاء نفسها. فقد تسببت جميعها في قلق عميق وواسع النطاق، مما زاد من احتمال ارتكاب الأخطاء وسوء التقدير على كل مستوى من مستويات المجتمع. وفي حين أنه يمكن التغلب...
بقلم: محمد العريان

كمبريدج- اتسم عام 2022 ببداية تزايد فيها الشعور بالقلق، ليس فقط داخل الحكومات لأنها تواجه تحديات تتعلق بالصحة، والاقتصاد، والجغرافيا السياسية، وفي بعض الحالات، الأمن القومي والمالي؛ بل ينتاب الأسر ومجموعة واسعة من الشركات نفس الشعور. فهم إما أخرجوا من "الحياة الطبيعية" أو أبعدوا عنها لفترة أطول بكثير مما كان متوقعًا.

ومن المؤكد أن فيروس كوفيد-19 عامل له صلة بهذا الشعور، ولكن العديد من التطورات الأخرى انضافت إليه، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية المتزايدة، والتضخم، والضعف المالي للأسر، ونقص العمالة، وتقلبات السوق.

ودفع متغير (أوميكرون) معدلات الإصابة بكوفيد-19 إلى مستويات كان من الممكن اعتبارها خطيرة للغاية، شأنها في ذلك شأن المتغيرات السائدة السابقة مثل (ألفا) أو (ديلتا). ولحسن الحظ، أثبت (أوميكرون) أنه أقل خطورة منها، حيث تقل احتمالية أن تؤدي حالات الإصابة الجديدة بهذا المتغير إلى دخول المستشفى أو الوفاة. والواقع أن الكثيرين يأملون أن يُنهي (أوميكرون) أخيرا الوباء الذي كان مدمرا للغاية في العامين الماضيين. وفي هذا السيناريو، سيصبح فيروس (كورونا) متوطنًا ولكن يمكن التحكم فيه نسبيًا، خاصة إذا قمنا بتعديل طريقة قيامنا بأشياء معينة.

ومع ذلك، لا يزال (أوميكرون) المصدر الرئيسي للقلق في الوقت الراهن. إذ لم يقتصر الأمر على إجبار العديد من الأشخاص على العزلة الذاتية بعد اختبار إيجابي، الأمر الذي زاد من اضطرابات العمالة والعرض، وتسبب في خسائر في الدخل في صفوف أشد شرائح المجتمع ضعفاً؛ بل أدى أيضا إلى اعتماد العديد من الدول لاستراتيجيات مختلفة في إدارة (كوفيد)، مما زاد من حدة النقص في التنسيق الكافي الذي شهده العالم في وقت سابق.

ولا تزال ظاهرة عدم المساواة في تلقي اللقاحات تمثل مشكلة خطيرة بصورة خاصة، لأن الباب سيظل مفتوحًا لظهور متغيرات جديدة حتى يُحَصن سكان العالم بصورة عامة. كذلك، يمكن للسياسة التي تعتمدها الصين في الوصول إلى معدل صفر في حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد أن تغذي جولات جديدة من اضطرابات سلسلة التوريد، مما يزيد من حالة عدم اليقين.

ومن شأن مثل هذه الاضطرابات أن تخلق مزيدًا من الضغط التصاعدي على الأسعار في الوقت الذي أصبح فيه التضخم مصدر القلق العام الأول في الولايات المتحدة. فكل ما كان في البداية صدمة من ناحية السعر وقابلا للاحتواء بالنسبة للكثيرين، تطور إلى شيء أوسع نطاقا بكثير. ونتج ذلك عن تراجع معنويات المستهلكين، وازداد ضعف الأسر المعيشية، لا سيما في صفوف شرائح السكان التي تواجه تحديات بالفعل.

إن استمرار نقص العمالة له آثار غير مباشرة مزدوجة الاتجاه. فهو من ناحية، يساهم في الضغوط التضخمية حيث تقوم الشركات بتمرير تكاليف عمالة أعلى للمستهلكين، ومن ناحية أخرى، يساعد في زيادة الأجور، بعد تراجع في الأرباح الحقيقية دام لعدة عقود. وهذا التأثير الثاني مهم بصورة خاصة للأشخاص الذين هم في أدنى مستويات طيف الدخل، والذين تأخرت مكاسبهم في الأجور عن نمو الإنتاجية لسنوات عديدة.

والمصدر الآخر للقلق هو تقلبات السوق. فحتى الآن، كانت هناك زيادة ملحوظة في التقلبات المقلقة في أسعار الأصول، لأن المخاوف الجيوسياسية والاقتصادية كانت مدفوعة بالإدراك المتزايد بأن البنوك المركزية الرئيسية على أعتاب تغيير كبير في السياسة. إذ بعد سنوات من تقديم دعم هائل لأسعار الأصول، وبعد ارتكاب خطأٍ فادح من خلال الإصرار حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على أن التضخم كان "مؤقتًا"، يضطر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى التحول بقوة إلى موقف سياسي أقل تساهلاً. ويجب أن يتفاعل بقوة، الآن، مع التضخم المرتفع الذي أخفق في وقت سابق في فهمه ومعالجته، مما أدى إلى ترسيخه بدرجة أكبر.

إن هذا السحب لسياسة التكيف المالي- والذي تضمن معدلات فائدة شديدة الانحدار ومستوى قياسي من عمليات ضخ السيولة الشهرية لمعظم عام 2021- يهدد بإحداث تشديد ملحوظ في الظروف المالية التي أصبحت متساهلة بصورة غير مسبوقة. إذ ستتعرض سبل العيش لمخاطر واضحة بصورة خاصة، إذا اضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي المتأخر إلى اعتماد سياسة انكماشية مفرطة.

وقد يعني هذا نهجًا ثلاثي المحاور حيث لا يقوم الاحتياطي الفيدرالي، في غضون فترة زمنية قصيرة جدًا، بإنهاء مشتريات الأصول الشهرية فحسب، بل يرفع أيضًا أسعار الفائدة ويبدأ في فك ميزانيته العمومية الضخمة. وسيحدث هذا بعد فترة كان الاحتياطي الفيدرالي فيها داعمًا بصورة استثنائية لأسعار الأصول، بصورة مباشرة وغير مباشرة، من خلال التصدي للتقلب المستمر وتشجيع المزيد من المخاطرة. وإذا تعثر مرة أخرى في مسئولياته السياسية، فقد يتسبب ذلك في ركود كان من الممكن تجنبه، مما سيلحق ضربة مزدوجة بالمجتمع تتمثل في ارتفاع التضخم وانخفاض الدخل.

أخيرًا، تسبب الجغرافيا السياسية انزعاجا آخر. إذ تزيد التوترات المتصاعدة بين روسيا وأوكرانيا من حالة عدم اليقين والضغوط التضخمية. ونظرًا لأن معظم تقييمات الموقف غير قادرة على التنبؤ بثقة إما بنزاع عسكري مفتوح أو بحل دبلوماسي دائم، يشعر الكثيرون بأنهم في "موقف صعب". وينطبق نفس الشيء على العلاقات الصينية الأمريكية، وإن كان بدرجة أقل.

ومن شأن كل هذه التطورات، كل واحدة على حدة، أن تسبب قدرًا كبيرًا من عدم اليقين من تلقاء نفسها. فقد تسببت جميعها في قلق عميق وواسع النطاق، مما زاد من احتمال ارتكاب الأخطاء وسوء التقدير على كل مستوى من مستويات المجتمع. وفي حين أنه يمكن التغلب على معظم مشاكل اليوم باعتبارها مشكلات قائمة بذاتها، فإن التعافي من مجموعة كبيرة منها سيكون أمرا ًصعبًا.

وفي الماضي، كان المزيج القوي بين المرونة وخفة الحركة والاختيارية ضروريًا لاتخاذ قرارات سليمة في ظل ظروف تتسم، على غير العادة، بعدم اليقين. ويجب أن نضاعف كل هذه العناصر الثلاثة، مع ضمان بذل المزيد من الجهود لحماية فئات المجتمع الأشد ضعفا.

* محمد العريان، رئيس كلية كوينز، جامعة كامبريدج، أستاذ في كلية وارتون، جامعة بنسلفانيا. ومؤلف كتاب: اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية وعدم الاستقرار وتجنب الانهيار التالي
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق