مصطلح ثقافة الاستهلاك لا يشير لثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم ومعتقدات وفنون وعادات، بل يشير إلى الجوانب الغريزية وإلى المظاهر والكماليات، حيث تتحدد قيمة الإنسان بمقدار ما يقتنيه من أشياء مادية أو مال، وتعمل الثقافة الاستهلاكية على تحويل جميع مظاهر الثقافة الإنسانية، وأبرزها الفنون إلى سلعة تجارية...

كانت حاجات الانسان ككائن حيّ من جسد وروح ثم كائنا اجتماعيا، طبيعية وموضوعية لأنّها في جملة الضرورات الحيوية التي لا غنى عنها للبقاء. وكان يستطيع، باستمرار، أن يشبع حاجاته تلك من مجاله الحيوي المباشر: الطبيعة. وحين كان يعسُر عليه وجودُها في الطبيعة، كان يوجدها من خلال العمل؛ تلك الفاعليّة الفذة التي يحوّل بها عناصرَ الطبيعة لمصلحته. انّ العمل المباشر -فرديًّا كان أو جماعيًّا- كان المصْهَر الذي أنجب الإنسان المنتِج في التاريخ؛ بعد أن عاش طويلاً عالة على الطبيعة وخيراتها أسوةً بغيره من كائناتها الحية.

لكن مع اختراع الآلة البخارية في القرن الثامن عشر، التي أتاحت الإنتاج الواسع للسلع، بدأت منذ ذلك الحين عملية التطوير المستمر للأنماط التقنية-الاقتصادية لاقتصادات الدول. وقد قام العالم الاقتصادي الروسي البارز نيقولاي كوندراتيف في عشرينيات القرن المنصرم، بدراسة جدية لتلك التغيرات، وطرح نظريته المعروفة المسمّاة (نظرية الموجات الاقتصادية الطويلة)، حيث قدر طول هذه الموجات ما بين 60 و70 سنة، واعتبر أن اقتصادات الدول تتمكن خلال هذه الفترة من استيعاب التكنولوجيات الجديدة، ومن ثم الانتقال إلى إنتاج أنواع جديدة من السلع وبقدرات أكبر، والاستحواذ على أسواق جديدة.

ومع الوقت، صارت هذه الموجات أقصر، وهي تتراوح اليوم بين 40 و50 سنة، وقد أدى ذلك إلى احتدام المنافسة في جميع الأسواق الاستهلاكية، وصار الوقت اللازم لاتخاذ القرار لدى المنتجين اليوم لا يحسب بالسنوات ولا حتى بالشهور، بل بالأسابيع، لقد أصبح الوقت، فضلاً عن الابتكار بالطبع، هو الميزة التنافسية الرئيسية، فإذا تلكأ المنتج في إصدار التشكيلة الجديدة، وتأخر لأسبوع أو اثنين في تجديد السلعة، فإنه يجد نفسه على قارعة السوق.

هكذا نجح النظام الرأسمالي في وضع البشرية برمّتها أمام نوعين من الحاجات الذاتية؛ نوع مألوف هو الحاجات الطبيعية، المرتبطة بضرورات النمو والبقاء؛ وقد فاقت الرأسمالية غيرَها في إجابتها وإشباعها بما غطّته منتوجاتُها من خصاص فيها؛ وحاجات صناعية، غير طبيعية، اصطنعتْها للناس وأقنعتهم، مع الزمن، بطبيعتها وبضرورة إشباعها. ثم ما لبث المعروض عليهم من المنتوجات المشبِعة لتلك الحاجات أن بات مألوفًا لديهم ومرغوبًا، وبالتالي جزءًا من عادات الاستهلاك الجمعي، ومن يوميات إنفاقٍ ما يفتأ يتعاظم مع تعاظم الحاجات الاصطناعية إياها، وتزايد قوّتها الإغرائية. هكذا أتت الصناعة -وهي من ثمرات الرأسمالية- تزاحِم الطبيعة في إنتاج الحاجات الإنسانية، بل تتفوق عليها، أحيانًا، بمعروضاتها لتخلق للإنسان طبيعةً ثانية تُجاور طبيعته الأولى.

ما من شيء من أشياء الطبيعة، في عصر الرأسمال، خارج رِبْقة الرأسمال والاستثمار والتسليع. حتى الإنسان نفسه خضع لسلطان الرأسمال الذي اشترى قوّة عمله واستحوذ على فائض القيمة، تمامًا مثلما خضع للتسليع فبات سلعة تنتقل ملكيّتها من مؤسسة إلى أخرى ومن شركة إلى شركة، كما يحدث اليوم في انتقال لاعبي الكرة من نادٍ رياضي إلى آخر بعقود بيع وشراء.

ماهو الاستهلاك؟

ان وضع تعريف محدد لمفهوم الاستهلاك نظريا يعتبر من الأمور الصعبة نتيجة تداخل عناصر اقتصادية واجتماعية وثقافية في تحديده، فهو مفهوم له مدلول مستنبط من التجربة اليومية يقيسه الاقتصاديون من خلال نفقات الاسرة في شراء البضائع والحصول على الخدمات من خلال جداول تحتوي على مؤشرات الانفاق في الأبواب الاتية: (الاكل والشرب – السكن والكهرباء والماء – الأثاث – الخدمات مثل التربية والتعليم والصحة – المواصلات والاتصالات – الثقافة والتسلية – وامور أخرى)..

يمكن تعريف الاستهلاك بانه (التصرف باستنفاذ السلع والخدمات بشكل كامل في عملية من عمليات الإنتاج أو الاشباع المباشر للحاجات أو الاحتياجات الإنسانية).

وهو أيضا (استخدام السلع أو الخدمات من المستفيدين منها، وهو هدف النشاطات الاقتصادية الرئيسي ومقياس نجاحها، وذلك لأن الاستهلاك يمثّل الأغراض والخدمات المباشرة وغير المباشرة التي تحتاجها المجتمعات لاستخدامها في حياتها اليومية).

ويُعرف الاستهلاك في عالم المال والأعمال على أنه طريقة لحساب قيمة الأصول التجارية، وتعني تناقص في قيمة القروض أو الأصول غير الملموسة مثل براءات الاختراع والبرامج الإلكترونية وحقوق الطباعة والنشر وغيرها على مدى فترة معينة من الزمن، وغالباً ما يرتبط الاستهلاك بمصطلح الإهلاك، سوى أن هذا الأخير يكون للأصول الملموسة.

وهناك نوعان من الاستهلاك هما الاستهلاك المباشر ويعرّف بأنّه (نوع الاستهلاك الذي تخدم به البضائع الاحتياجات البشريّة بشكل مباشر وفوريّ، حيث تصل البضائع لمستخدمها النهائيّ مباشرة، ومن الأمثلة على هذا النوع من الاستهلاك ارتداء الملابس المشتراة، أو أكل الطعام، أو استخدام الأثاث في المنزل، ويجدر الذكر إلى أنّ الاستهلاك المباشر يمكن تسميته أيضًا بالاستهلاك النهائي.

الاستهلاك غير المباشر او الاستهلاك الوسيط ويعرّف بأنه (استخدام الخدمات والأغراض بهدف الحصول على خدمات أو منتجات أخرى لاستهلاكها، كاستخدام آلات الخياطة بهدف إنتاج الملابس، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستهلاك غير المباشر يسمّى أيضًا بالاستهلاك الإنتاجي.

أفضل من وظف مصطلح الاستهلاك في نظريته هو الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز الذي وضع أسس النظام الاقتصادي الجديد بعد الازمة الاقتصادية العالمية عام 1929 في كتابه (النظرية العامة للعمل والفائدة والنقود) حلل فيه العلاقة بين اجمالي الاستهلاك للعائلات ومستوى الدخل الوطني في اطار خطته الرامية الى تشغيل اليد العاملة بفضل انعاش الاستثمار.

يتأثر الاستهلاك بعدة عوامل منها:

الدخل المتاح: وهو مقدار المال الذي يملكه الفرد بعد دفع ضرائبه، وكلما زاد الدخل المتاح لشخص ما زاد استهلاكه على نحو طبيعي..

الضرائب: يحدد مقدار ضريبة الدخل التي يدفعها الناس المبلغ المتبقي لإنفاقه، ويعني المزيد من الضرائب ان الناس لديهم أموال اقل لإنفاقها ما يعني انخفاض الاستهلاك..

الثقة الاقتصادية: ثقة الناس في الاقتصاد هي عامل حاسم في عادات الإنفاق لديهم، عندما يثقون في الاقتصاد يكونون متأكدين من المستقبل ما يؤدي الى انفاقهم المزيد من الأموال على الاستهلاك..

تفضيل الادخار: تعني الرغبة في الادخار معدل استهلاك اقل..

أسباب تسارع ظاهرة الاستهلاك

إضافة الى التقدم العلمي-التكنولوجي والمنافسة، هناك سبب آخر مهم عمل على تسريع وتائر الاستهلاك، فقد شهد منتصف القرن الماضي (تمأسس) التسويق، أي أنه أصبح عبارة عن (مؤسسة) أو (ثقافة)، ترتبط بتفاعل عالم الأعمال مع التبدّل في الطلب، وكان ذلك نتيجة طبيعية للتحولات التي شهدتها الأسواق العالمية، حيث صارت هذه الأخيرة تكتسب أكثر فأكثر سمات (أسواق المستهلكين) بعدما كانت (أسواقًا للمنتجين).

ففي الماضي، كان المنتج هو المهيمن في السوق، وصاحب القرار فيها. أما اليوم فقد تغير الوضع، وأصبح شعار (المستهلك دائمًا على حق) هو الشعار السائد لدى المنتجين والبائعين، فصار المستهلك هو السيد، يحوم حوله المنتجون، محاولين استطلاع ومعرفة رغباته وكل تبدّل في ذوقه، لإرضائه وتلبية حاجاته.

لقد أصبح إنتاج المزيد والمزيد من الحاجات الاستهلاكية الجديدة والمتجددة باستمرار وإغراق الأسواق بها في أوقات قياسية، السمة الرئيسية للاقتصادات ما بعد الصناعية، والعامل الرئيسي لتسارع عملية الاستهلاك. ثمة قول معروف للكاتب مارك توين الذي عاش في حقبة بدايات العصر الصناعي، كأنما يستشرف فيه ما ستكون عليه حال المجتمع الاستهلاكي المفرط في الحقبة ما بعد الصناعية، إذ يقول: (الحضارة هي عبارة عن آلة لإنتاج الحاجات التي لا حاجة إليها).

هذه الظاهرة المتسارعة للاستهلاك خلقت نمطا من الثقافة يمكن تسميته بثقافة الاستهلاك والتي تشير إلى تلك الجوانب الثقافية المصاحبة لعملية الاستهلاك بوصفها مجمل المعاني والصور والرموز التي تصاحب عملية الاستهلاك؛ فالأفراد يستهلكون بجانب استهلاكهم للسلع المادية، الصور والمعاني والرموز المرتبطة بها، كما أنهم يتخذونها رموزاً يتخاطبون بها خطاباً صامتاً في الحياة اليومية.

ويمكن تعريف الثقافة الاستهلاكية ايضا بأنها (ذلك النشاط الذي يشبع به الإنسان حاجاته، وهو يتوقف على عدد من العناصر تتمثل في الدخل والحاجات والنزعات النفسية وعادات الأفراد، حيث يؤدي نمط الإنتاج في المجتمع الحديث إلى خلق حاجات جديدة عن طريق الإعلان وتسهيلات الائتمان التي تعمل على زياد الاستهلاك حتى أطلق عليه المجتمع الاستهلاكي)، وكان لهذه الظاهرة آثار بعيدة على الاقتصاد وعلى السلوك الاجتماعي... ويمكن عن طريق دالة الاستهلاك الوقوف على الكيفية التي يتمكن بها الأفراد ذوي الدخول المحدودة من تدبير أمور حياتهم وعلى درجات الميل للاستهلاك.

وعلى العموم، يشير مصطلح ثقافة الاستهلاك إلى ترابط الأنشطة الاقتصادية مع الممارسات الثقافية، وهذه الممارسات تتحدد بدقة في ضوء رأس المال وسيكولوجية الأفراد. ويستخدم مصطلح ثقافة الاستهلاك للتأكيد أن عالم السلع يلعب دوراً أساسياً في فهم المجتمع المعاصر، حيث يؤكد التحليل السوسيولوجي لثقافة الاستهلاك على بعدين: الأول: البعد الثقافي للعملية الاقتصادية، ويقصد به عملية إضفاء معانٍ رمزية على السلع المادية واستخدامها كوسائط للتواصل أو التمايز الاجتماعي. أما الثاني: اقتصاديات السلع الثقافية، وهي فلسفة فاعلة ومؤثرة في مجال أنماط الحياة وأسلوب المعيشة لدى الجماعات والشرائح الاجتماعية في مختلف المجتمعات والثقافات. كما أن مصطلح ثقافة الاستهلاك لا يشير لثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم ومعتقدات وفنون وعادات، بل يشير بالدرجة الأولى إلى الجوانب الغريزية وإلى المظاهر والكماليات، حيث تتحدد قيمة الإنسان بمقدار ما يقتنيه من أشياء مادية أو مال، وتعمل الثقافة الاستهلاكية على تحويل جميع مظاهر الثقافة الإنسانية، وأبرزها الفنون إلى سلعة تجارية.

لا يوجد إجماع على التاريخ الذي بدأت فيه ثقافة الاستهلاك، فقد ذهب نيل ماكندريك ورفاقه 1982 إلى أن ثقافة الاستهلاك بدأت في القرن الثامن عشر في إنجلترا لتسويق الأزياء مع التغيير في الذوق العام، وبحسب هؤلاء المؤرخين، فإن الميل الجديد لأسلوب حياة مختلف رفع الطلب على الملابس التي كانت تنتج بكميات ضخمة جراء الابتكارات التقنية في صناعة الغزل والنسيج، والطفرة في التسويق، والتي استفادت من تقنيات الطباعة في الإعلان على نطاق واسع. بينما ذهب مؤرخ آخر، وهو روزاليند وليامز 1982، إلى أن ثورة الاستهلاك بدأت في أواخر القرن التاسع عشر بفرنسا، عندما حولت الجهود الحثيثة لتجار التجزئة باريس إلى محطة للاستهلاك الجماهيري، من خلال إقامة المعارض في الفترة من 1889 إلى 1900م، ويرى أن هذه المعارض ساهمت بشكل كبير في تطوير المتاجر المختلفة وتنمية الثقافة الاستهلاكية.

تطور الظاهرة الاستهلاكية

يمكن الإشارة الى مراحل تطور الظاهرة الاستهلاكية من خلال التمييز بين ثلاث محطات مُهمة في تطور ثقافة الاستهلاك:

بدأت المرحلة الأولى من عصر الاستهلاك الجماهيري في حوالي ثمانينات القرن التاسع عشر وانتهت مع الحرب العالمية الثانية. وقد شهدت تأسيس الأسواق الوطنية الكبرى –مكان الأسواق المحلية الصغيرة- كما شهدت ولادة أسواق الجملة التي أصبح تطورها ممكنًا بفضل البنية التحتية الحديثة للنقل والاتصال خاصةً شبكات السكك الحديدية التي مكّنت من ازدهار التجارة على نطاق واسع، كما ساهمت في تصريف كميات ضخمة من المنتجات بشكل منظم. ذلك فضلًا عن تطور اّلات التصنيع بشكل مُستمر والتي أدت إلى زيادة الإنتاجية بتكاليف قليلة، ومهدت الطريق للإنتاج الضخم.

تميزت المرحلة الثانية التي بدأت منذ عام 1950 بنمو اقتصادي استثنائي، وبرفع مستوى إنتاجية العمل، وبمضاعفة القدرة الشرائية للأجور ثلاث أو أربع مرات، كما قدمت المرحلة الثانية نفسها كنموذج خالص لـ (مجتمع الاستهلاك الضخم). وجعلت المنتجات التي كانت مرتبطة بالنخب الاجتماعية في متناول الجميع، كالسيارة والتلفاز والأجهزة المنزلية. كما تميزت هذه المرحلة بارتفاع القدرة الشرائية فاتسعت لتشمل المزيد من الطبقات الاجتماعية القادرة على أن تتطلع بثقة إلى تحسين ظروفها المعيشية. كما زادت أيضًا في هذه المرحلة أعداد (السوبر ماركت) و(المراكز التجارية الضخمة) وتنوعت المنتجات بشكل كبير.

وقد أوجدت هذه المرحلة (مجتمع الرغبة)، حيث المرح المثير، الأزياء الخلابة، موسيقى الروك، المجلات المصورة، فتيات أغلفة المجلات، التحرر الجنسي، أخلاقيات المرح، التصاميم الحديثة. وقامت هذه المرحلة بتفتيت الأسس الثقافية القديمة لصالح تفاهات الحياة المادية التجارية. كما خلقت ديناميكية تسويقية قوية بتحويل الاستهلاك التجاري الى نمط حياة والى حلم جماعي قائم على القيم المادية. كما تسببت في قلب الزمن بحيث انتقلت من التوجه المستقبلي إلى (الحياة في الحاضر) وما تمنحه من إرضاءات فورية.

ثم بدأت المرحلة الثالثة التي تميزت بتراجع هدف الاستعراض أو إظهار وضع اجتماعي لصالح الوصول للإرضاء العاطفي والجسدي (الاستهلاك ذو الطابع الحميمي). فحل الاستهلاك من أجل الذات محل الاستهلاك من أجل الآخر. بل بات البحث عن السعادة الخاصة والاستفادة اللامحدودة من إمكانياتنا الجسدية والتمتع بالصحة هي سمة هذه المرحلة. فهذه هي المرحلة التي تتفوق فيها قيمة التسلية على القيمة الفخرية، والمحافظة على الذات على المقارنة المستفزة، والراحة الحسية على عرض العلامات البارزة.

يؤكد علماء الاجتماع أن ثقافة الاستهلاك أصبحت ظاهرة عامة، وقاسماً مشتركاً بين كل المجتمعات، ومكوناً من مكونات كل ثقافة، وذلك نتيجة لما تمارسه المصادر المختلفة من تأثير على سلوك الأفراد، في اتجاه الميل نحو الاستهلاك، بل وجعل الاستهلاك هدفاً في ذاته. كما يؤكد علماء الاجتماع باستخدامهم مصطلح ثقافة الاستهلاك أن عولمة السلع والمبادئ التي تقوم عليها بنية العولمة تعد مدخلاً أساسياً لفهم المجتمعات المعاصرة.

تساهم وسائل الإعلام والإعلان وتكنولوجيا المعلومات المعاصرة بدور رئيس في شيوع الثقافة الاستهلاكية بالمجتمعات الإنسانية، حيث تعمل على الإشباع الغريزي والتأكيد عليه، مما يؤدي الى فتح الباب دون قيود لاستيراد الثقافة الاستهلاكية وحدها، ومن ثم قتل الإبداع وثقافة الإنتاج، وتراخي الجهد الإنتاجي للتنمية، ودفع المجتمع نحو الاستدانة لتغطية تيار الاستهلاك، كما يلعب الاستهلاك دوراً في إثارة حرمان الجماهير وزياد مخزون التوتر، ومن ثم الرفض والتمرد.

وهذا الاستهلاك المتسارع هو الذي أدى الى نشوء مصطلح المجتمع الاستهلاكي الذي بدأ تداوله في الاقتصاد منذ الثورة الصناعية، وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية. ويعرف المجتمع الاستهلاكي بانه (المجتمع الذي يبني نظامه على الاستهلاك الهائل للسلع والخدمات. مع وصول الثورة الصناعية، كان لا بد من مواءمة فائض الإنتاج مع زيادة استهلاك المجتمعات. للقيام بذلك، على أساس نموذج رأسمالي، شجعت الدول على زيادة الاستهلاك، من أجل التخلص من كل ذلك الإنتاج الذي أتى به التصنيع)؛ بمعنى أكثر تحديداً المجتمع الاستهلاكي هو (نوع المجتمع الذي يقوم فيه النظام الاقتصادي على الاستهلاك الشامل، وهو نوع المجتمع الذي تؤدي فيه الزيادة في الإنتاج إلى تكاثر المنتجات التي سيتم استهلاكها، وبالتالي خلق احتياجات ورغبات جديدة. يستخدم مصطلح (المجتمع الاستهلاكي) للإشارة إلى مجتمع يتم فيه تشجيع المستهلكين على استهلاك السلع والخدمات بكثرة.

وقد أصبح الهوس بكل ما هو جديد يهدّد التوازن النفسي لكثيرين ويدفعهم لإشباع رغباتهم الذي يتحقّق مع الاستهلاك، وفي حال عدم القدرة، يظهر (الخوف من أن يفوت شيء)، وهي مجموعة من الأعراض النفسيّة التي تتمثّل بالقلق والحاجة للمعرفة، والسعي لضمان أنك دوما على اطلاع على ما يحصل في العالم. وهذه المتلازمة، تطالب بأن نكون دوما متصلين، نتابع ونعرف كل ما يحصل بين الآلاف من الإعلانات اليوميّة، الأهمّ أنها قد تجعلنا منبوذين لأننا لسنا على الموضة.

لقد أصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية، فالفرد لا يستهلك ما يريده فحسب، وإنما يستهلك ما يجد جيرانه وزملاءه يستهلكونه.

وكان ثورستين فبلن عالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي، وقائد حركة الاقتصاد المؤسسي. بجانب عمله التقني، كان مشهورًا وبارعًا في نقد الرأسمالية كما هو موضح في أشهر كتبه نظرية الطبقة الغنية في عام 1899م، كان أول من أشار في كتابه (نظرية الطبقة المترفة) إلى مجتمع الاستهلاك الترفي. وكانت بذور هذا المجتمع الجديد قد ظهرت في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن الماضي، ولم ينظر إلى أثر الاستهلاك كقيمة اجتماعية في النظرية الاقتصادية إلا عندما كتب جيمس دوزنبري دوزنبري عن (أثر التقليد)، حين بيَّن أن استهلاك الفرد لا يتوقف على ذوقه وما يريده هو، بقدر ما يتأثر بما يستهلكه الآخرون، وبذلك أدخل فكرة التداخل بين أذواق المستهلكين في تحديد ذوق المستهلك.

كان من الطبيعي جداً أن يكون لظاهرة (المجتمع الاستهلاكي) رد فعل مضاد ورافض لها. فظهرت بالفعل ابتداء من أواخر الستينيات الكتب، واحداً بعد الآخر، تحذر من (الإنسان ذي البعد الواحد) (كما فعل هربرت ما كيوز في أمريكا) ومن (تكاليف النمو الاقتصادي) (كما فعل إيزرا ميشان في إنجلترا) ومن الافتتان أكثر من اللازم بالتكنولوجيا أو (لعبة العصر) (كما فعل جاك إيلول في فرنسا)، أو تدعو إلى (العودة إلى الحجم الصغير) في كل شيء (كما فعل فريتز شوماخر في إنجلترا)، وكثيرون غير هؤلاء.

وكتب الاقتصادي المعروف جون كينيث جالبيرث كتابه: مجتمع الوفرة في منتصف القرن الماضي منتقداً ظاهرة الاندفاع نحو إنتاج السلع الاستهلاكية على حساب الخدمات العامة، وظاهرة تشجيع الاستهلاك المصطنع لدعم الإنتاج ومن ثم الربحية.

وقدم السوسيولوجي الفرنسي المعاصر بودريار نقداً لاذعاً لمفهوم المجتمع الاستهلاكي في عديد من مؤلفاته أهمها: مجتمع الاستهلاك 1970، ومرآة الإنتاج 1973، والتبادل الرمزي والموت 1976 وغيرها. وفي كتابه نظام الأشياء 1968 يصل إلى أن المجتمع سيطرت عليه أسطورة الاستهلاك المفرط إلى حد اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. وفي القسم الثاني من الكتاب حلل بودريار (النظام الاجتماعي – الإيديولوجي للاستهلاك وموضوعاته)، وهو يرى أن مواضيع الاستهلاك صارت اليوم أكثر تعقيداً من سلوك الناس المتعلق بها. فقيمة الأشياء لم تعد تتوقف على منفعتها، بل دخلت متغيرات أخرى إلى معادلة استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكّم الفعلي في فعل الشراء، فالسيارة التي يرغب الجميع في اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يعد الأمر متوقفاً فقط على الوظيفة التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال لقد تغيرت طبيعة الأشياء، حيث صار اقتناؤها منزوعاً من غائيته الأصلية ليدخل في مدار آخر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون السلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلك.

إنه السياق الاجتماعي العام الذي يندرج ضمنه تحليل بودريار، ففي عالم الاستهلاك والوفرة لم يعد أفراد المجتمع محاطين في نظره بعالم البشر أمثالنا، إنما بعالم الأشياء، وبحكم الإصرار الذي تمارسه وسائل الإعلام والدعاية أصبحنا نخضع لمنطق الطاعة بسبب عنصر التكرار والتعود، ففقدنا العلاقة بالآخر المثيل والمشابه إلى درجة أن هذه الأشياء التي تحكمها قيمة التبادل، والتي تعد ثمرة الجهد الإنساني تعمر أكثر منا.

وفي هذا الصدد يقول بودريار: (نحن محاطون بأشياء تُنتج بكميات هائلة، ويبدو كأنه ليس لها فائدة جلية. إن قيمتها لا تُستمد من وظيفيتها بل من معناها الثقافي. ليصبح فعل الاستهلاك حدثاً اجتماعياً. إن الحشود الأكبر والأكثر تكرراً التي نراها هي متسوقو صباح السبت، ونقوم بمحاكاة سلوكهم؛ لأن المحاكاة تعبر عن رغبتنا بالانتماء إلى القطيع. ونحن لا نتصرف على نحو متفرد، بحرية وباستقلالية وبأصالة، بل نعبر عن رغبة الجميع بأننا يجب أن نتسوق. إنها الراحة المحببة لذهنية القطيع، بالمقابل لا نرى جمهور الأفراد المنفصلين الذين يجلسون في المنزل ولا يشترون. إن حقيقة أن الاستهلاك جلي هكذا هي ما يجعلنا نفكر أنه عادي، لكنه ليس هكذا).

وتضع أعجوبة الاستهلاك كما يسميها بورديو جهازاً من الأشياء المخادعة والعلامات التي تشخّص السعادة أي تبشر بها، لتنظر بعد ذلك حصولها. إنه الإيمان بظاهرة الاستهلاك التي أصبحت ميراثاً للأجيال، حيث لم نعد نرث الخيرات فقط، إنما الحق الطبيعي في الوفرة والرخاء باعتباره نتيجة التقنية والتقدم، كما أن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري لم تمنحنا الحقيقة إنما وهم الحقيقة وظلّها، وأصبحنا نعيش بمعزل عما يجري في العالم من أحداث، في ظل شعور زائف بالأمن، لننعزل بذلك عن كل نشاط سياسي واجتماعي وثقافي عبر ما يسميه بودريار (براكسيس الاستهلاك)، ومنه تكتسي الاحتياجات صبغة فتيل أشعله السوق؛ لأنها ليست ضرورية أو حقيقة، وليصبح التبضع أو التسوق بذلك الأسلوب أو الشكل المعاصر في الحصول على السعادة، والنتيجة أنه تم اغتيال الواقع عبر إفراز واقع مضاد وإخفاء الصورة الحقيقية له عن طريق وسائل الميديا التي نجحت في تعبئة أذواق الأفراد بشكل تجاري عبر التحكم في أوقات فراغهم. بذلك تبدل نمط حياة الإنسان المعاصر، حيث كانت المجتمعات القديمة تنتج أساطيرها لتؤمن التحكم بأفرادها، وتحقق توازناتها في الداخل، ومع الخارج، بينما الفرد المعاصر اليوم وفي المجتمع الاستهلاكي يتحول إلى أسطورة، ولهذا فهو ليس بحاجة إلى إنتاج الأساطير حسب ما يؤكد بودريار: (فكل الوظائف والحاجات قد وضعت واستعملت لأغراض الربح وحسب، بل أيضاً بالمعنى الأعمق، حيث تمسح كل شيء، أي تبرمج وتدوزن في خيالات، في علامات، في نماذج قابلة للاستهلاك).

لقد أصبح مركز الاستهلاك هو الحياة اليومية التي تحولت فيها الممارسة من الشأن السياسي والاجتماعي لتصبح اهتماماً باليومي، وتختفي المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية لصالح المجال الخاص متمثلاً في العمل والأسرة وأوقات الفراغ، كما نجح الاستهلاك في أن يجعل الناس يشعرون بأمن زائف من خلال خلق كائن سلبي أي ذات سلبية تفتقر إلى الشعور بالذنب أو التقصير حينما تكون المخاطر والكوارث بعيدة عنها، وليصبح الفرد بذلك كائناً مطواعاً محايداً وهامشياً، ويترتب عن ذلك أن تصبح علاقته بما يجري من حوله علاقة فضول لا أكثر.

يقدم الاستهلاك نفسه على أنه السياق العام الذي يقضي ويقلّص من مجال التمرد والفردية والتميز ليقع الفرد في فخ التماهي مع الجماعة، ويكون جزءاً من القطيع، يمتثل لما يحدده المجتمع من مقاييس، وهو ما يظهر بجلاء في محاولته التّشبه بالمشاهير لينساق بذلك ضمن نمط يقرره المجتمع. إنه التنميط والقولبة. (بذلك يقوم الاستهلاك على فكرة التعميم وتوحيد كل الناس في قالب قيمي واحد وفق منظمة إيديولوجية تعمل على إكراه اجتماعي غير واعٍ هدفها فرض قيم وسلوكيات جديدة على الفرد وفق إكراه اجتماعي لا يعيه الفرد بل يذهب فقط إلى إشباع حاجاته وتحقيق رغباته وذلك باقتنائه للكماليات من أجل إشباع رغباته).

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024
http://shrsc.com

..........................................
مصادر واحالات
الاستهلاك المظهري تبعا لمجالاته وعوامله / ابتهال عبد الجواد كاظم
مجتمع الاستهلاك أو رَسْمَلَة القيم / عبدالإله بلقزيز
فلسفة جان بودريار في نقد المجتمع الاستهلاكي / حسام الدين فياض
الأبعاد الثقافية في دراسة الاستهلاك مع إشارة خاصة للدراسات العربية / منى السيد حافظ عبد الرحمن
ثقافة الاستهلاك المفهوم والقضايا النظرية / رويدة احمد محمد عيفة
نقد الاستهلاكية في الحياة الغربية – رقمنة الإنسان وفقدان الهوية / حميد لشهب

اضف تعليق