ان ما حصل للآن من دعوات سواء في عام 2020 أو الآن لا يعدو كونه ردود أفعال آنية وأنفعالية. في حين أن مثل هذا القرار يجب أن يكون مبني على خطة مدروسة تأخذ كل ما تقدم بنظر الأعتبار وتنفتح حِوارياً مع الأميركان لكي لا يبدو خروجهم بصيغة فوز-خسارة، بل فوز- فوز...

لم تكن الدعوة الأولى، ويقيناً لن تكون الأخيرة، تلك التي أطلقها السوداني قبل يومين، ومعه كثير من الفعاليات السياسية والأعلامية، لأخراج القوات الأمريكية من العراق. ففي مثل هذا التوقيت بالضبط من عام 2020 دعى رئيس الوزراء آنذاك (عبد المهدي) لاخراج القوات الأميركية بعد اغتيال الجيش الأمريكي للمهندس وسليماني قرب مطار بغداد. تلك الدعوة التي سبقتها وأردفتها دعوات أخرى أهمها قرار البرلمان العراقي في ك2 2020.

ولكي يكون واضحاً فأن وجود القوات الأميركية في العراق لا يستند قانونياً سوى الى دعوة حكومة المالكي لتلك القوات للعودة للعراق في عام 2014 بُعَيد أحتلال داعش للموصل، بعد أن كان آخر جندي أمريكي قد غادر العراق عام 2011 بناءً على الأتفاق المسمى أختصاراً SOFA والذي وقعته حكومة المالكي مع الأميركان في 17 ت2 عام 2008. بمعنى أن أخراج الأميركان من العراق، قانونياً لا يحتاج سوى الى طلب من الحكومة العراقية، ولا صحة لأي قول بأننا نحتاج الى ألغاء معاهدة أو أتفاقية أو أصدار قانون من البرلمان أو غير ذلك لكي يخرج الأميركان.

المسألة من الناحية القانونية والإجرائية بسيطة، وواضحة جداً. وكل الشواهد التاريخية تدل أن الأميركان سيستجيبون للطلب العراقي وينسحبون، بدليل أنهم أنسحبوا حين كان لديهم أكثر من 100 ألف جندي ومئات الطائرات والأسلحة المنتشرة في عشرات القواعد العسكرية في الفترة بين توقيع أتفاق SOFA ومغادرة آخر جندي أمريكي.

علماً ان العراق كان مازال خاضعاً للبند السابع ولولاية المحتل الأمريكي آنذاك، فما بالك اليوم وليس هناك أي غطاء قانوني ودولي لوجودهم الذي لا يتعدى بضع آلاف من الجنود الموجودين في قاعدتين أو ثلاث فقط؟! كل ما نحتاجه أذاً هو القرار الحكومي، لكن السؤال الذي ينبغي طرحه من قبل الأستراتيجيين في العراق-أن وُجدوا- هو: ما هي الآثار الأستراتيجية المترتبة على ذلك القرار الحكومي العراقي؟!

للجواب على ذلك لا بد من القول أن أميركا ستخسر كثيراً من الناحية الأستراتيجية أذا أنسحبت من العراق. وقد تكون خسارتها (العسكرية) أقل مقارنةً بالنتائج الأخرى لأن أميركا تمتلك أكثر من قاعدة عسكرية في المنطقة وجميعها تمكّنها (جغرافياً وعملياتياً) من أستخدام قواتها الجوية وحتى البرية في وقت قصير جداً سواء في العراق أو سواه من سوح القتال في المنطقة ودون الحاجة لقواعد في العراق.

فمن الناحية العسكرية أذاً، لن تكون هناك خسارة أستراتيجية كبرى للجيش الأمريكي أذا خرج من العراق. لكن المعنى السياسي والجيوبولتيكي لخروج القوات الأمريكية من العراق يعني الكثير للأميركان. أنه يعني ببساطة أعلان رسمي لخسارتهم في مواجهة خصمهم الأستراتيجي في المنطقة (ايران) وترك فراغ لا بد من ملئهِ من قبل خصوم أميركا الأستراتيجيين بما فيهم روسيا والصين.

كما يعني أن كل ما أستثمره الأميركان في العراق من دماء، وأموال طائلة، وقوة ناعمة طيلة 21 سنة قد تم تقديمها على طبق من فضة لخصوم أمريكا.هذا فضلاً عن أن الجسر البري، الذي تخشاه أمريكا و(أسرائيل) من طهران للمتوسط سيكون متاحاً بلا أي مشاكل ومعوقات.

لاحظوا أني لم أذكر أحد أهم الخسارات الأستراتيجية لأميركا كما يصفها أستراتيجيوها (أي أمكانية محاربة داعش) لأني أعلم أن معظم القراء يخالفوني الرأي ويعتقدون أن الأخيرة هي صنيعة أمريكية.

أما على الصعيد العراقي، وهو الأهم لنا فيجب أن نعي الآثار الأستراتيجية الكبيرة المترتبة على أنسحاب الأميركان بهذه الطريقة التي سينظرون لها بطريقة مختلفة تماماً عن زاوية نظرنا وتقويمنا للموضوع . فبُعَيد مطالبة عبد المهدي والبرلمان العراقي بخروج (طرد) الجيش الأمريكي عام 2020 ثارت ثائرة ترامب وهدد بعقوبات أمريكية قاسية على العراق لأستعادة ما أستُثمر في العراق(حسب تصوره). صحيح أن بايدن ليس ترامب، لكن لا تنسوا أنها سنة أنتخابية وأن أبرز ما يُنتقد به بايدن من قبل خصومه وبالذات ترامب والجمهوريين الذين يسيطرون على الكونغرس أنه ضعيف. لذا فيجب توقع الأسوأ من الأدارات الأميركية في مثل هذه الظروف. لكن، ما هو الأسوأ الذي يجب توقعه؟

عسكرياً، فقد تمت أعادة بناء الجيش العراقي وتدريبه وتسليحه بموجب العقيدة العسكرية الأميركية. كما أنه يعتمد بشكل شبه مطلق على المعلومات الأستخبارية الأميركية بخاصة في مواجهة داعش. قد يقول قائل أن جيشنا يمكنه العودة للعقيدة والتسليح الروسيَين. ان ذلك ممكن حقاً، لكنه يتطلب قرار عسكري أستراتيجي يأخذ بنظر الأعتبار كثير من المحددات والزمن الذي يتطلبه مثل هذا التحول، والآثار المترتبة على ذلك. أما من الناحية الاقتصادية فعلى الرغم من أستبعاد أمكانية تأثر أستثمارات البنك المركزي العراقي في المشتقات النقدية الأميركية، الا أنه يجب أن نعي أن هناك أموال عراقية بقيمة 7-9 مليار دولار محمية بمرسوم رئاسي أمريكي يُجدد سنوياً منذ عام 2003 تستحق لدائنين دوليين حالما لا يتم تجديد هذا المرسوم. كما أن أمريكا تمتلك سلاح الدولار ذي الدمار الشامل على الاقتصاد العراقي، أذا ما تم أستخدامه ضد العراق ضمن حزمة عقوبات أميركية كما يحصل مع ايران.

أما من الناحية السياسية فسيتم حتماً تصنيف العراق ضمن محور الصين-روسيا-ايران بكل ما يحمله ذلك من تبعات سياسية ليس أقلها موقف المعسكر الغربي من العراق. هنا يبدو من الأهمية الأشارة الى موقف الأمم المتحدة ومنظماتها في العراق. لن أتحدث هنا عن البرامج الأغاثية والأنسانية (وهي مهمة) لتلك المنظمات،لكني أشير الى قرار مجلس الأمن 2682 في (2023)، والذي جدد وحدد مهمات يونامي في العراق والتي تأسست عام 2003. وبناءً على المراجعة الدورية لحالة العراق من قبل مجلس الأمن في شهر أيار القادم فعلينا تصور ما سيتضمنه تقرير يونامي وما سيترتب عليه.

أخيراً سيبرز سؤال مهم جداً أذا ما طلبت حكومة العراق أنسحاب القوات الأمريكية. ففي الوقت الذي لا أشك فيه أن ذلك سيحدث في القواعد الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية وجيشها، لكن ماذا عن قواعد أميركا في كوردستان والتي تتواجد فيها حالياً القوات الأمريكية؟ هل ستستجيب حكومة الأقليم وتطلب من الجيش الأمريكي المغادرة؟! منطقياً، يبدو ذلك مستبعداً جداً. هنا علينا دراسة النتائج المترتبة سياسياً،وعسكرياً وجيو أستراتيجياً على بقاء تلك القوات في الأقليم وهل أن بغداد مستعدة لتحملها؟!

الخلاصة، فأن من السهل جداً أجرائياً، وقانونياً، وأعلامياً طلب أنسحاب القوات الأميركية من العراق، لكن لذلك الطلب ثمن، فهل أن بغداد وشعب العراق جاهزين لدفع ذلك الثمن؟ أنها ليست دعوة لعدم خروج القوات بل دعوة لعدم خروج الأصوات قبل مرورها بعقول الثقاة. أن ما حصل للآن من دعوات سواء في عام 2020 أو الآن لا يعدو كونه ردود أفعال آنية وأنفعالية. في حين أن مثل هذا القرار يجب أن يكون مبني على خطة مدروسة تأخذ كل ما تقدم بنظر الأعتبار وتنفتح حِوارياً مع الأميركان لكي لا يبدو خروجهم بصيغة فوز-خسارة، بل فوز- فوز للطرفين العراقي والأمريكي.

..........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق