مايكل يونغ
يناقش الكاتب جايمس بار، في مقابلة معه، لماذا لايزال كتابه عن المنافسة الفرنسية-البريطانية في الشرق الأوسط سديداً في الزمن الراهن.
جايمس بار كاتب بريطاني ومؤلّف كتاب "خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكّل الشرق الأوسط" (A Line in the Sand: Britain, France, and the Struggle that Shaped the Middle East ) الذي صدر في العام 2011 وحقّق نجاحاً هائلاً. على الرغم من مضي ستة أعوام على صدوره، لايزال الكتاب، من نواحٍ كثيرة، وثيق الصلة بالقضايا الراهنة تماماً كما كان عند نشره. فهو يشرح كيف أن التسوية التي جرى التوصّل إليها بعد الحرب العالمية الأولى ساهمت في رسم معالم الشرق الأوسط الحديث، وينظر في الدور الذي أدّته المنافسة البريطانية-الفرنسية في هذه الديناميكيات. خاض بار مسيرة مهنية متنوّعة، فقد عمل في معترك السياسة والصحافة والقطاع المالي، وكان لفترة وجيزة محلّلاً في السفارة البريطانية في باريس. يدير الآن عمله البحثي الخاص، وهو زميل زائر في جامعة كينغز كولدج في لندن. كتابه عن لورانس العرب، الذي سيصدر بنسخته العربية عن دار الساقي في تشرين الثاني/نوفمبر، وضعه قبل كتاب "خط في الرمال". تحدّث بار إلى "ديوان" في أواخر أيلول/سبتمبر، وقد شاءت الصدفة أن تأتي المقابلة معه على مشارف الاستفتاء الكردي – في تذكير إضافي عن أن تسوية مابعد الحرب العالمية الأولى لاتزال تؤثّر في الوقائع الإقليمية في يومنا هذا.
مايكل يونغ: وضعتم كتاباً حقّق نجاحاً كبيراً عن المنافسة البريطانية-الفرنسية في الشرق الأوسط بعنوان "خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكّل الشرق الأوسط". هل توقّعتم يوماً أن يحقّق كتابٌ يطرح موضوعاً من هذا القبيل كل هذا النجاح، وإلامَ تعزون ذلك؟
جايمس بار: تمنّيت أن يحقق الكتاب مبيعات جيّدة، إنما لم أتوقّع قط أن يُحرز كل هذا النجاح.
ثمة سببان خلف أرقام المبيعات الجيّدة جدّاً التي حقّقها الكتاب. السبب الأول هو أنه يروي قصة مثيرة للاهتمام بطريقة آسرة، عبر استخدام مواد كثيرة من مصادرها الأصلية، وبعضها لم يُنشَر من قبل. يتمحور الكتاب بكامله حول الأشخاص – وتضم الرواية بعض الشخصيات الغريبة الأطوار، والمثيرة للاهتمام، والتي تشوبها العيوب – وحول النتائج المترتبة عن القرارات التي يتّخذونها. يبدأ الكتاب بمارك سايكس وفرانسوا جورج-بيكو، لكنه يتضمن شخصيات أخرى مثل لورانس العرب، وهنري غورو، ووينستون تشرشل، وشارل ديغول، فضلاً عن سياسيين لبنانيين وسوريين على غرار بشارة الخوري، ورياض الصلح، وجميل مردم. كما أن القصة مألوفة إنما مفاجِئة في الوقت نفسه. الجميع على دراية بالمنافسة بين بريطانيا وفرنسا، لكن قلة تمتلك معلومات وافية عن التأثيرات التي ترتّبت عنها في الشرق الأوسط.
السبب الأساسي الثاني هو توقيت صدور الكتاب، وكونه يكشف الكثير عن سورية ولبنان. كان هذا التركيز متعمّداً. عندما تواصلت مع دار النشر في العام 2008، كانت السوق مشبّعة بكتب عن العراق، وأردت الكتابة عن موضوع مختلف بعض الشيء. أما التوقيت فكان مجرّد صدفة. صدرت الطبعة البريطانية في العام 2011، بعد بضعة أشهر من ظهور مؤشرات التململ الأولى في محافظة درعا جنوب سورية. استرعى غرق سورية في الفوضى، وزعمُ تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014 بأنه قضى وأخيراً على اتفاقية سايكس-بيكو، قدراً كبيراً من الاهتمام بأصول الدول العربية الحديثة واتفاقية سايكس-بيكو، ونتيجةً لذلك، أقبل كثرٌ على قراءة كتابي. كما أن الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية سايكس -بيكو التي صادفت العام الماضي ساهمت في إثارة الاهتمام. لقد زعمت إحدى السيدات الفرنسيات اللواتي أقرأ كتاباتهن أنني وضعت الكتاب بهدف استغلال الذكرى المئوية. جوابي هو أنني لو تواصلت مع أي دار نشر في العام 2008 واقترحت عليهم إصدار كتاب تزامناً مع الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية سايكس-بيكو، كنت لأسمع منهم الرد الآتي: "ماذا؟!"
يونغ: ما الذي دفعكم إلى الاهتمام بهذه المرحلة بالذات، وبالمنطقة؟
بار: حدث كل شيء بالصدفة. كنت مفتوناً، منذ نعومة أظفاري، بالقلاع، ولطالما أردت أن أرى القلاع في سورية. وقد تسنّت لي الفرصة لتحقيق هذه الرغبة في العام 2002. أثناء وجودي هناك، وقعَ نظري على رسم غرافيتي معبّر في حماه يحمّل البريطانيين مسؤولية عدد كبير من المشاكل في المنطقة. رأيت أيضاً القاطرات التي تآكلها الصدأ في سكّة حديد الحجاز في جنوب دمشق، ما أثار اهتمامي بالتاريخ الحديث. أقرّ، بشيءٍ من الخزي، بأنه قبل تلك الرحلة إلى سورية، لم أكن أدرك فعلاً حجم التأثير العميق الذي خلّفته الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط.
انتهى بي الأمر بتأليف كتاب عن لورانس العرب صدر في العام 2006. أكثر ما استرعى اهتمامي في شخصية لورانس كرهه الشديد لفرنسا، وهذا مادفعني إلى كتابة "خط في الرمال".
يونغ: نظر عدد كبير من العرب، على امتداد فترة طويلة، إلى اتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا بأنها عبارة عن إملاءات إمبريالية لتقسيم الشرق الأوسط. لكنها لم تُطبَّق قط بحسب التصوّر الأصلي الذي وُضِع لها، وتبيّن أن الحدود التي رسمتها عمّرت طويلاً على نحو لافت. بعد مرور قرن على الاتفاقية، كيف تقيِّمون تأثيرها؟
بار: قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال، أودّ أن أقول إنني أعتقد أن سايكس – وبدرجة أقل بيكو – كانا سيصابان بالذهول لو علِما أننا لانزال نناقش اتفاقيتهما بعد مرور قرن من الزمن. والسبب هو أنهما حاولا، عند وضع الاتفاقية في العام 1915، تجنُّب وقوع خلاف حول مستقبل المنطقة، تكون شرارته التصميم البريطاني على غزو غاليبولي، والذي أعاد إحياء شكوك قديمة شكّلت تهديداً للتفاهم الودّي بين بريطانيا وفرنسا.
أختلف أيضاً في الرأي مع القائلين بأن التسوية السياسية بعد الحرب لاتحمل أي تشابه مع الاتفاقية. صحيحٌ بالطبع أن فرنسا لم تكن تتمتع بالقوة الكافية للسيطرة على شرق الأناضول، وأن بريطانيا لم تنشئ دولة في جنوب العراق، بحسب مانصّت عليه الاتفاقية. غير أن النقطة الجوهرية هي أن القوتَين وافقتا على تقسيم الشرق الأوسط بينهما وحكمه – وهذا بالضبط ماحصل في تلك المرحلة. لم يتوقّع أحد أن تشكّل تلك الخطوط التي رُسِمت بجرّة قلم حدود مابعد الحرب – لعل هذا هو السبب وراء قيام سايكس بتوقيع الخريطة بقلم الرصاص – لكنها كانت كافية لتشكّل أساس صفقة مطمئنة في زمن الحرب.
على صعيد التأثير، النتيجة الأهم لاتفاقية سايكس-بيكو هي أنها تركت مستقبل فلسطين غير واضح. كان كلٌّ من سايكس وبيكو يضع عينَيه على تلك الأرض (كانت أسباب سايكس استراتيجية أكثر، أما أسباب بيكو فعاطفية أكثر)، وما إن جرى التوصل إلى الاتفاق حتى بدأ سايكس العمل مع الصهاينة لمحاولة تعطيله، من أجل وضع فلسطين تحت السيطرة البريطانية. لو نجح بيكو في فرض رأيه، من الممكن بالطبع أن سايكس لم يكن ليتصرّف بطريقة مغايرة. لكن لو كان بيكو قد تنازل عن فلسطين للبريطانيين في مطلع العام 1916، فمن الصعب أن نتخيّل أن البريطانيين كانوا ليُبدوا اهتماماً يُذكر بالتودّد إلى الصهاينة.
التأثير الثاني هو أنه عبر تقسيم الخريطة إلى أراضٍ بريطانية وأخرى فرنسية، أنشأت الاتفاقية حدوداً أفضت إلى أن مصائر الشعوب من الجانبَين بدأت بالتباعد. وفيما بات عبور الحدود أشد صعوبة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بسبب الثورات في سورية ومن ثم في فلسطين، شجّع ذلك، على سبيل المثال، مالكي الأراضي السوريين على بيع عقاراتهم الفلسطينية غالباً إلى مشترين يهود. وقد أدّى هذا الأمر إلى نشوء حدود فصلت حلب عن شمال العراق. ليست مصادفة مثلاً أن حلب كانت مصدر الدعم الأقوى في سورية لمخطط "الهلال الخصيب" في الأربعينيات والخمسينيات، والذي كان ليُعيد ضمّ سورية والعراق في كيان واحد.
أما التأثير الأخير فهو التأثير النفسي، الذي حاول تنظيم الدولة الإسلامية استغلاله. بهذه الطريقة باتت اتفاقية سايكس-بيكو تختزل الشعور بالخيانة الذي ولّده فشل تسوية مابعد الحرب في أخذ التطلعات العربية في الاعتبار، فضلاً عن ضعف المنطقة أمام التدخّل الخارجي. بيد أن هذه الحالة الأخيرة تعود إلى ماقبل اتفاقية سايكس-بيكو بآلاف السنين.
يونغ: ما الذي شكّل بالنسبة إليكم عنصر المفاجأة الأكبر في استقصاءاتكم عن المنافسة البريطانية-الفرنسية في المنطقة؟
بار: ما أثار اهتمامي فعلاً كان اكتشافي أن الفرنسيين قدّموا، خلال الأربعينيات، دعماً سرّياً للإرهاب الصهيوني في فلسطين (ولاحقاً في باريس) بواسطة المال والسلاح على السواء. وبدأ فرنسيو فيشي يفعلون ذلك اعتباراً من العام 1940 بهدف عرقلة البريطانيين، بيد أن الفرنسيين الأحرار واصلوا تطبيق السياسة نفسها – لأنهم كانوا هم والصهاينة يمقتون البريطانيين، ولأن الفرنسيين الأحرار اضطُرّوا إلى إعادة توظيف عدد كبير من المسؤولين السابقين من عهد فيشي في المشرق، والذين أكملوا من حيث كانوا توقفوا. وقد ازداد التصميم الفرنسي على الثأر مع إدراك الفرنسيين للجهود الحثيثة التي كان إدوارد سبيرز – ممثّل تشرشل في بيروت – يبذلها من أجل مساعدة القوميين اللبنانيين والسوريين على طردهم.
يونغ: لدى قراءة الكتاب، يتكوّن لدينا انطباع بأنه بحلول الثلاثينيات، كانت بريطانيا وفرنسا قد أطلقتا ردود فعل في المنطقة لم تتمكّنا فعلياً من السيطرة عليها. هل كانت لعنة العالم العربي، في ذلك الوقت، أن يكون تحت سيطرة قوتَين متراجعتَين؟
بار: أعتقد أن اللعنة كانت الخضوع لحكم أجنبي، نقطة على السطر. جاء ذلك بعد إعلان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أنه ليس بإمكان الإمبريالية أن تستمر، وبعدما لمّح ت. إ. لورانس بقوّة إلى أنه لدى العرب فرصة جيدة لتحقيق الاستقلال، وبعدما اختبروا الحكم الذاتي، وعلّلوا النفس به، في الأشهر التي أعقبت مباشرةً الحرب، قبل أن يلحق الفرنسيون الهزيمة بالقوات الموالية لفيصل قرب دمشق.
الأمر الذي يرتدي أهمية أكبر من حالة التراجع التي كانت تشهدها بريطانيا وفرنسا هو أنهما كانتا جارتَين حاقدتين لم تتمكّنا من الاتفاق على السياسات، على الرغم من أن المنطق كان يفترض أن يكون هناك اتفاق بينهما. وبالتالي لم تتمكّنا من الإجماع على استراتيجية واحدة للتعامل لا مع التمرّد في سورية الذي استمر من 1925 إلى 1928، ولا مع الثورة التي هزّت فلسطين بعد عقد من الزمن. لم يرد أيٌّ منهما مساعدة الآخر، مثلاً من خلال ترحيل المشتبه بهم المطلوبين من العدالة، لأنهما كانتا تعلمان أنه من شأن مثل هذه الخطوة أن تلقى معارضة شديدة في أوساط مرؤوسيهم العرب. وبالطبع كان العرب يدركون ذلك ويستغلّونه. لهذا استخدم الدروز واحة الأزرق في الأردن للاختباء خلال الانتفاضة السورية. ولهذا اتخذ قادة التمرد في فلسطين من دمشق مقراً لهم في الثلاثينيات، حيث لم يحاول الفرنسيون منعهم من جمع الأموال وتهريب السلاح عبر الحدود.
يونغ: في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، يصدر كتابكم حول ت. إ. لورانس بنسخته العربية عن دار الساقي. اعذروني على السؤال، لكن هل نحتاج إلى كتاب إضافي عن لورانس العرب؟ وما الجديد الذي تقدّمونه في الكتاب؟
بار: أعتقد أن السبب الذي جعل دار الساقي تبدي إعجابها بالكتاب هو أن مضمونه يذهب أبعد من لورانس. إنه فعلاً يؤرّخ الثورة العربية، وعلى الرغم من أن لورانس هو الشخصية المحورية، إلا أن الكتاب يأتي على ذكر الكثير عن الأشخاص الآخرين الذين كان لهم دور في تلك الحقبة، مثل الهاشميين والقبائل التي دعمت الانتفاضة. آمل أنني تمكّنت من وضع كتاب يقدّم وجهة نظر أوسع نطاقاً. على النقيض من مؤلّفين آخرين كتبوا عن الموضوع، سافرتُ إلى السعودية والأردن عند إجراء الأبحاث، وعاينت بأمّ العين عدداً كبيراً من الأماكن التي كان لها دور في هذه الأحداث.
يونغ: عندما تنظرون إلى الشرق الأوسط الآن، هل يمكن القول بأننا مازلنا أسرى التدبير الذي وُضِع للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى؟
بار: نعم، هذا الكلام يعبّر جيداً عن الواقع. لكننا نُظهر أيضاً عوارض شبيهة بعوارض سندروم استوكهولم. وما أقصده هو أنه كلما طُرِحت مسألة تغيير الحدود، كما حدث في الأعوام القليلة الماضية، يتجنّبها الجميع على مايبدو، لأنهم يخشون أن التداعيات، أياً تكن، ستكون أسوأ من الوضع الراهن. وتاريخ الأردن في الخمسينيات خير مثال على ذلك. لقد واجهت البلاد تهديدات مصيرية مستمرة، ومع ذلك، تجنّب جيرانها السعي إلى تقسيم الدولة خشية من أن يحقق خصومهم فائدة أكبر من تلك التي يمكن أن يحققوها هم.
بالطبع هناك أشخاص غير راضين عن التسوية السياسية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى – وعلى رأسهم الأكراد. قد يُشكّل الاستفتاء الكردي بداية لعملية إعادة اصطفاف كبرى، لكنني أشكّ في ذلك.
يونغ: مع تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، هل نتّجه نحو مرحلة جديدة ينحسر فيها التأثير الغربي في الشرق الأوسط، ليحلّ مكانه شيءٌ آخر؟ وفي هذه الحال، ماذا سيكون؟
بار: أعتقد أنه كانت هناك على الأرجح، ولوقت طويل، مبالغة في تقدير حجم التأثير الغربي في الشرق الأوسط، وماجرى في العراق وسورية في الأعوام الخمسة عشر الماضية كشفَ حدود النفوذ الأميركي. أظن أن الحرب السورية تعطينا فكرة عن المرحلة القادمة. لقد برزت روسيا ودول الخليج وإيران والسعودية كدول يُرجَّح أن ترسم معالم المرحلة المقبلة من تاريخ الشرق الأوسط.
يونغ: أخيراً، ماهو الموضوع الذي ترغبون في الكتابة عنه في المرحلة المقبلة؟ هل هو كتاب آخر عن المنطقة أم أنكم اكتفيتم؟
بار: أشارف على الانتهاء من وضع كتاب عن العلاقات الإنجليزية-الأميركية في الشرق الأوسط منذ الأربعينيات وصولاً إلى السبعينيات. ويتمحور في شكل أساسي حول تراجع نفوذ بريطانيا وصعود الولايات المتحدة في المنطقة. من المرتقب أن يصدر العام المقبل، كما آمل. يغطّي الكتاب مرحلة أخرى ممتدّة على فترة ثلاثين عاماً، تماماً مثل الكتاب الأخير. أما في مايتعلق بالكتاب التالي، فأفكّر في تناول موضوع أوسع نطاقاً، لكنني لم أتّخذ قراري بعد. كل شيء في وقته...
اضف تعليق